التوافق بين الإنسان والبيئة – طريق الإسلام

العلاقة بين الإنسان والبيئة ليست بجديدة؛ لأن البيئة في أبسط تعريفٍ لها: هي كل ما يحيط بالإنسان؛ أي: الإطار الذي يُمارِس فيه الإنسان حياته وأنشطته المختلفة؛ فهي تُشكِّل الأرض التي يعيش عليها، والهواءَ الذي يتنفسه، والماءَ الذي هو أصلُ كل شيء حيٍّ، منذ أن خَلَق الله الإنسان والأرض على صورتهما الفطرية، فقضية الإنسان والبيئة قضية معروفة منذ بدء الخليقة؛ فهي قضية صراع أزَليٍّ للتحدي من أجل بقاء الإنسان ورفاهيته، اختلفت طبيعته بين مرحلتين، ففي مرحلة طويلة تشغل معظم فصول التَّاريخ، كان الإنسان هو الطرف الأضعف الخاضع للبيئة الطبيعية، قبل أن يصبح – حديثًا – الطرفَ الأقوى، الذي يقوم بإخضاع البيئة واستغلالها استغلالاً قاسيًا يتَّسم بالشراهة والحمق؛ ولذلك اتَّسمت هذه العلاقة بالعدائية، وقيل: “الطبيعة عدوُّ الإنسان”.
ومِن هنا بدأت قضية الصراع التاريخي غير المدرك لأبعاد العلاقة الحقيقية بين الإنسان والبيئة وجذورها، عبر الماضي والحاضر.

 

من وجهة نظرنا، تكمُن المشكلة بجذورها وتضرب بأصولها في طبيعة هذه العلاقة القديمة – العلاقة العدائية – ذات ملامح الانقسام والانفصام، والحل الجذري يكمُن – من وجهة نظرنا – في المعالجة التأصيلية لهذه العلاقة، وتحويلها إلى علاقة انتماء – علاقة وُدِّية – ذات ملامح اكتمال ووئام، فتَرْتد بجذورها إلى أصل الحياة – الإنسان والطبيعة – فمن منطلق الرجوع إلى الأصول والجُذُور: الطبيعة هي الأم، والإنسان ذلك الكائنُ الحي، أحد مُكوِّنات هذه الطبيعة، يؤثر ويتأثر، مثله في ذلك مثل سائر الكائنات الحية الأخرى.
 

فالأمر يحتاج إلى إعادة تَصالُح للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وأمِّه وذاته وأجياله القادمة – على المستوى الكوني والفردي والأسري والجماعي – وإفشاء السلام والوئام، بدلاً من العداء والصراع.
 

فلقد اتَّسع نطاق هذا الصراع؛ ليشملَ جماعةً من البشر بين بعضهم وبعضهم الآخر، منذ بروز فكرة الملكية حول تملُّك أجزاءٍ من الطبيعة – الملكية الفردية – وظهور مبدأ التوارث الإنساني لبعض المكونات – الملكية المشتركة – مثل تملُّك وتوارث قطعة من الأرض أو الزرع أو قناة مائية، وغيرها من المنافع والمرافق والاستخدامات الإنسانية المختلفة.
 

ثم تطور هذا الصراع متخذًا مانعًا جماعيًّا مشتركًا؛ ليشمل الجماعات والقبائل والشعوب، ثم متخذًا طابعًا قوميًّا؛ ليشمل دولة بأكملها تسيطر على الطبيعة داخل الحدود الوطنية – داخل اختصاصاتها الداخلية – ثم تطور ليأخذ طابعًا إقليميًّا لمنطقة جغرافية، بل اتَّخذ في تطوره المتنامي والسريع الطابعَ فوق القومي – الدولي – بأعضائه من المجتمع الدولي الذي ينظِّم العلاقاتِ المتبادلةَ الخارجية بين الدول، بشأن موارد وثروات الطبيعة، التي تشكل في مُجملها المقومات اللاَّزمة لاستمرار الحياة البشرية واستقرارها.
 

لذا ظهر الكثير من النظم والقوانين التي تنظم الملكية الفردية والملكية المشتركة، خاصَّة لأجزاء من الطبيعة، كقطعة أرض أو مجرى مائيٍّ وغير ذلك؛ وذلك على المستوى الشخصي والجماعي والشعبي داخل النطاق المحلي والخارجي، ثم تطور الأمر باستحداث نظام للقضاء والتقاضي بين الأفراد، بشأن الملكيات المشتركة والمشكلات التي تحدث في هذا المجال، ونشأت مَحاكم خاصة ذات اختصاصات وسُلُطات للفصل في ذلك الشأن؛ لإعطاء كل ذي حق حقَّه، طبقًا لمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والمواطنين داخل الدولة، فالإنسان هو الجزء والبيئة هي الكل، والبيئة هي الأم والإنسان هو الابن.

فكيف يحدث الصِّراع بين الأم والابن؟ وأين الوفاق بين الأصل والفرع؟ لماذا الخصامُ والانفصال بين الجزء والكل؟ ومتى التصالح والاكتمال بين الكون ومكنونه ومكوناته؟
 

التوافق بين الإنسان والبيئة:

هو تلك العملية الديناميكية التي يهدف بها الفرد إلى أن يغير سلوكه، فيُقيم علاقةً أكثر تآلفًا مع بيئته بأن يتكيَّف معها بالحفاظ عليها من التلوُّث وجعلها نظيفة، وبذلك تتحقق له حياة نفسية مُتوازنة.

إنَّ فوائد التعامل والتفاعل مع البيئة والإنسان عميقة التأثير والتأثر؛ فمثلاً التفاعل بين الإنسان والنبات علاقةٌ أعمقُ من مجرد جمال المظهر، وتساعد على جعل المدينة مكانًا أفضل للسكن.
 

ولقد أثبتَت البحوث والدِّراسات أن انتشار الحدائق في المدينة، ونظافة الشوارع، وطلاء البيوت، وتحويل الخرابات إلى حدائقَ عامةٍ – يربطُ الإنسان ببيئته؛ فالأزهار ينبوع الجمال، وتفيض إشراقًا؛ وبالتالي يزداد نقاء الوطن والحياة والبيت والولد.
 

إن نقاء البيئة ينعكس إيجابيًّا على صحة المواطنين؛ فوجود مساحات خضراء مناسبة، وحدائق عامة منتشرة – يساعد على تنقية الهواء مما ينعكس إيجابيًّا على صحة المواطنين، فيزيد الإنتاج، وتنخفض تكاليفُ العلاج (وَفْر اقتصادي ومجتمعي ناتج من نقاء البيئة).

إنَّ تلوث البيئة ينعكس سلبًا على صِحَّة المواطنين؛ فوجود المصانع ومخلَّفاتها قريبًا من المدينة – كإنشاء مصنع لدبغ الجلود – ينتج عنه تلوث الهواء، وتنتشر الأمراض الصَّدرية، وترتفع تكاليف العلاج، ويُعد هذا هدرًا للمواد الاقتصادية (هدر اقتصادي ومجتمعي ناتج عن تلوث البيئة).
 

الأساس الفلسفي للعلاقة بين الإنسان والبيئة:

تناولت النَّظريات الفلسفية علاقة الإنسان بالبيئة، فاختلفت وجهات نظر الباحثين بشأنها، ونوجزُها فيما يلي:

1 – الحتمية البيئية: تذهب النَّظرية إلى أن الإنسانَ كائن سلبي إزاء قُوَى الطبيعة، وترى أن البيئة المادية قوةٌ ذات تأثير حَتْمي في الكائنات الحية.

 

2 – الحتمية الحضارية: وتذهب هذه النظريَّة إلى أنَّ قدرات الإنسان العقلية قد عاونته على تشكيل حضارة مادية وغير مادية، وعلى التحكُّم في المكونات البيئية، ورفضت نظرية الحتمية البيئية؛ لأن البيئة ليست عاملاً حتميًّا، وإنما مُجرد عامِل واحد مَحدود.

 

3 – التأثير المتبادَل بين الكائن الحي والبيئة: ترى هذه النظرية أن هناك تأثيرًا متبادلاً بين البيئة ومكوناتها، فالكائن الحي لا يتأثر بكُلِّ ما يحيط به من ظواهر؛ كالطاقة والحرارة فحسب، بل إنَّ البيئة هي الأخرى تتأثرُ بالنشاط الإنساني؛ أي: إنَّ التأثير بينهما متبادل.
 

الأساس التاريخي للعلاقة بين الإنسان والبيئة:

بدراسة الأسس التاريخية لعلاقة الإنسان بالبيئة ومدى توافقِه أو صراعِه معها – تُطالعنا الخلفيَّة التاريخية لها، ومتى بدأ الإحساس بمشكلات البيئة على المستوى المحلي والعالمي؛ لذا فقد وجه الاهتمام إلى المشكلات البيئية منذ ما يَقرُب من ثلاثين عامًا، غير أنَّ مشكلات الإنسان مع البيئة قديمة قِدَم الإنسان نفسِه.

 

وتعد هذه المشكلات وخيمةَ العاقبة ما لم نعمل على تجنبها؛ فالتلوُّث مدمِّر للأنهار والبُحيرات؛ إذ يجعل المياه غير صالحة ويُسمِّم الأسماك، وقد وجهت العناية لمكافحة تلوُّث الهواء؛ لما لهذا التلوث من آثار ضارَّة على صحة الإنسان.
 

الأساس الاجتماعي للعلاقة بين الإنسان والبيئة:

وتتناول هذه الأسس مناقشة مفهوم البيئة الاجتماعيَّة والثقافية، مع إبراز أنَّ الثقافة المادية نتاجُ التكنولوجيا، وعرض الآثار الحسنة والسيئة للتقدم التكنولوجي من الناحية الاجتماعية، وأنماط العلاقة الاجتماعيَّة القائمة بين الأفراد والجماعات؛ كالنظام الاقتصادي والخلقي، أما البيئة الثقافيَّة فهي بيئةٌ استحدثها الإنسان، وذلك بإضافة مفردات جديدة إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية، وتتكون البيئة الثقافية من عنصرين:

 

أ – عنصر غير مادي: ويتمثل في العادات والتقاليد البيئية غير السوية التي نوجِزُ بعضها فيما يلي:

– تعلية صوت الراديو أو التليفزيون. 

– إلقاء القمامة من نوافذ العمارات إلى الشارع.

– الإسراف في استخدام آلات التنبيه للسيارات.
 

ب – الجانب المادي: ويتمثل في الثقافة المادية التي هي نتاج التكنولوجيا، والتي تعدُّ عاملاً وسيطًا بين الإنسان والبيئة الطبيعية، ولَمَّا كانت التكنولوجيا دائمًا ضرورية، وعلى درجة بالغة من الأهمية للوجود والتقدُّم الإنساني، ونعني استخدام المعرفة في التطبيق العلمي؛ مما ساعد على إيجاد اختراعات تكنولوجية أسهمَت في تقدُّم العلم – فإنَّ هناك انعكاسات سلبية لها تتمثل في تلوُّث الماء والهواء والتربة، ومشكلات الطاقة والإشعاعات، وحوادث السيارات، ووسائل النقل الأخرى وغير ذلك.
 

الأساس النفسي (السيكولوجي) لعلاقة الإنسان بالبيئة:

إنَّ الحاجة لعلم النفس البيئي أصبحت ضروريةً لعلاج العلاقة بين الإنسان والبيئة، وتحويلِها من صراعٍ وعَناء إلى توافق وبقاء؛ فالبيئة هي الأم وليست العدو، وبدونها لا نستطيع أن نحيا حياةً طيبةً، وبدوننا لا تستطيع الطبيعة أن تستمر وتزدهر وتبقى؛ فهي علاقة أم بأبنائها، وعلاقة ابن بأمه، وقد تخيل الإنسان قديمًا أنَّ الطبيعة عدو له، فهي الأقوى وتطارده بالأمطار والبراكين والزَّلازل والأعاصير، وشعر أنه تغلَّب عليها بالتقدم والتكنولوجيا، وأصبح هو الأقوى منها وهي الأضعف، فانقلبت حالة العلاقة بينه وبينها إلى صراع بين الأقوى والأضعف.

فالأمر يحتاج إلى إعادة التصالح بين الإنسان والبيئة.

_______________________________________________________
الكاتب: 
د. سحر مصطفى حافظ


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *