مهارات التهيئة – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

إن بعض المصلين يبدأ باجتهاد وحماس، وسرعان ما يخفوا حماسه ويعتريه العجز والكسل، وذلك لضعف اللياقة الإيمانية، والاستعداد السليم لشهر مضان.

الخطبة الأولى

أما بعد:

عباد الله: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مع أصحابه رضوان الله عليهم في الغزوات خارج المدينة ويعود إليها، وفي إحدى رحلات العودة إلى المدينة نزل المسلمون في الطريق، بمنزل بالقرب من قبيلة (لحيان)[1] ، وهي قبيلة مشركة تكنُّ العداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكان يفصل بين المسلمين وبين قبيلة (لحيان) جبل، فقرر رسول صلى الله عليه وسلم إرسال أحد أصحابه، لاستطلاع الأمر وكشف المكان، وتأمينه قبل مرور الجيش.

 

ولك أن تتخيل خطورة هذه المهمة، التي سيقوم بها أحد الجنود.

 

فإن هذا الجبل قد يكون العدو مختبئًا من ورائه، ولن يغامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه، قبل إرسال طليعة على الجبل تكتشف المكان.

ولكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ثقل هذه المهمة وخطورتها، قرر أن يوقد نيران التهيئة النفسية ليصهر فيها نفوس الجند، فأخذ صلى الله عليه وسلم يهيئ ويحفز الأفراد، قبل أن يكلفهم بالمهمة.

 

وكان في مقدوره صلى الله عليه وسلم أن يأمر أو يكلف أحد أصحابه بتنفيذ هذه المهمة.

 

لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن كل نفس مهما علا شأنها، فهي بحاجة إلى قدر من التهيئة والتحفيز، قبل الإقدام على تنفيذ المهمة.

فإن ما تأتي به التهيئة النفسية لا يمكن لغيرها من الوسائل الإتيان به.

فقد قام صلى الله عليه وسلم أمام الجميع، يدعو بالمغفرة لمن يصعد الجبل ويأتيه بخبر العدو تلك الليلة، وهنا سمت الهمم وتنافس الجميع من أجل الفوز بتلك المهمة.

 

فجاءت هذه المهمة من نصيب الصحابي الجليل: سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ يقول سلمة: ((فرقَيتُ الجبل تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا))[2].

لقد تحققت المهمة بنسبة 300% بمعنى أنه صعد الجبل ثلاث مرات، وقد كان صعود الجبل أشهى إليه من أي شيء.

 

فالتهيئة تسبق مرحلة العمل، وعندها يحصل الإقبال على تنفيذ الأمور والمهمات، على أكمل الحالات.

 

إن الكل مطالَب بإتقان هذا الفن: الرئيس مع مرؤوسيه، والداعي مع مدعويه، والقائد مع جنده، والمدير مع موظفيه، والمعلم مع طلابه، والأب مع زوجته وأولاده، وذلك في الأمور كلها حتى في أمورنا الخاصة وفي رغباتنا الذاتية.

 

عباد الله:؛ ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان[3].

 

وقال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

 

وكان يخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان، فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين» [4].

 

 

عباد الله: إن الحكمة التي من أجلها شرع الصيام هي التقوى؛ كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

لا بد من الاستعداد النفسي والعملي، والتخطيط السليم للوصول إلى مرضات الله في هذا الشهر الفضيل، إن بعض المصلين يبدأ باجتهاد وحماس، وسرعان ما يخفوا حماسه ويعتريه العجز والكسل، وذلك لضعف اللياقة الإيمانية، والاستعداد السليم لشهر مضان.

فالعبد المؤمن – كما علمه القرآن الكريم، وعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم – متأنٍّ متدبر لسائر أمره، يخطط لكل عمل سيقدم عليه، حتى يضمن نجاحه فيه.

 

 

عباد الله: نحن في أمسِّ الحاجة ونحن مقبلون على شهر الصيام أن نبدأ بالتخطيط له على نحو يمكننا من إنجاز أكبر قدر من الأهداف، التي نرغب في تحقيقها لنخرج منه فائزين بإذن الله عز وجل.

 

ابدأ بتحديد خطتك لرمضان: تحديد الوقت المخصص لتلاوة القرآن، تدبرًا وفهمًا واستماعًا له؛ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

 

حدد السورة أو السور التي تحب أن تتدبرها بعمق وتحفظها في هذا الشهر.

 

وأعدَّ كتاب تفسير تريد أن تقرأ منه بعض الفوائد واللطائف التي تعينك على تدبر الآيات.

 

حدد ودوِّن الأدعية التي ترغب أن تدعو بها في سجودك وفي قيامك، وفي سائر أوقاتك، وليكن اختيارك بدايةً أدعية القرآن وما ثبت في السنة الصحيحة من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي أبلغ الأدعية، وهي عامة شاملة لكل ما يحتاجه أحدنا في حياته.

 

خطِّط لإنفاقك وصدقاتك وزكواتك: على الفقراء والمساكين والمحتاجين، واستحضر بها النوايا المطلوبة: الامتثال لأمر الله تعالى، والرغبة في التطهر من الذنوب، والتوسعة على المحتاجين، وتفريج الكربات.

 

واحرص على حسن استثمار وقتك، بعيدًا عن اللغو واللهو، وتضييع الأوقات.

 

واحرص على الصلاة في وقتها، وعلى قيام الليل.

 

خطط لأخلاقك، بأن تعود نفسك على كظم غيظك، وعدم التسرع في ردة فعلك عند غضبك، فالبعض قد يستهين بهذا الأمر فيقضي شهره منفعلًا ضيق الصدر سريع الغضب، بدعوى أنه صائم، وينسى أن من التقوى في رمضان أن تتقي الله في أخلاقك ومعاملتك.

يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء))[5].

 

بشرى العوالم أنت يا رمضـــان  **  هتفت بك الأرجاء والأكــوان 

لك في السماء كواكب وضـاءة  **  ولك النفوس المؤمنات مكان 

سعدت بلقياك الحياة وأشرقت  **  وانهل منك جمالها الفتـــــان[6] 

 

نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

 


[1] قبيلة (لحيان): تقع بالقرب من عسفان وهي: بطن من هذيل، العدنانية، وهم: بنو لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ [معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، المؤلف: عمر بن رضا بن محمد راغب بن عبدالغني كحالة الدمشقي].

[2] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير: باب غزوة ذي قرد وغيرها، حديث رقم: (1807).

[3] ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم شهرُ رمضانَ شهرٌ مباركٌ فرض اللهُ عليكم صيامَه تُفتَّحُ فيه أبوابُ السَّماءِ وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيمِ وتُغلُّ فيه مردةُ الشَّياطينِ، للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ ،من حُرم خيرَها فقد حُرم))؛ [سنن النسائي: (2106): كتاب الصيام: باب فضل شهر رمضان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، المؤلف: أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب الطبعة: الثانية، 1406 – 1986، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: (2106)، المؤلف: محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420هـ)].

[4] رواه البخاري (3277): كتاب بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، الناشر: دار ابن كثير، اليمامة – بيروت الطبعة الثالثة، (1407 – 1987)، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، ورواه مسلم (1079): كتاب الصيام: باب فضل شهر رمضان، المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، المحقق: محمد فؤاد عبدالباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت – كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب: (2/422(، المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)، المحقق: كمال يوسف الحوت، الناشر: مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة: الأولى، 1409.

[6] هذه الأبيات للشاعر: حسين بن علي عرب، يصف فيها بهجة الدنيا بدخول شهر رمضان، (ديوان حسين عرب، المجموعة الكاملة)، مكتبة الملك فهد الوطنية.

_________________________________________________________
الكاتب: د. أحمد بن حمد البوعلي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *