منذ حوالي ساعة
فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
قال تعالى في سورة البقرة:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)}
{{أَتَأْمُرُونَ}} استفهام للتوبيخ والتقريع والإنكار، ويتولد منه معنى التعجب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها.
وأتى بالمضارع {{أتأمرون}} ، وإن كان قد وقع ذلك منهم للدلالة على الديمومة وكثرة التلبس بالفعل.
{{النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}} وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة. فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله.
وقد ترى الواحد منهم يأمر أقاربه باتباع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويقول: إنه حق؛ لكن تمنعه رئاسته، وجاهه أن يؤمن به؛ ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود «عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ غُلَامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: “أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ” فَأَسْلَمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ: (يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ)»
وسبب هذا التوبيخ والتعجُّب وجوه:
الأوْل: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِ، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير.
الثاني: أنّ من وعظ النَّاس، وأظهر علمه للخلق، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أن الامتناع عنها محال عمليا لما انزلق في المَعْصية.
الثالث: العالم إذا خالف صار أشد لوماً من الجاهل، وهذا أمر فُطر الناس عليه؛ فتجد العامة إذا فعل العالم منكراً قالوا: كيف تفعل هذا وأنت رجل عالم؟! أو إذا ترك واجباً قالوا: كيف تترك هذا وأنت عالم؟!.
الرابع: إذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية، فكأنه جمع بين المُتَناقضين، وذلك لا يليق بالعاقل.
الخامس: أنّ من وعظ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول.
قال عليّ كرم الله وجهه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك.
وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني، وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟!
وقال القشيري: أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا ؟!
وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الْحِيرِيِّ الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى … طَبِيبٌ يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أو بلغت ذلك؟ فقال أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}} [البقرة:44]، وقوله تعالى: {{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}} [الصف:3]، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}} [هود:88]
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد، ليس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية، لا على الأمر بالمعروف، لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير.
فلو ترك الأمر بالمعروف مع تركه فِعلَه ارتكب جنايتين: الأولى: ترك الأمر بالمعروف؛ والثانية: عدم قيامه بما أُمر به؛ وكذلك لو أنه ارتكب ما يُنهى عنه، ولم يَنْهَ عنه فقد ارتكب مفسدتين: الأولى: ترك النهي عن المنكر؛ والثانية: ارتكابه للمنكر.
ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف، وجاهد نفسك على فعله، وانْهَ عن المنكر، وجاهد نفسك على تركه.
قال القُرْطبي: “احتجّت المبتدعة بقوله تعالى: {{أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}} ، وقوله تعالى: {{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}} على أنه يشترط فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر أن يكون عدلاً.
قال: وهذا استدلال سَاقِطٌ؛ لأن الذم هاهنا إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر، ولا شك أن النهى عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس”.
{{وَأَنتُمْ تَتْلُونَ}} التلاوة: التتابع، ومنه القراءة وتلاوة القرآنِ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ. ومنه: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس:2]
{{الْكِتَابَ}} أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، وهذا من شأنه أن يذكرهم بمخالفة حالهم لما يتلونه. فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى: {{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} } [آل عمران:71]
{{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}} العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير، يمنعه من التصرف، والعقل: الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني.
ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه، قارب أن يكون منفيا عنه التعقل.
فنبههم على أن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره.. أبدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟
والآية جملة اعتراض بين قوله: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}} [البقرة:43] وقوله: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}} [البقرة:45] ووجه المناسبة في وقوعه هنا أنه لما أمرهم بفعل شعائر الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وذيل ذلك بقوله: {{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}} ليشير إلى صلاتهم التي يفعلونها، أصبحت لا تغني عنهم، ناسب أن يزاد لذلك أن ما يأمر به دينهم من البر ليسوا قائمين به على ما ينبغي، فجيء بهذا الاعتراض، وللتنبيه على كونه اعتراضا لم يقرن بالواو لئلا يتوهم أن المقصود الأصلي التحريض على الأمر بالبر وعلى ملازمته، والغرض من هذا هو النداء على كمال خسارتهم ومبلغ سوء حالهم الذي صاروا إليه حتى صاروا يقومون بالوعظ والتعليم كما يقوم الصانع بصناعته والتاجر بتجارته لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها ليستحقوا بذلك ما يعوضون عليه من مراتب ورواتب فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link