ولا يزال الغيورون على حرمة العلم يطرحون هذه المواضيع؛ لأنها لم تأخذ حظها من الدراسة والنظر.. ويبقى التساؤل: هل يُعدُّ الذكاء الاصطناعي خطرًا على التوثيق العلمي الشرعي؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ربِّ يسر وأعِنْ وبارِكْ يا كريم
ذكرتُ في أكثر من مناسبة أن بعض السابقين من علماء الشريعة رحمهم الله، لا يعدون التوثيق في النقل عيبًا في التأليف، فقد دأب العلماء على نقل عبارات بعضهم دون توثيق بسببٍ أو بدون سبب، إنما العيب اشتَهر عُرفًا في العصور المتأخرة لكثرة السرقات العلمية ولغير ذلك أيضًا، خُذْ مثلًا بعض كتب ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد ينقل أحيانًا في غير موضع عن شيخ الإسلام من دون ذكر اسمه، وهذا ليس منهجًا مطردًا، بل أحيانًا يذكر وأحيانًا لا، وكذلك ابن أبي العز رحمه الله في شرح الطحاوية كثيرًا ما تجد نفس عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية من دون ذكر اسمه، وقد ذكر بعضهم أن عدم إظهار ابن أبي العز رحمه الله لاسم شيخ الإسلام قد يسبِّب له نوعًا من الأذى، نظرًا لمحاربة المبتدعة المسيطرين في وقته، فلو أظهر أنه على منهج شيخ الإسلام لتعرَّض للأذى والله المستعان!
وهذا وإن كان في نوع من الوجاهة، لكن ليست المسألة فقط عند ابن أبي العز، بل كثيرًا ما وُجِدت وحَصَلت، وعلى أية حال فالمقصود أن السابقين كانوا لا يعتنون بالتوثيق في النقل من بعضهم البعض في أحايين كثيرة، بسبب أن إخراجهم لمؤلفاتهم احتسابًا للأجر رحمهم الله، فهم هدفهم نشر العلم، وربما لسبب آخر وهو أن العبرة لديهم بالدليل وصحة الترجيح، ولا عبرة بقائله إلا أن يكون قرينة على الترجيح الصحيح إذا كان عالِمًا مجتهدًا له مكانته العلمية.
لكن المتقدمين رحمهم الله – وهذا المهم – أسَّسوا مناهج ومدارس عظيمة ودقيقة جدًّا في نقل الأحاديث والأخبار، وفي استنباط الأحكام وكيفية استخراجها من الأدلة، وفي وسائل وطرق الترجيح، والاجتهاد وصفات المجتهدين، ومع الوقت تأسَّست علوم كثيرة في هذا؛ كعلم مصطلح الحديث والجرح والتعديل، وعلم أصول الفقه، وأصول التفسير، وقواعد العربية…إلخ، ثم تطورت الأمور وأصبح هناك مناهج أكاديمية في العالم للبحث العلمي، فيما تسمى بالعلوم الإنسانية وطرق للتوثيق ملائمة مع العصر تطور بتطور التقنية.
ولا يختلف اثنان في كون التقنية الحديثة من نعم الله جل وعلا على البشرية إذا استخدمت الاستخدام الأمثل في خدمة الناس، وبنفس الوقت قد يكون ضررها كبيرًا إذا استُغلت استغلالًا سلبيًّا.
وقبل فترة وجيزة ظهرت الكثير من التطبيقات والمواقع التي تساعد الباحثين وطلاب الدراسات العليا على بحث الإشكالات والمسائل العلمية، ومنها ما يتعلق بالفتاوى والأحكام الشرعية، فاختصرت الوقت أكثر، ويسَّرت سبلَ البحث، وفرِح كثيرٌ من طلاب العلم والباحثين بها، لكن بنفس الوقت ارتفعت نسبة الخطأ والتزوير والتدليس فيها، حتى أصبح من الممكن إضافة بصمة الصوت على المتحدث بأي حديث كان.
وكان بعض طلاب العلم يعاني قبل فترة من تلبيس بعض الشركات والبنوك على بعض المفتين، فيضع سؤالًا منمَّقًا يخفي جوانب التحريم في المسألة المعروضة، ثم يجيب المفتي أو الفقيه على ضوء المسألة التي أمامه بالجواز مثلًا، فتنتشر الفتوى بعد إنزالها في الواقع على مسألة مغايرة، فيُلبَّس على الناس!
وهذه الطرق والحيل وإن كانت موجودة من قديم الزمان، ويسهُل كشفها، فإنها أصبحت مع الذكاء الاصطناعي وبصمة الصوت، وتركيب الصور أشد تعقيدًا، ولذا وجب على الباحثين والمهتمين وطلاب العلم أن يعتنوا بهذه المسألة وإيجاد الحلول لها، كلٌّ على حسب تخصُّصه، من خلال الهيئات الشرعية والتخصصات الأكاديمية في الدراسات العليا في الجامعات والمعاهدات، وعقد الورش والمؤتمرات والندوات، والخروج بتوصيات تَحُدُّ من انتشار الكذب والتلبيس على العلماء وفتاواهم..
وفيما يلي عصف ذهني للمساهمة في علاج هذا الأمر من خلال بعض التوصيات:
1- إيجاد بعض الثغرات والعلامات من قِبَل المختصين في برامج الحاسب والعلوم الشرعية التي يستطيع الباحث المهتم من خلالها كشف التلبيس الموجود في الذكاء الاصطناعي، ومحاملة إيجاد مثلًا برامج معينة أو معامل معينة للكشف عن تمايز الأصوات الحقيقية.
2- الرجوع في تطبيق شروط المحدثين القدامى في التثبت من صحة النقل، ومن ذلك مثلًا ما قاله الشافعي رحمه الله: “ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حَدَّثَ به ثقةً في دينه، معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لما يحدث به، عالِمًا بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبقَ وجه يُخاف فيه إحالته الحديث، حافظًا إذا حدث به من حفظه، حافظًا لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بَرِيًّا من أن يكون مدلسًا يحدِّث عمن لقِي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هكذا من فوقه ممن حدَّثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى به إليه دونه”؛ اهـ[1].
3- بث ثقافة عدم التسرع في نقل المعلومة إلا بعد التأكد من صحتها، من خلال طرق الاستدلال المعروفة.
4- إحياء نشر الدروس العلمية للعلماء المعتبرين الأحياء، وتسهيل التواصل معهم بشتى الطرق، للتأكد من صحة فتاواهم أو فتاوى مَن سبقهم.
5- الاهتمام بالتخصصات الشرعية ونشر العلوم الشرعية بشكل أوسع، خاصةً علوم الآلة.
وأخيرًا فإن العلم الشرعي له حرمة عظيمة لا يجوز أن تنتهك، ولا يتساهل بها، ولذا لما عدَّ الله تعالى المحرمات في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، بدأ بالأسهل تحريمًا، ثم ما هو أشد منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات وهو القول عليه بلا علم.
ولا يزال الغيورون على حرمة العلم يطرحون هذه المواضيع؛ لأنها لم تأخذ حظها من الدراسة والنظر.. ويبقى التساؤل: هل يُعدُّ الذكاء الاصطناعي خطرًا على التوثيق العلمي الشرعي؟!
[1] الرسالة ص371.
______________________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير
Source link