منذ حوالي ساعة
نبينا محمد نبي الرحمة، فرسالته رحمة للأنس والجن؛ وكان يتألَّم إذا حصل لأحد مسغبة، أو نزلت بهم فاقة، فيُسارع بالعَمَل على رفع ما نزل بهم…
نبينا محمد نبي الرحمة، فرسالته رحمة للأنس والجن؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، بل تعدَّت رحمة النبي العالمين لتصلَ إلى البهائم، بل الجمادات؛ كالجذع الذي كان يخطب عليه النبي، وفي هذه الدقائق أُذَكِّر نفسي وأُذَكِّر إخوتي ببعض مظاهر الرحمة في حياة النبي، التي يتعَدَّى أثرها الحِسي إلى المخلوقين.
أنه كان يتألَّم إذا حصلتْ لهم مسغبة، ونزلت بهم فاقة، فيُسارع بالعَمَل على رفع ما نزل بهم؛ فعن جرير بن عبدالله: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النِّمارِ أو العباء، متقَلِّدي السيوفِ، عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتَمَعَّرَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن، وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ…} [النساء: 1] إلى آخر الآية… {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] والآية التي في الحشر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ…} [الحشر: 18]، «تصدَّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، مِن صاع تمره، [حتى قال] : ولو بِشِقِّ تمرة» ، قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادتْ كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابَع الناس حتى رأيتُ كومَيْن مِن طعام وثياب، حتى رأيت وجْه رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّل، كأنه مُذْهَبَةٌ))؛ (رواه مسلم (1017).
فحين رأى الفاقة التي بالمضريين تكدر خاطره، ودعا أصحابه إلى مواساتهم، فلما حصل لهم ما يكفيهم سُرَّ بذلك، وهكذا المسلم يعمل على قدر وسعه بقضاء حوائج المحتاجين؛ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
ومِن مظاهر رحمة النبي بأمتِه:
أنه كان يعمل على قضاء ديون المدينين من أصحابه من بيت مال المسلمين حينما وجد، وذلك كان في آخر حياته، حيث وجد الفيء والغنائم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «(ما من مؤمن إلا وأنا أَوْلَى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إنْ شِئْتم: » {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [1]، «فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينًا أو ضيَاعًا – [أي: أولادًا فقراء] – فليأتني فأنا مولاه»؛ (رواه البخاري (2399)، ومسلم (1619).
وقبل وجود المال في يديه كان يحث أصحابه على الإعانة في قضاء دين من أفلس وخسر في تجارته؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها – أي: اشتراها – فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدَّقوا عليه»، فتصَدَّق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: «خُذُوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك»؛ (رواه مسلم (1556).
فهذا الرجل اشترى ثمرة النخل؛ رجاء أن يربح ويغنيه الله من فضله، لكن جاء الأمر على خلاف ما كان يتمنى، فأمر النبي بمساعدة هذا المعسر في قضاء دينه، وأمر غرماءَه أن يأخذوا ما تصدق به عليه، فليس لهم في الوقت الحاضر إلا ذلك الموجود، وأمرهم أن ينظروه إلى الغنى، ولا يطالبوه بما لا يستطيعه، وهذا معنى قول النبي: «وليس لكم إلا ذلك».
ومن مظاهر رحمة النبي لأمته:
أنه يكره ما يشق عليهم، فالمشاق والحرج التي تقع على أمته كأنها واقعة عليه؛ قال الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فما خُيّر بين أمرَيْن إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا؛ لأنَّ أمته ستقتدي به، فاختار الأيسر والأسهل رحمة بها، وهكذا من يحمل الإرث النبوي فليحمل الناس على اليُسر، ولا يشق عليهم، فالشخص في خاصة نفسه يحملها على الورع والاحتياط، أمَّا إلزام الناس بذلك فلا؛ فلذا أرشد النبي من يؤمن الناس في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلَّى أحدكم للناس فليخفف؛ فإنَّ منهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلَّى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء»؛ (رواه البخاري (703)، ومسلم (467)، عن أبي هريرة).
لكن ليعلم أن التيْسِير على الناس راجِع إلى النصوص الشرعية، فهي الحكم وليس إلى أهواء الناس، فليتَّق الله مَن يتجاوز التيْسِير الشرعي، وليعلم أن دين الله لا يقبل التنازُلات، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
ومِن مظاهر رحمة النبي بأمته:
أنه كان يراعي ما ركَّبه الله بهم من غرائز، فيمكن أصحابه من أن يقضوا وطرهم المباح؛ فعن مالك بن الحويرث: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: «ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أُصَلِّي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم»؛ (رواه البخاري (631)، ومسلم (674)).
فمالك ورفقته شباب، والشباب مظنة قوة الشهوة، فلما قضوا هذه المدة عنده، وشعر النبي برغبتهم في معاشَرة أهليهم، أمَرَهم بالرجوع إلى أهلهم؛ ليقضوا وطرهم المباح.
أين هذه الرحمة من بعض الآباء الذين استرعاهم الله على بنات يمتنع من تزويجهن؛ ليصيب عرَضًا من الدنيا، إما بزيادة مهر، أو للانتفاع بمرتباتهن؟! أين هذه الرحمة من بعض الآباء، الذين بسط الله لهم الرزق، فيطلب أبناؤه منه أن يزوجهم، فيرفض متعللاً بحجَج، مع أن إنكاحهم مع قدرته وعجزهم من الواجب عليه، وليس من التطوع؟!
أين هذه الرحمة من بعض الأزواج الذين يتغربون السنين عن أهليهم، وتطالبهم نساؤهم بالرجوع إليهن فيمتنعون، مع قدرتهم على الرجوع؛ حرصًا منهم على زيادة المال، والتخفف من نفقة السفر؟!
عباد الله، رحمة النبي تعدَّت الآدميين إلى البهائم، فلهن نصيب من عموم رحمته، فاعتنى بالبهائم، وأمر بالإحسان إليهن، ورغّب في إطعامهن وسقيهن، وحذّر مالكهن من التقصير في الإطعام، أو تحميلهن أكثر من طاقتهن؛ بل كان النبي يشفق على الحيوانات، حينما يرى تأذيهن بأمر من الأمور؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحُمَّرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مَن فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها»، ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: «من حرق هذه» ؟، قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار»؛ (رواه أبو داود (2675)، وصحح إسناده الحاكم (4/239)).
فنهاهم عن فجيعة ذلك الطائر الصغير وأمر بردّ فرخيها، والأمر ليس مخْتصًّا بتلك الحمّرة، بل الأمر عام في كل الحيوانات التي يحرم قتلها، فلا تفجع في نفسها ولا في أولادها.
إذا كان ينْهى عن فجيعة الحيوان، فالنهي عن فجيعة الآدميين أولى وأحرى.
معاشر الإخوة:
قارنوا الفجيعة التي حصلت لذلك الطائر الذي سارع النبي بإزالتها، بفجيعة بعض الأمهات، حينما تطلّق من زوجها، ويكون الأولاد عند الزوج فيفجعها بعدم تمكينها من رؤيتهم، ويجعل العراقيل أمام التقائها بأولادها الصغار، ويمنعهم من زيارتها، أو الفجيعة التي تحصل من بعض الآباء حينما تطلق ابنته، ويحصل بينه وبين زوجها خلاف، فيفجع ابنته برفضه بقاء أولادها معها، حتى يشقى بهم أبوهم بزعمه، وما علم أن أول من يشقى بهم ابنته المسكينة، ليحذر هذا وذاك عقوبة الله في الدنيا والآخرة، وليعلموا أن الله أقدر منهم، وليعلموا أنَّ الجزاء من جنس العمل، فيفرق الله بينهم وبين من يحبون يوم القيامة؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرّق بين الوالدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة»؛ (رواه الإمام أحمد (22988) (23002)، والترمذي (1283) (1566)، وإسناده حسن لِغَيْره).
أيها المسلمون:
إذا كانت رحمة النبي عمَّت البعيد، فالأهل أوْلَى بالرحمة؛ فهم أحوج من غيرهم لإدخال السرور عليهم وتسليتهم وإزالة المصاب عنهم، وتخفيف ما نزل بهم، فيقف مع الزوجة والأولاد في حالات البلاء والشدة وتكدر الخاطر؛ فعن عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضتُ، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قال: «ما لك؟ أنُفِسْت» ؟، قلتُ: نعم، قال: «إنَّ هذا أمرٌ كتبَه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تَطُوفي»؛ (رواه البخاري (294)، ومسلم (1211)).
فلما حاضتْ عائشة وهي في طريقها للحج، تكدر خاطرها، فهي تريد عمرة مستقلة، وحجة مستقلة، فما زال النبي يواسيها ويخفف ما نزل بها، حتى يوم عرفة، فيأمرها أن تدخل حجها على عمرتها، مخبرًا أن طوافها وسعيها يسعها لعمرتها وحجها، ولما لم تطب نفسها بذلك، وأرادت أن تأتي بعمرة مستقلة، أمر أخاها عبدالرحمن أن يعمرها من التنعيم، فما زال النبي الزوج مع زوجته يتابعها ويسرّي عنها، حتى زال ما كانت تجده، وانقلب حزنها إلى فرح، فالنبي هو القدوة في التعامل مع الأهل، وليس بعض الجهال الذي يرى أن من الفحولة الغلظة مع الزوجة، وأن مطاوعة الزوجة في غير معصية ضعف ينافي الرجولة، نعوذ بالله من سوء الخُلُق.
[1] الأحزاب: 6.
______________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
Source link