هذا شهرُ عمارةِ المِحراب، هذا زمانُ حضورِ الألباب، هذا أوانُ تلاوةِ الكتاب، للمتقين فيه على الباب، كل وقتٍ زحام. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
إليكم قطعة رمضانية بديعة لابن الجوزي، نقدمها بين يدي شهر رمضان المبارك[1] من كتاب “التبصرة”، وهذه القطعة سقطت من الطبعة الكاملة الوحيدة لكتاب “التبصرة”، والتي نشرتْها دار السلام بالقاهرة.
يا مَنْ طول سَنتِه قد نام.
انتبِهْ لهذه الأيام.
واحذرْ غفلةَ الطَّغَام[2].
وخُذْ قدْرَ البُلْغةِ مِنَ الطَّعام.
واسمعْ قولَ الملِكِ العلَّام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
يا مريضًا لا يَقبَلُ مِنْ طبيبه.
هذا شهرُ الحِميةِ قد جاء لتهذيبه.
صُنْ لسانَك عن الغيبةِ[3]، فكم تهذي به!
فـ “الصوم لي وأنا أجزي به”.
ولكن أين الصُّوَّام[4]؟
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
هذا شهرُ عمارةِ المِحراب.
هذا زمانُ حضورِ الألباب.
هذا أوانُ[5] تلاوةِ الكتاب.
للمتقين فيه على الباب.
كل وقتٍ زحام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]
شهرٌ فيه تُكَفُّ النفوس.
كأنها في حُبوس.
وتظمأ الشفاهُ عن الكؤوس.
وتُطرِقُ مِنَ الخشيةِ الرؤوس.
عن النظر الحرام[6].
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]
شهرٌ يملأ المساجد.
ويَخشع فيه الراكعُ والساجد.
ويَنهضُ إلى الخيرِ كلُّ قاعد.
ويصيرُ الراغبُ كالزاهد.
مِنْ قِلَّةِ الطعام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
شهرُ التعبُّدِ والتراويح.
شهرُ السَّهرِ والمصابيح[7].
شهرُ المَتجر الربيح.
شهرٌ يُترَكُ فيه القبيح.
وتُهجَرُ الآثام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
فيه تصحُّ[8] الأمور.
فيه تُراقُ الخمور.
فيه تتعطل الزُّمور.
فيبطُلُ معبدٌ وزنام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
فيه تُغلُّ الشياطين.
فيه يُعرَفُ قدْرُ[9] الدِّين.
فيه يَتشبَّه المسيءُ بالمحسنين.
وبالكبير العاقل الغلامُ.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
فيه تَرِقُّ القلوبُ.
فيه تُغفَرُ الذنوبُ.
وتتجافى عن المضاجع الجنوبُ.
فتَجْفوا لذيذَ المنام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
فيه يَقِلُّ الفضول.
فيه تُحفظُ الأصول.
فيه يَتمنَّى العابدُ ويقول:
ليت هذا الشهرُ دام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
ففارقوا المألوف.
واحذروا الخلافَ ليَقعَ الخُلوف.
فإنه شهرٌ معروف.
فطوبى ثم طوبى لمَنْ صام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
احفظوا فيه الأسماع والأبصار.
واحبِسوا عن الفضولِ اللسانَ المهذار[10].
وانهضوا للاستغفار وقت الأسحار.
لتَسمعوا رسائلَ: (هل مِنْ سائل؟) مِنَ الملِك الجبار.
واعجبًا لمَنْ ينام!
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
لازِموا المساجِدَ وتَردَّدوا.
واجتمِعوا على الصلاحِ ولا تَبدَّدوا.
وقصِّروا عن الخطايا وتسَدَّدوا [11].
فإنما هي أيام.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
واعزِموا على ترْكِ القبائح.
واعمَلوا ما يَصلُحُ للضرائح.
هذا غايةُ ما يقولُ الناصحُ.
والسلام.
[1] ورأيتها مثبتة في عدة نُسخ خطية لكتاب “التبصرة” بمكتبة تشستربيتي بأيرلندا، وأيضًا مثبتة في مختصر كتاب التبصرة المعروف بـ”تذكرة الإيقاظ في اختصار تبصرة الوعاظ”؛ لمحمد بن عثمان اللؤلؤي، ويوجد منه نسخة خطية محفوظة بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود، وأيضًا مثبتة في نسخة خطية للجزء الأول من كتاب التبصرة وهو محظوظ في المكتبة الأزهرية باسم: “مجالس قصص الأنبياء“. [2] الطَّغَامُ: أَرذالُ الناس وأَوغادُهُم، والطَّغَامُ: الضعيف والرَّديءُ من كلِّ شيء. [3] في بعض النسخ: اللغو. [4] في بعض النسخ: الصيام. [5] في بعض النسخ: إبَّان، وفي نسخة أخرى: أيام. [6] في بعض النسخ: عن النظر إلى الحرام. [7] في بعض النسخ: المسابيح. [8] في بعض النسخ: تنجح. [9] في بعض النسخ: حقُّ. [10] المِهْذَارُ: من يُكثر في كلامه من الخطأ والباطل. [11] في بعض النسخ: وتَصبَّروا عن الخطايا وتَشدَّدوا.
_______________________________________________________________
الكاتب: أحمد أبو زيد كامل
Source link