منذ حوالي ساعة
“إنَّ مِن واجبات الإيمان ولوازمه محبةَ الله – تعالى – ومحبَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين”
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين – أما بعدُ:
فإنَّ مِن واجبات الإيمان ولوازمه محبةَ الله – تعالى – ومحبَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين – ومحبة ما يُحبه الله ورسوله من الإيمان والعمل الصالح وتوابع ذلك، وبغض ما يبغضه الله ورسوله من الكفْر والشرك والفسوق والمعاصي، وبُغض أعداء الله ورسوله من الكفرة والمشركين، واليهود والنصارى، والعصاة والملحدين، فالحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، أوثَقُ عُرى الإيمان وأحب الأعمال إلى الله تعالى، والمرءُ مع من أحب يوم القيامة، كما وردت السنة بذلك، فمحبة الله – تعالى – ورسولهصلى الله عليه وسلم مُقَدَّمة على محبة الأولاد والأموال والنفوس؛ قال الله – تعالى -: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ومِن لازم محبَّة الله ورسولِه عداوةُ المشركين والكافرين، وقد أوجب الله ذلك، وحرم موالاتهم وشدد فيها، ورتَّب على موالاة الكافرين سخطه والخلود في العذاب، وأخبر أن ولايتهم لا تحصل إلا ممن ليس بمؤمن، وأما أهل الإيمان بالله وكتابه ورسوله، فإنهم لا يُوالونهم، بل يعادونهم، كما أخبر الله عن خليله إبراهيم والذين معه أنهم: {قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال – تعالى -: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
فنهى الله – سبحانه وتعالى – المؤمنين أن يوالوا اليهود والنصارى، وذكر أن مَن تولاَّهم فهو منهم؛ أي: مَن تولَّى اليهود فهو يهودي، ومَن تولَّى النصارى فهو نصراني، وكذلك من تولى المشركين فهو مشرك، ثم أخبر – تعالى – أن الذين في قلوبهم مرض؛ أي: شك في الدين وشبهة، يسارعون في الكفر قائلين: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَاِئرَةٌ} ؛ أي: إذا أنكرت عليهم موالاة الكافرين قالوا: نخشى أن تكون الدولة لهم في المستقبل، فيتسلَّطون علينا، فيأخذون أموالنا، ويشردوننا من بلداننا، وهذا هو ظن السوء بالله، الذي ظنه المنافقون؛ لأنه ظنّ غير ما يليق بالله وحكمته ووعده الصادق، وقد قال الله فيهم: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]،
فإذا كان الله – سبحانه وتعالى – قد نهى المؤمن عن موالاة أبيه وأخيه اللذين هما أقرب الناس إليه، إذا كان دينهما غير الإيمان، وبيَّن أن الذي يتولى أباه وأخاه إذا كانا كافرين، فهو ظالم، فكيف بِمَن تولى الكافرين الذي هم أعداء له ولآبائه ولدينه؟ أفلا يكون هذا ظالمًا؟
بلى والله، إنه لمن أظلم الظالمين، وبين – تعالى – أن المحبوبات الثمانية المتقدِّمة، وهي: الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة، والأموال المكتسبة، والتجارة، والمساكن، لا تكون عذرًا في موالاة الكافرين، فليس لأحد أن يواليهم خوفًا على أبيه أو أخيه أو بلاده أو ماله أو عشيرته أو مخافته على زوجاته، فإن الله قد سدَّ على الخلق باب الأعذار، فمحبة الله ورسوله توجِب إيثار عداوة المشركين ومقاطعتهم على هذه الثمانية، وتقديمها عليها، وقال – تعالى -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
فتبيَّن أنَّ موالاة المسلم للكافر سبب الافتتان في الدِّين، بترْك واجباته، وارتكاب مُحرماته، والخروج عن شرائعه، وسبب الافتتان في الأديان والأبدان والأموال، وقال – تعالى -: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89]، فأخبر – تعالى – عن الكفار: أنهم يودون كفر المسلمين كما كفروا، ثم نهى أهل الإيمان عن موالاتهم، حتى تحصل منهم الهجرة بعد الإسلام.
وكيف يدَّعي رجل محبة الله، وهو يحب أعداءه كما قيل:
أَتُحِبُّ أَعْدَاءَ الحَبِيبِ وَتَدَّعِـــــــي *** حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي إِمْــــكَــانِ
شَرْطُ المَحَبَّةِ أَنْ تُوافِقَ مَنْ تُحِبْ *** بُ عَلَى مَحَبَّتِهِ بِلا عِصْيَـــانِ
فَإِذَا ادَّعَيْتَ لَهُ المَحَبَّةَ مَعْ خِــــلا *** فِكَ مَا يُحِبُّ فَأَنْتَ ذُو بُهْتَـانِ
فالحب في الله والبغض في الله أصلٌ عظيم من أصول الإيمان؛ ولهذا جاء في الحديث: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله» [1]، ولذلك أكثر الله من ذِكره في القرآن؛ قال – تعالى -: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]،
فنهى الله المؤمنين أن يوالوا الكافرين، ومَن يفعل ذلك فليس من ولاية الله في شيء، فإن موالاة الولي ومُوالاة عدوه متنافيان؛ {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، فرخَّص في موالاتهم إذا خافوهم، فلم يُحسنوا معاشرتهم إلا بذلك، وكانوا مقهورين لا يستطيعون إظهار العداوة لهم، فحينئذٍ تجوز المعاشَرة ظاهرًا، والقلب مطمئن بالإيمان والعداوة والبغضاء للكافرين؛ كما قال – تعالى -: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال – تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، فنفى – سبحانه وتعالى – الإيمان عمن هذا شأنه، ولو كانت مودته ومحبته لأبيه وأخيه وابنه، فكيف بغيرهم؟ أخبر – سبحانه – أنه لا يوجد مؤمن يوادُّ كافرًا، فمَن واد الكفَّار فليس بمؤمن.
وحاصل ما تقدَّم: أن الله – سبحانه وتعالى – نهى عن موالاة الكفار، وأخبر أنَّ مَن توَلاهم فهو منهم، وأخبر النبيصلى الله عليه وسلم: «أنَّ مَن أحب قومًا حُشر معهم».
ويُفهم مما تقدَّم مِن أدلة الكتاب والسنة والآثار عن السلف أمور مَن فعلها تعرَّض للوعيد بمسيس النار:
أحدها: التولِّي العام.
الثاني: المودَّة والمحبَّة الخاصة.
الثالث: الرُّكون القليل؛ قال – تعالى -: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74، 75]، فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق – صلوات الله وسلامه عليه – فكيف بغيره؟!
الرابع: مداهنتهم ومداراتهم؛ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
الخامس: طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون، كما قال – تعالى -: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
السادس: تقريبهم في الجلوس.
السابع: مشاورتهم في الأمور.
الثامن: استعمالهم في أمْر مِن أُمُور المسلمين إمارة أو عمالة أو كتابة أو غير ذلك.
التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
العاشر: مُجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم.
الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة.
الثاني عشر: الإكرام العام.
ثالث عشر: استئمانهم وقد خونهم الله.
رابع عشر: معاونتهم في أمورهم، ولو بشيء قليل؛ كـ”بري القلم”، و”تقريب الدواة والقرطاس” ليكتبوا ظلمهم.
خامس عشر: مناصحتهم.
سادس عشر: اتباع أهوائهم.
سابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم.
ثامن عشر: الرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتَّزَيِّي بزيهم، فإن مَن تشبه بقوم فهو منهم[2].
تاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيمٌ لهم؛ كتسميتهم سادات وحكماء.
العشرون: السُّكنى معهم في ديارهم؛ كما قالصلى الله عليه وسلم: «مَن جامع المشركين وسكن معهم، فإنهم مثلهم» [3]، فجعل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مَن اجتمع معهم وخالَطهم وسكن معهم مثلَهم، فكيف بِمَنْ أظهر لهم الموافقة على دينهم وآواهم وأعانهم[4]؟ اللهُم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتَدين.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] رواه الطبراني في “الكبير” عن ابن عباس.
[2] كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.
[3] رواه أبو داود.
[4] انظر: “مجموعة التوحيد“، ص 186 – 187.
Source link