تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 16 من سورة مريم
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) جملة { واذكر في الكتاب مريم } عطف على جملة { ذِكْرُ رحمتتِ ربِّكَ } [ مريم : 2 ] عطف القصة على القصة فلا يراعى حُسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية ، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم . على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } مصدراً وقع بدلاً من فعله .
والمراد بالذكر : التّلاوة ، أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك .
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها .
والكتاب : القرآن ، لأنّ هذه القصة من جملة القرآن . وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة { في الكتاب } بعد كلمة { واذكر }. وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : " لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي "
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ { اذكر }. ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ { واذكرْ } في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور .
و { إذ ظرف متعلق باذكر } باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر ، وليس متعلقاً به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى .
ويجوز أن يكون ( إذ ) مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلاً من ( مريم ) ، أي اذكر زمن انتباذها مكاناً شرقياً . وقد تقدم مثله في قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه } [ مريم : 2 ، 3 ].
والانتباذ : الانفراد والاعتزال ، لأن النبذ : الإبعاد والطرح ، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه ، ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له .
وانتصب { مكاناً } على أنه مفعول { انتبذت } لتضمنه معنى حلت . ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام . والمعنى : ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي .
ونُكر المكان إبهاماً له لعدم تعلُّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالاً في المقصود من القصة . وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرقَ قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس . كما قال ابن عباس : «إني لأعلم خلققِ الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرقَ قبلة لقوله تعالى : { مكاناً شرقِيّاً } » ، أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى . فذكر كون المكان شرقياً نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل .