أكرم الله عباده بمواسم وأوقات يستطيعون فيها أنْ ينالوا أفضل الزاد وأكرمه وأحسنه، مع أنها قصيرة في الزمن، ثم علَّمهم سبحانه كيف يغتنمون هذه المواسم والأوقات ليتحصلوا منها على خير الأزواد وأبركها،
حين زهد قوم في التزود بالطعام لأسفارهم توهماً منهم أنَّ ذلك تقللٌ من الدنيا وتوكلٌ على الله تعالى؛ أمرهم القرآن بالكف عن هذا الفعل، فقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. والتزود حمْل طعامٍ ومالٍ يكفيان المسافر حتى يصل إلى مستقره.
لكنه تعالى ذكَّرهم بالتزود للآخرة، فإنَّ الطريق إلى الآخرة طويل، ويحتاج المسافر فيه إلى زاد يكفيه ويوصله إلى مبتغاه، ولا زاد يكفي في طريق الآخرة إلا التقوى؛ فهي خير الأزواد وأجلُّها وأعظمها، وهي التي ترفع الإنسان في درجات الجنة وتنجيه من الانزلاق في دركات النار، بعد رحمة الله وتوفيقه. قال السعدي: «وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى، الذي هو زادٌ إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجلِّ نعيمٍ دائمٍ أبداً، ومَن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين»[1].
وقد أكرم الله عباده بمواسم وأوقات يستطيعون فيها أنْ ينالوا أفضل الزاد وأكرمه وأحسنه، مع أنها قصيرة في الزمن، ثم علَّمهم سبحانه كيف يغتنمون هذه المواسم والأوقات ليتحصلوا منها على خير الأزواد وأبركها، ويأتي على رأسها شهر رمضان المبارك، وهذا ما جعل نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «رغم أنف رجلٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أنْ يغفر له»[2]. إذ كيف للإنسان أنْ يَرد الماء الزلال ثم يشرب على القذى؟ وكيف للإنسان أنْ يزهد في صفقة سريعة الأرباح عظيمة المغانم لأجل متعة يمكن تأجيلها ومكاسب ربما لا يدركها؟ ألا يستحق هذا أنْ يكون راغم الأنف قليل الحظ غبي التوجُّه؟
شهر استثنائي:
وقد أراد الله تعالى قَدَراً وشرعاً أنْ يكون رمضان شهراً استثنائياً من بين الشهور.
فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن العظيم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١]، ففيه نزل كتاب الله تعالى كاملاً إلى السماء الدنيا، قال ابن عباس: «أُنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا بأمر»[3]. فاختار الله تعالى شهر رمضان ظرفاً زمانياً لنزول القرآن.
بل هو الشهر الذي كانت تنزل فيه الكتب الإلهية على الأنبياء؛ فعن واثلة بن الأسقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لِستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأَنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»[4]. ولذلك عظم شرف رمضان، فتأمل اقترانه بتنزل الوحي الإلهي على مدار العصور والقرون، واختلاف الأمم والبقاع.
وهو الشهر الذي فرض الله صيامه على هذه الأمة، بل فرض صيامه على جميع الأمم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، قال البيضاوي: «يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام»[5]. فتأمل اقتران هذا الشهر العظيم بعبادة الصيام على مدار العصور والقرون، واختلاف الملل والشرائع.
وهو الشهر الذي تتغير فيه بعض معالم الخلق المعهودة، كرامةً من الله للمؤمنين به القائمين بحقه، فتغلق أبواب نار جهنم، وتفتح أبواب الجنة، وتقيد الشياطين فلا يستطيعون كيداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»[6].
قال أبو العباس القرطبي: «ويصح حمله على الحقيقة، ويكون معناه: أنَّ الجنة قد فتحت وزخرفت لمن مات في شهر رمضان؛ لفضيلة هذه العبادة الواقعة فيه، وغلقت عنهم أبواب النَّار؛ فلا يدخلها منهـم أحدٌ مات فيه. وصفدت الشياطين: غُلَّت وقيدت، وذلك لئلا تفسد الشياطين على الصائمين. وقيل: إنَّ فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار علامة على دخول هذا الشهر العظيم للملائكة وأهل الجنة؛ حتى يستشعروا عظمة هذا الشهر وجلالته.
ويحتمل أنْ يقال: إنَّ هذه الأبواب المفتحة في هذا الشهر: هي ما شرع الله فيه من العبادات والأذكار والصلوات والتلاوة؛ إذ هي كلُّها تؤدي إلى فتح أبواب الجنة للعاملين فيه، وغلْق أبواب النار عنهم. وتصفيد الشياطين: عبارة عن كسر شهوات النفوس التي بسببها تتوصل الشياطين إلى الإغواء والإضلال»[7].
إنَّ الكون في شهر رمضان يتسق مع فضائله، ويرسم لوحة معنونة بالرحمة؛ الرحمة التي بها تفتح أبواب الجنة وتغلـق أبواب النار وتصفـد الشياطين، والرحمة التي بها يتراحم الناس بينهم فيحنون على بعض ويجودون على بعض وتفيض أرواحهم لطفاً وسكينة وعطفاً أكثر مما كانوا عليه قبل رمضان.
فأي منحة أعظم وأي كرامة أَجَلُّ وأيُّ أرباح أيسر من دخول رمضان عليك وأنت صحيح معافى؟
وأي فرصة أكبر للاستزادة من الأجور والاستكثار من الحسنات والفوز بالمغفرة الإلهية والسعادة الأبدية من هذه الأيام المعدودات؟ لذلك قال الله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. قال البيضاوي: «فَلْيستجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة؛ كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم. واعلم أنه تعالى لَـمَّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثّاً عليه»[8].
وكما أراد الله تعالى شهر رمضان شهراً استثنائياً بين شهور العام، فإنَّ الواجب على المؤمن أنْ يجعله شهراً استثنائياً في عامه، فيتخذَ له برنامجه الخاص بهذا الشهر، البرنامج الذي يحقق فيه إرادة الله الشرعية، ويحقق فيه مقصود الصيام الأعظم وهو التقوى؛ إذ لا ينبغي أنْ يدخل شهر رمضان على المؤمن، ثم ينقضي دون أنْ يترقى فيه، ودون أنْ يكون له برنامجه الخاص فيه، والذي يتفرد فيه عن سائر الشهور. والمغبون هو من تُعرض عليه الهدايا والأرباح الكثيرة في وقت وجيز؛ ثم هو ينشغل عنها ويزهد فيها، ولا يبذل من جهده ووقته شيئاً لنيلها والتزود منها.
والتقوى مقصود الصيام، فالغاية من هذا الشهر بكل فضائله وأعماله أنْ يتحصل المؤمن على التقـوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
والتقوى أمر قلبي يفيض على السلوك فيظهر عليه، ذلك أنَّ التقوى هي دخول القلب في إجراء إصلاحي يتهذب بها وتصلح أحواله ويجتمع همه على مراد الله تعالى، ويلقي عن القلب تلك الشوائب والعلائق التي حالت بينه وبين رؤية أنوار الوحي، ويزيل عنه ما استطاع من العوائق التي أعاقت سيره إلى الله، فيستحيل هذا الإجراء الإصلاحي القلبي إلى سلوك صالح وعبادات خالصة وقربات متقبلة.
والتقوى هي استقامة القلب على التوحيد، وإقبال النفس على الله، والهروب من فِخاخ الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء، ودوام المجاهدة الروحية والتوبة النصوح.
فكيف يصبح الإنسان في شهر رمضان بهذه التقوى المأمولة؟
الجواب – بلغة سهلة – أنْ يكون في شهر رمضان أكثر تعبداً لله تعالى من غيره من الشهور، فيزيد في طاعاته لله كمّاً ونوعاً بالقدْر الذي يجعل شهر رمضان بالنسبة إليه شهراً مختلفاً عن سائر الشهور قبله، فإذا كان مقصِّراً في الصلاة المفروضة قبل رمضان أصلح ذلك القصور في رمضان، وإذا كان منضبطاً في أدائها في الجماعة قبل رمضان جاهد نفسه في التبكير إليها فيه، وإذا كان مفرطاً في السنن الراتبة قبل رمضان أتمها فيه، وإذا كان متصدقاً قبل رمضان زاد من صدقاته وإحسانه فيه، وإذا لم يكن منضبطاً في تلاوة القرآن قبل رمضان داوم على قراءته فيه في كل يوم، وإذا كان له وِرْد يومي من القرآن قبل رمضان زاد ورده فيه… وهكذا في سائر العبادات، وهذا مقتضى التقوى.
ثم هو يعمد إلى ثلاث عبادات في رمضان سوى الصيام فيجعلها في أولويات أعماله، ويمحـور عليها برنامجه اليومي، ويلتزم بالمواظبة على أدائها، باعتبارها الثمن الذي عقده مع الله تعالى في الفوز بالمغفرة الرمضانية:
أولها: تلاوة القرآن: سواء كان ذلك في صلاة أم خارجها، وسواء كان ذلك غيباً أم قراءة من المصحف، وسواء كان ذلك حدراً أم بترسل؛ فإنَّ شهر رمضان هو شهر القرآن.
وثانيها: قيام الليل: سواء كان ذلك في صلاة التراويح أم بغيرها، وسواء كان ذلك جماعة أم منفرداً؛ فإنَّ ليالي رمضان مباركة معظمة.
وثالثها: الإكثار من الدعاء في أوقات الإجابة وغيرها: فإنَّ الله ذكر الدعاء في آيات الصيام احتفاءً بذلك، ولأنَّ النفس المتعبِـدة في رمضان تكـون أقرب إلى الله تعالى؛ فمن المعيب أنْ تفوِّت على نفسك طلب حاجاتك بين يدي الكريم.
فهذه ثلاث عبادات جاءت النصوص بالتصريح بفضلها في شهر رمضان، فقل لي بربك: هل ثمة هدي خير من ذلك يقربك من الله ويرفع درجاتك ويصلح نفسك ويهذب روحك؟
وفي الجانب الآخر؛ على الصائم أنْ يحجم عن الخطايا في رمضان بأكثر من إحجامه قبلها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقِ المحارم تكن أعبد الناس»[9]. ومن التقوى في رمضان أنْ يقلل جداً من التعرض لمواطن الخطيئة كمواقع التواصل الاجتماعي والأسواق ومجالس اللغو، وأنْ يكبح جماح النفس عن ورود تلك المواطن، فإنَّ هذا من التقوى التي يتربى عليها المؤمن في رمضان.
ترميم الذات:
بينما الإنسان يسعى في هذه الدنيا لاهثاً خلف لعاعتها، مستكثراً من ملذاتها، وقد تمزقت همومه وتشعبت روحه في أوديتها، فناله من الأذى والتشوهات التي تفسد عليه آخرته وتشرخ صروح الإيمان في صدره، بينما هو كذلك إذْ هلَّ هلال رمضان مؤذناً بالعودة إلى الذات وترميمها وإصلاح ما تكسر منها، من خلال عدد من المقاصد التربوية التي يصنعها رمضان الصائمين، والتي بها نستطيع القول بأنَّ مقصد التقوى تحقق في المؤمنين.
المقصد الأول: ضبط النفس، وأطرها على ما ينفعها، وسوقها إلى ما تمليه المصلحة الشرعية:
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْـخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْـخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْـمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
فالصائم يجتنب شهوة الأكل والشرب والنكاح في نهار رمضان، اجتناباً حازماً ومحدداً بوقت، وهو يستطيع خرق هذا الامتناع دون علم أحد، إلا أنَّ شعور التعبد لله يلجمه عن اقتراف الممنوع، فهو في الحقيقة يفعِّل نظام المراقبة الداخلية في نفسه، ويجعل من نفسه على نفسه رقيباً حازماً، وهذا معنى عظيم من معاني التقوى، قال ابن القيم: «إنَّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته»[10].
ثلاثون يوماً يتعود فيها المؤمن على الالتزام الموقوت بعدد من العبادات: الصلوات المفروضة وقيام الليل والصيام والإفطار والدعاء وتلاوة الورد القرآني وسماعه خلف الإمام، وما يتبع ذلك من العادات كأوقات التزين والتطيب والنوم والراحة ونحوها.
أنت في معسكر تربوي تتدرب فيه على الانضباط والالتزام. وتلك فضيلة إسلامية سامية.
المقصد الثاني: تأجيل الرغبات وقوة الإرادة:
فإنَّ النفس تميل إلى تلبية رغباتها فوراً، وذلك حين تظن أنها محتاجة إلى ذلك، فتميل إلى صنوف الطعام والشراب والنكاح واللهو والراحة والاسترخاء وتناول المحبوبات. لكنها حين يدخل شهر رمضان عليها، فإنَّ أولوياتها تختلف، فتزدحم الواجبات مع الرغبات، فلا تجد نفسُ المؤمن مناصاً من تأجيل الرغبات إلى حين الإفطار، أو إلى ما بعد رمضان، أو بعبارة أجمل: لا تجد مناصاً من تأجيل الرغبات إلى بعد إتمام الواجبات، لأنها مشغولة بواجبات مؤقتة فورية لا يصلح معها التأجيل، كالصوم وقيام الليل والتزامات الورد القرآني والدعائي ونحوهما.
ويتعود المؤمن شهراً كاملاً على هذه الفضيلة النفسانية، فتتقوى إرادته، حتى تكاد أنْ تكون مَلَكَة فيه، لا سيما إذا استمر على هذه الفضيلة بعد رمضان، ويكون بذلك استطاع – بتوفيق من الله – أنْ يخرج من رمضان بتربية ذاتية جيدة.
المقصد الثالث: الخلوة بالله تعالى:
فإنَّ الخلوة دواء القلوب والأرواح، ومفتاح الولوج على ساحة الكريم سبحانه، لا سيما في الليل، وقد جعلها ابن القيم رحمه الله واحدة من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، فقال: «الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه. ثم ختْم ذلك بالاستغفار والتوبة»[11].
والخلوة وقت يخصصه المؤمن للانفراد بنفسه، بغية ذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه، وطلبه الحاجات المختلفة، والبكاء على اقتراف الذنوب والتفريط في الكثير من الطاعات، والتفكر في المآل ووحشة القبر وأهوال الآخرة، والإقرار بين يدي الله بضعفك ومحبتك له وخشيتك منه وتعظيمك له.
هذا الوقت له مفعول عجيب في تهذيب النفس وإصلاح تشوهاتها وكسر غرورها ونبذ أوهامها ووقوفها على الحقائق، ولذلك شرع الله تعالى الاعتكـاف في عشر رمضان الأخيرة في المسجد، ولو بعضها، ولو بعض الوقت فيها، فإنَّ رمضان هو أفضل وقت لهذه الخلوة.
وأما من لم يتمكن من الاعتكاف فلا أقل من أنْ يجعل لنفسه في بيته ساعة يخلو فيها متعبداً متفكراً متخشعاً باكياً مطرقاً رأسه ذاكراً وتالياً.
والخلوة جزء من رياضة الروح التي مارسها الناس منذ القدم، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يفته هذا التحنث قبل نزول الوحي عليه، فلما جاء الإسلام أرشدنا إلى الطرق المشروعة في الخلوة بالله.
المقصد الرابع: تنقية الروح والبدن من الآفات ومداواتهما من الأسقام:
فالإمساك عن الطعام والشراب مفيد للبدن، وقد قال طبيب العرب الحارث بن كلدة: «الأزم دواء» يعني الإمساك عن الطعام والشراب[12]، فجعل الله لنا برنامجاً كثيفاً ومتوالياً في الحِمْية الغذائية، رحمة بأجسادنا التي أنهكناها بتخليط الطعام والشراب، وبما ينفعها وما يضرها.
كما أنَّ الإمساك عن الطعام والشراب مفيد للروح في دفعها نحو التخشع والتفكر والتدبر والارتقاء من الثقلة الأرضية إلى المدارج العلوية، وسيكون لهذا الإمساك المشروع تأثير نافع في عبادات المؤمنين في شهر رمضان؛ في تلاوتهم لكتاب الله وقيامهم الليل ودعائهم واعتكافهم.
قال ابن القيم: «الصوم جُنة من أدواء الروح والقلب والبدن، منافعه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعاً، وحاجة البدن إليه طبعاً.
ثم إنَّ فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره، وهي تفريحه للقلب عاجلاً وآجلاً، وهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة، وله تأثير عظيم في حفظ صحتهم.
وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعاً وشرعاً، عظم انتفاع قلبه وبدنه به، وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعد لها، وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه، ويحفظ الصائم مما ينبغي أنْ يتحفظ منه، ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية، فإنَّ القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب، وهو اجتماع القلب والهم على الله تعالى، وتوفير قوى النفس على محابِّه وطاعته»[13].
المقصد الخامس: تذكُّر الجائعين والمحتاجين:
فإنَّ الصائم يصيبه ما يصيبهم، إلا أنَّ الصائم يصيبه ذلك اختياراً، وهم يصيبهم اضطراراً، والصائم جوعه مؤقت، وينتهي عند غروب الشمس، بينما هؤلاء لا يتوقف جوعهم إلا حين يجدون ما يطعمونه بطونهم.
وهذا التذكير مما يحتاج إليه الناس، فإنَّ الغفلة تفشت في العالم المادي اليوم، وما أسرع ما ينسى الناس مآسي إخوانهم، والشريعةُ لا تحب هذا النسيان، ولذلك فإنَّ جزءاً من العبادات تذكرنا بإخواننا الذين مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، ومنها الصيام وزكاة الفطر.
وينبغي أنْ يتحول تذكر أحوالهم إلى ترجمة عملية، من خلال شكر الله تعالى على نعمته علينا أولاً، ودوام الثناء عليه والاعتراف بفضله وكرمه، ومن خلال بذل المعروف لهم وإغاثة ملهوفهم ونجدة منكوبهم والشعور بواجب الأخوة نحوهم ثانياً، ومن خلال الدعاء الدائم لهم في أوقات الإجابة أنْ يكون الله تعالى لهم نصيراً وظهيراً، وأنْ يسد فاقتهم ويقضي حاجتهم ويؤمِّن خوفهم ويكسو عاريهم ويطعم جائعهم ويسقي ظمآنهم ويشفي مريضهم. وهذا – والله – هو النُبل الذي يصنعه رمضان في المتعبدين، قال السعدي: «ومنها: أنَّ الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجبَ له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى»[14].
ونحن اليوم نرى إخوة الإسلام في كثير من البقاع بحاجة إلى دعائنا المستمر لهم، فهل نعجز عن ذلك؟
هذه المقاصد التربوية في شهر رمضان، وإذا تحققت في المؤمن – بأنْ يجتهد في تنميتها ومجاهدة النفس على تكميلها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً – يكون قد استفاد استفادة عظيمة، وحصل له التغيير الإيجابي المطلوب.
وهكذا يكون شهر رمضان محطة للتزود الإيماني والروحي اللازم، ويكـون برنامجاً سـنوياً للتربية الذاتية، وبه تتحقق مقاصد الصيام التي لخصتها الآية بحصول التقوى.
[1] تيسير الكريم الرحمن: 1/184.
[2] سنن الترمذي: 5/550، (3545).
[3] تفسير الطبري: 3/447.
[4] مسند الإمام أحمد: 28/191، (16984)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1575).
[5] أنوار التنزيل: 1/123.
[6] صحيح البخاري: 4/123، (3277).
[7] المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم: 3/136.
[8] أنوار التنزيل: 1/125.
[9] سنن الترمذي: 4/551، (2305).
[10] زاد المعاد: 2/27.
[11] مدارج السالكين: 3/18.
[12] زاد المعاد: 4/108.
[13] زاد المعاد: 4/307.
[14] تيسير الكريم الرحمن: 1/136.
___________________________________________________________
الكاتب: فايز بن سعيد الزهراني
Source link