دعا إبراهيم: “رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ” فقدَّم طلبَ الأمن على طلب الرزق؛ لأن الأمن ضرورة، ولا يتلذذ الناس بالرزق مع وجود الخوف، فأن أشهى المأكولات، وأطيب الثمرات، لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن.
أيها المسلمون، أقف وإياكم في هذا المقال لأذكِّر نفسي وإياكم بنعمة جليلة ومِنَّة كبيرة، هي مَطلَب كل أمة، وغاية كل دولة، من أجلها جُنِّدت الجنود، ورُصِدت الأموال، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب؛ إنها نعمة الأمن، وما أدراكم ما نعمة الأمن؟!
الهدف النبيل الذي تنشده المجتمعاتُ، وتتسابق إلى تحقيقه الشعوبُ، ولأهميته وعظيم مكانته دعا الخليلُ إبراهيمُ عليه السلام لأهل مكة فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]، فقدَّم طلبَ الأمن على طلب الرزق؛ لأن الأمن ضرورة، ولا يتلذذ الناس بالرزق مع وجود الخوف، ووالله وتالله، إن أشهى المأكولات، وأطيب الثمرات، لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن، ونزولِ الخوف والهلع؛ ذلكم أنه لا غناء لمخلوق عن الأمن مهما عَزَّ في الأرض، أو كسب مالًا أو شرفًا أو رفعةً.
• أيها المسلمون، الأمنُ -عبادَ الله- مِنَّة إلهيَّة، ونفحة ربَّانية، امتنَّ الله بها على عباده، فبالأمن تجتمع النفوس، وتزدهر الحياة، وتغدق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتتلقى العلوم من منابعها الصافية، ويزداد الحبل الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثق الروابط بين أفراد المجتمع، وتجتمع الكلمة، ويأنس الجميع، ويتبادل الناس المنافع، وتُقام الشعائر بطُمَأْنينة، وإذا اختل الأمن تبدَّل الحال، ولم يهنأ أحدٌ براحة بال، فيلحق الناس الفزع في عبادتهم؛ فتهجر المساجد، ويمنع المسلم من إظهار شعائر دينه، قال الله سبحانه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]، وتعاق سبل الدعوة، وينضب وصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيل العلم، وملازمة العلماء، ولا تُوصَل الأرحام، ويئن المريض، فلا دواء ولا طبيب، وتختل المعايش، وتهجر الديار، وتفارق الأوطان، وتتفرق الأسر، وتنقض عهود ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسر طلب الرزق، وتتبدل طباع الخلق؛ فيظهر الكذب، ويلقى الشح، ويبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وتُرمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال، إذا سلبت نعمة الأمن فشا الجهل، وشاع الظلم، وسُلبت الممتلكات، وإذا حلَّ الخوف أذيق المجتمع لباس الفقر والجوع، ولعل أكثركم رأى بعينه في سنوات مضت كم من البلاد حولكم عاقبهم الله بنزْع الأمن والأمان من بلادهم، فعاشَ أهلُها في خوف وذُعْر، في قلقٍ واضطراب، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذذون بشراب، ولا ينعمون بنوم، الكل ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى! نسأل الله العافية، قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، قال القرطبي رحمه الله: (سَمَّى الله الْجُوع والْخَوْف لِبَاسًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ، وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ كَاللِّبَاسِ)؛ انتهى كلامه.
وأذكركم بقوله تعالى وهو يذكِّر قومَ سبأ بنعمة الأمن الحاصل لهم في سيرهم ليلًا ونهارًا في قُرَاهُمْ، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18].
• وامتنَّ اللهُ على ثمود قوم صالح نَحْتَهُم بيوتهم من غير خوف ولا فزع، فقال عنهم: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 82].
• ويوسف عليه السلام يخاطب والديه وأهله ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئن فيه نفوسهم: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، ولمَّا خاف موسى أعلَمَه ربُّه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31].
ويقول سبحانه ممتَنًّا على قريش بنعمة الأمن: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
والعرب قبل الإسلام كانت تعيش حالة من التمزُّق والفوضى والضياع، تدور بينهم حروبٌ طاحنةٌ، ومعارك ضارية، وعلت مكانة قريش من بينهم؛ لاحتضانها بلدًا آمنًا؛ قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]؛ بل وأقسم الله بذلك البلد المستقر الآمن فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 – 3].
وحبس الله عن مكة الفيل، وجعل كيد أصحاب الفيل في تضليل؛ لتبقى الكعبة البيت الحرام صرحًا آمنًا عبر التاريخ، وفضَّل البيت الحرام بما أحلَّ فيه من الأمن والاستقرار، فقال سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
• ووعد الله نبيَّه محمدًا وأصحابه بأداء النسك على صفةٍ تتشوَّف إليها نفوسهم؛ وهي الأمن والاطمئنان، قال الله جل وعلا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
ومما اختصَّت به مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنها حين تفزع القرى من المسيح الدجَّال، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ»؛ (رواه البخاري).
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح منح أهل مكة أعظم ما تتوق إليه نفوسهم، فأعطى الأمان لهم، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ»؛ (رواه مسلم).
ولأهمية الأمن كذلك فإن الله تعالى وعَد المؤمنينَ بأن يجعل لهم بدلًا من الخوف الذي يعيشون فيه أمنًا واطمئنانًا، وراحةً في البال، وهدوءًا في الحال، إذا عبدوه وحدَه واستقاموا على طاعته، ولم يشركوا معه شيئًا، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ومن نعيم أهل الجنة في الجنة أمن المكان لا خوف ولا فزع ولا تحول، قال الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، وقال سبحانه: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، وقال جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51].
• وممَّا يدلُّ على حاجة المرء للأمن أنه كان أحد المسائل التي سألها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لِمَا تُحِبُّ وترضى، ربُّنا وربُّكَ اللهُ»؛ (رواه ابن حبان)؛ والمعنى: اجعل رؤيتَنا للهلال مقترنةً بالأمن من الآفات والمصائب، وبثبات الإيمان فيه، والسلامة من آفات الدنيا والدين.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وآمِنْ رَوْعَاتِي»؛ (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ أصبَحَ آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها»؛ (رواه الترمذي، وابن ماجه بسند حسن).
• ومن هنا؛ فالأمن في الإسلام مقصدٌ عظيمٌ شُرِع له من الأحكام ما يكفُلُه ويحفظُ سِياجَه، ويدرأُ المساس بجنابه، فقد تضافَرت النصوص القطعية على وجوب المحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
وحرَّمت الشريعةُ كل وسيلةٍ إلى النَّيْل من هذه المقاصد، أو التعرُّض لها، وشرَعت من الأحكام الزاجرة ما يمنع من التعرُّض لها، أو يمسُّ بجوهرها.
بل إن الإسلام حرَّم كل فعلٍ يعبَثُ بالأمن والاطمئنان والاستقرار، وحذَّر من كل عملٍ يبُث الخوف والرعبَ والاضطراب، من مُنطلق حرصِه على حفظ أجلِّ النعم: الأمن والأمان.
ومن هذا المُنطلق نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسبَّب الإنسان إلى فعلٍ يؤدِّي إلى المَساسِ بالأمن والاستقرار، روى البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَوَّعَ مُؤْمِنًا لَمْ يُؤَمِّنِ اللهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُرَوِّعَنَّ مُسْلِمًا».
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
وروى البَزَّارُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ نَعْلَ رَجُلٍ فَرَوَّعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده، فيقع في حفرةٍ من النار»؛ (متفق عليه).
بل ولقد بلَغت عنايةُ الإسلام ونصوصه أن جاءت بالنهي عن كل ما يُؤذِي المسلمين في طرقاتهم وأسواقهم ومواضع حاجاتهم؛ في الحديث: «إياكم والجلوس في الطُّرُقات»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مرَّ أحدُكم في مساجدنا أو أسواقنا ومعه نَبْلٌ؛ فليُمسِك على نِصالها أن يُصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء»؛ (متفق عليه).
وقال في حق غير المسلم المعاهد: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ (رواه البخاري)، وقال: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ (رواه أبو داود)
عباد الله، حق على كل مسلم أن يعمل جاهدًا على استتباب الأمن والأمان، وأن يكافح من أجل تحقيقه، وأن يقوم على توفير أسباب جلب الأمن والأمان، ومن أهمها:
أولًا: الإيمان والتوحيد، وإقامة شرع الله تعالى، وهذا هو وعد الله في قرآنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وفي سبب نزول هذه الآية يقول أبو العالية: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعد ما أُوحي إليه خائفًا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرًّا وجهرًا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: «لا تلبثون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس عليه حديدة»، ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيَّه على جزيرة العرب، فوضعوا السلاح وأمنوا؛ (تفسير القرطبي)، وما زال هذا الوعد ساريًا في حق كل من استتم شروطه.
ثانيًا: شكر نِعَم الله تعالى، ومن أجلها نعمة الأمن، فإنه بالشكر تدوم النعم وتزداد، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، والعكس بالعكس؛ فبكفر النعم تزول، ويحل محلها العذاب بالخوف، وهذه حادثة واقعية قصَّها علينا القرآن الكريم قائلًا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فقد كانت القرية في طمأنينة وأمان، وفي رزق رغد، فلما كفرت النعمة أبدلها الله الجوع محل الرزق الرغد، والخوف محل الطمأنينة والأمن، وذلك أيضًا قابل للتحقق في كل عصر إذا ما توافرت أسبابه.
ثالثًا: المودة والتآلف وإصلاح ذات البين: فالأمان والطمأنينة تبع ونتيجة لانتشار الحب والإخاء بين المسلمين، وقد حثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على الصلح بين المتخاصمين؛ فإن الخصومة هي بذر للخوف، وتبديد للأمن في المجتمع، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟، قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، ويُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»؛ (الترمذي).
رابعًا: عمل الحسنات واجتناب السيئات، فإن الذنوب والمعاصي نذير الشؤم، ومجلبة الشر، وحلول الخوف محل الأمن، وإن فعل الحسنات والقربات والصالحات أمان من كل خوف وفزع في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89].
خامسًا: الدعاء بدوام الأمن والاستقرار، فقد سمعنا الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يدعو فيقول: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، ومرة قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، فلندْعُ إذن لأوطاننا ولأهلينا ولبيوتنا ولطرقاتنا ولقلوبنا ولنفوسنا أن يرفرف عليها الأمن والأمان والطُّمَأْنينة والوئام والسلامة والإسلام، وأقِمِ الصلاة.
_________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
Source link