تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 26 من سورة المطففين

خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) والمِسك مادة حيوانية ذاتُ عَرْف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة ، وهذه المادة تتكون في غُدّة مملوءة دَماً تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها . وهي جِلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون : فَأرة المسك .
وفُسر { ختامه مسك } بأن المعنى ختام شُربه ، أي آخر شربه مسك ، أي طعم المسك بمعنى نكهته ، وأنشد ابن عطية قول ابن مُقْبِل
: ... مما يُعتِّق في الحانوت قَاطفُها
بالفُلفل الجَوْن والرُّماننِ مَخْتومُ ... أي ينتهي بلذع الفلفل وطَعْم الرمان .
وجملة : { ختامه مسك } نعت ل { رحيق } . أو بدل مفصل من مجمل ، أو استئناف بياني ناشىء عن وصف الرحيق بأنه { مختوم } أنْ يسأل سائل عن ختامها أي شَيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد .
وجملة : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } معترضة بين جملة { ختامه مسك } وجملة { ومزاجه من تسنيم } .
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله : { وفي ذلك } هو مبدأ الجملة . وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيققِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال . ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها . والفاءُ إما أن تكون فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون ، أو التقدير : وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين ، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص ، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط ، كما روي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلّ عليكم " بجزم «تكونوا» و«يُوَلّ» ، فالتقدير : إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون . وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير ، والتقدير : وتنافسوا صيغة أمر في ذلك ، فليتنافس المتنافسون فيه ، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين ، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور .
وجملة : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } معترضة بين جملة : { يسقون من رحيق } الخ وجملة : { ومزاجه من تسنيم } .
والتنافس : تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس ، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله . وقد قيل : إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس . فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد .
ولام الأمر في { فليتنافس } مستعملة في التحريض والحث .