الصلاة صلة بين العبد وربه، فإذا ترك الصلاة فقد قطع صلته بخالقه، فإذا تركت الصلاة فأبشر بالضيق، وأبشر بالضنك، وبكل ما يسوؤك؛ لأنك إذا تركت الصلاة فقد انقطعت صلتك بالله عز وجل ومن فقد الله ماذا وجد؛ ومن وجد الله ماذا فقد؟!
معاشر المسلمين والمسلمات، لا يخفى علينا جميعًا ما يعيشه كثير من المسلمين في بعد عن دين الله، من تفريط فيما أوجب الله، وتعدٍ لما نهى الله، فكم هم أولئك الذين ينظرون إلى ما حرم الله! وكم هم أولئك الذين يؤذون عباد الله! وكم هم أولئك الذين يأكلون ويشربون ما حرم الله! وكم هم أولئك الذين يتعاملون بالربا! كم هم أولئك الذين يعقون آباءهم، ويقطعون أرحامهم… وغيرهم كثير وكثير. وهؤلاء كلهم مع اختلاف جرائمهم، وتعدد معاصيهم؛ لا يزالون يعيشون تحت ظل دائرة الإسلام، الزناة والقتلة، والبغاة، وقطاع الطرق، هؤلاء كلهم مع عظم جرائمهم لا يزالون مسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
وإني محدثكم اليوم عن أمر عظيم وفريضة من فرائض الله، بل هي عمود هذا الدين، من ضيعها فهو لما سواها أضيع، من تركها لم يقبل منه صيام ولا زكاة، ولا حج، ولا غير ذلك.
إني محدثكم عن عبادة عظم الله شأنها، وضاعف أجرها، وفرضها من فوق سماواته، وجعلها أول شيء يحاسب عليه الإنسان بعد حياته، إني محدثكم اليوم عن الصلاة التي هي عمود هذا الدين، والتي من تركها فقد انهدم دينه، وخرج من دائرة الإسلام، وصار أعظمَ جرما من الزاني والسارق ومدمن الخمر، بل قد انقطعت صلته بربه وخسر الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين!
وأقسم بالله لولا السآمة والملل لجعلنا حديثنا دائما عن الصلاة؛ لما لها من قدر عند الله، ولكثرة قطاع الصلاة الذين ما تُرى وجوههم في بيوت الله إلا في الجُمعات، والمناسبات.
أيها المسلمون، لقد عظَّم الله من شأن هذه العبادة الجليلة، وفرضها على نبيه بلا واسطة، وفي أعظم مكان، كما أمر بها أنبياءه ورسله، فقال تعالى مخاطبا نبيه محمدًا – صلى الله عليه وسلم -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال مخبرًا عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، وقال عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]، وقال آمرًا نبيَّه موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وخاطب بني إسرائيل بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
ولقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام أمته في الصلاة في غير ما موضع في حياته، حتى وهو يودع أمته في آخر حياته؛ فقد كان يقول: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم الصلاة الصلاة وما ملكت ايمانكم» ![1]، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فلقد روى الترمذي وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة؛ فإن صلُحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من فريضته. ثم يكون سائر عمله على هذا»[2].
وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟- أي: من وسخه شيء- قالوا: لا، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا»[3]..
وروى البخاري ومسلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقال الرجل ألي هذه يا رسول الله؟ – أي: نزلت فيَّ خاصة – أهي خاصة بي يا رسول الله؟ قال: «لجميع أمتي كلِهم»[4].
وروى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، ما لم تُغش الكبائر»[5].
وروى مسلم رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيُحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله»[6].
نعم أيها الناس، إن الصلاة ماحية للخطايا، مكفرة للذنوب، إن الصلاة كما – قال ابن القيم رحمه الله: «جالبةٌ للرزق، حافظة للصحة، رافعة للأذى، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن؛ لأنها صلة به عز وجل وعلى قدر صلة العبد بربه، يفتح الله له من الخيرات أبوابها، ويغلق عنه من الشرور أسبابها»[7].
نعم – والله – إن في الصلاة لنورًا في الوجه، وبركة في الرزق، وإن أردتم أن تعرفوا ذلك فانظروا في وجوه الذين لا يصلون؛ ترون الوحشة، ترون الظلمة، ترون الضيق في وجوههم. انظر إلى الذي لا يصلي تراه معرضا للحوادث، والأمراض، والمشاكل والهموم والغموم، تراه، وترى ماله منزوع البركة، لا تسمعه إلا وهو يشكو من ضيق الرزق، وعدم البركة في ماله أو مرتبه، أو عدم صلاح أولاده.
فالصلاة صلة بين العبد وربه، فإذا ترك الصلاة فقد قطع صلته بخالقه، فإذا تركت الصلاة – يا تارك الصلاة – فأبشر بالضيق، وأبشر بالضنك، وبكل ما يسوؤك؛ لأنك إذا تركت الصلاة فقد انقطعت صلتك بالله عز وجل ومن فقد الله ماذا وجد؛ ومن وجد الله ماذا فقد؟!
أيها المسلمون- عباد الله – كما رغب النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة فقد رهب، وتوعد من تركها، بل وحكم بالخروج من دائرة الإسلام.
فقد دل الكتاب العزيز، والسنة النبوية على أن من ترك الصلاة فقد كفر كفرًا مخرجًا من الملة، فأما القرآن الكريم فيقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11]، ومفهوم الآية: أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخوانا لنا في الدين. ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي ولو عظمت؛ ولكن تنتفي بالخروج من دائرة الإسلام؛ نسأل الله السلامة والعافية!
وأما ما ورد من السنة المطهرة؛ فقد روى الإمام مسلم رحمه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة»[8].
وروى أصحاب السنن، عن بريدة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر» ![9].
وأما أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال الأواب عمر بن الخطاب رضي الله عنه «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة» !.
وقال عبدالله بن شقيق رحمه الله: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة»[10].
كيف لا وهي عمود هذا الدين، ولا يصلح البناء إلا بأعمدة؟! هذا من جهة الأثر، أما من جهة النظر الصحيح فهل يعقل، هل يعقل أن رجلًا مسلمًا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ وهو لا يصلي؟! وهو قطاع الصلة بينه وبين الله؟! هل يعقل أن رجلًا أوجده الله، وخلقه من أجل عبادته ومع ذلك هو لا يصلي؟ هل يعقل أن رجلًا متعه الله بالصحة والعافية، ورزقه من حيث لا يحتسب، وهو لا يصلي!؟ إذًا: من ترك الصلاة فقد كفر، ومن ترك الصلاة فلا حظ له في الإسلام، وإذا تبين أن تارك الصلاة قد كفر كفرًا مخرجًا من الملة؛ فإنه يترتب عليه أحكام عدة، اسمعوها وعوها، وبلغوها، بلغوها لأولئك الذين يعيشون- ولا ندري والله كيف يعيشون – حياة الضنك، والبؤس، والكآبة، بلغوها لأولئك الذين يُدعون إلى السجود وهم سالمون، لأولئك الذين ما انحنت جباههم للسجود بين يدي الله، وقد متعهم بأسماعهم وأبصارهم، وقد رزقهم الله من حيث لا يحتسبون ولم يخطر على بالهم!
أول هذه الأحكام: أنه لا يصح أن يُزوج، فإن زُوج وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
اسمع اسمع يا من تجعل المال، والجمال والحسب، والنسب الركن الأعظم، والمطلب الأول لمن تقدم لابنتك، وجاء يطلب فلذة كبدك، وتدقق عن تفاصيل حياته، وتهتم بعمله ومهنته، وإذا جئت إلى صلاته ودينه وعبادته قلت: سيهديه الله! سيصلحه الله! إلى غير ذلك من الكلمات التي تنبيك عن ضياع الرجولة والأمانة عند بعض الآباء، ومن لهم ولاية على النساء، والله المستعان.
ألا فليسمع هؤلاء، وليسمع بعض الآباء، أن من زوج ابنته بتارك الصلاة؛ فقد ضيع الأمانة، نعم قد ضيع الأمانة التي حمَّله الله إياها، والتي في مطلعها الاهتمام بتربية الأبناء.
ثانيًا: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له؛ فإن نكاحه ينفسخ، ولا تحل له الزوجة؛ للآية التي سمعناها.
ثالثًا: أنه من ذبح وهو لا يصلي فإن ذبيحته لا تؤكل، ولو ذبح اليهودي أو النصراني فإن ذبيحته تؤكل. فتكون ذبيحة هذا الذي لا يصلي – والعياذ بالله – أخبث من ذبيحة اليهود والنصارى!
رابعا: من ترك الصلاة فإنه لا يحل له أن يدخل مكة، أو حدود حرمها، لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
خامسًا: أنه لو مات أحد أقارب هذا الذي لا يصلي، فلا حق له في الميراث. فلو مات أبٌ وترك ابنًا لا يصلي؛ فلا يحل له أن يأخذ من التركة شيئا، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: «لا يرث المسلمُ الكافر، ولا الكافر المسلم» [11].
سادسًا: من مات وهو لا يصلي، فلا يحل لنا أن نغسله، وأن نكفِّنه، أو نصلي عليه، وندفنه في مقابر المسلمين، بل نحفر له حفرة، وندفنه بثيابه؛ لأنه لا حرمة له.
سابعًا: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة؛ لأنه كافر لا يستحقها، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
هذا هو حكم الدين في تارك الصلاة لرب العالمين، وهذا هو قول جماهير علماء المسلمين، هذا لنعلم عظيم قدر الصلاة، وأن الإنسان إذا لم يصلِّ فليس له قدر ولا كرامة عند الله.
ألا فليسمع هذا الكلام من ابتعد عن بيوت الله، وفرط في عمود دين الله، فليسمع هذا الكلام كل من يتقلب في نعم الله، ولم يؤدِّ فريضة الله، فليسمع هذا الكلام كل من استرعاه الله علا رعيهْ، وجعل لهم أزواجًا، وذريهْ، ومع ذلك لا يصلون ولا يسجدون لرب البرية، فليعلموا أن الله سيسألهم عنهم، وسيحاسبهم على تقصيرهم في رعيتهم، الذين يعيشون معهم وكأن الأمر لا يعنيهم، فليسمع هذا الكلام أولئك الذين أبعدتهم المقايل عن بيوت الله، وليسمع – كذلك – هذا الكلام الذين يفتحون بيوتهم ويجعلونها مقايلَ لقطاع الصلاة، ومقرا
للقيل والقال والطعن في أعراض المسلمين، ألا فلنسمع كلُنا قولَ نبينا عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر» ![12].
أسأل الله أن يجعل الصلاة قرة أعيننا، وأن يعيننا على عمود ديننا، وأول ما نحاسب عليه من أعمالنا، وأن يجعلنا من المحافظين عليها في أوقاتها.
أيها المسلمون عباد الله، وبعد أن سمعنا ما سمعنا من خطر ترك الصلاة، وما يترتب على تركها من أحكام دينية ودنيوية، لابد من وقفة أخرى، مع طائفة أخرى، هم أخف جرما، وأقل خطرًا من تارك الصلاة، فيا ترى من هؤلاء؟ إنهم أولئك الذين يتخلفون عن حضور الجماعات، إنهم أولئك الذين يتقاعسون عن المساجد والصلوات، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وتوعَّد، ورهَّب وهدَّد من يتخلف عن الجماعة أن يحرق عليه بيته في النار، فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم» ![13].
وفي رواية: «لولا ما فيها من النساء والصبيان».
وروى مسلم رحمه الله عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: «من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى. ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»[14].
وروى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى؛ فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسولَ الله أن يُرخص له فيصلي في بيته؛ فرخص له. فلما ولى دعاه، وقال: «هل تسمع النداء» ؟» قال: نعم. قال: «فأجب»[15].
يا ويل من يسمع النداء ولا يلبي داعي الله، يا ويل من يسمع (الله أكبر) (حي على الصلاة)، (حي على الفلاح) وهو بكامل صحته، وبسمعه وبصره، التي وهبه الله، ولم يستجب لنداء الله!
وروى الإمام أبو داود، وصححه الألباني رحمه الله عن عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ فحيَّ هَلًا»[16] – أي تعال، أقبل – وإن كنت أعمى، لا عذر لك بفقد عينيك ما دمت تمشي برجليك، ما دمت تسمع الله أكبر فحي هلا، أقبل وهلم، مادام عندك قدرة على حضور الجماعة مع المسلمين.
تأملوا – بالله عليكم – تأملوا إلى هذه التوجيهات التربوية، وإلى هذه العناية النبوية، بهذه الشعيرة وهذه الفريضة العظيمة.
تأملوا كيف أكد النبي – عليه الصلاة والسلام – على حضور الجماعة، بل قد هم بإحراق بيوت الذين يتخلفون عن الجماعة، لولا ما فيها من النساء والصبيان، تأملوا – رعاكم الله- كيف حكم ابن مسعود رضي الله عنه على الذي يتخلف عن الجماعة بأنه منافق، انظروا كيف قال النبي – عليه الصلاة والسلام – للذي سأله أن يرخص له، ويسقط عنه الجماعة – وهو أعمى- نعم، وهو أعمى.
إن العمى أن ترى العينين مبصرة ** لكنها من هدى الباري بلا بصـــــــرِ
قالوا بلا بصر يمشي فقلت لهـــم ** عمى البصيرة أقوى من عمى بصرِ
وآخر يأتي ويقول: يا رسول الله المدينة كثيرة الهوام والسباع، ولم يكن – والله – هناك إضاءات، ولا سيارات – ومع ذلك «أتسمع النداء» ؟» قال: نعم قال: «فأجب»، والآخر قال له – رغم مقدماته، وأعذاره، ومبرراته -: حي هلا، أي لا أجد لك رخصة، تأملوا – رحمكم الله – تأملوا، ثم تأملوا، ثم انظروا إلى المتخلفين عن المساجد في هذه الأيام، انظر إلى بعض الناس وهو يسكن بجوار المسجد ومكبرات الأصوات تحيط ببيته من كل مكان؛ ومع ذلك ما يتحرك له ساكن، وكأنه من أصحاب الأعذار الذين يصلون في البيوت، والمساكن، وبسبب هؤلاء يخرج الأجيال الذين يتركون الجماعات، ويصلون في بيوتهم كما تصلي النساء القاعدات، وإلا – بالله عليكم – كيف سيتعود اولادنا على المساجد إذا كان الواحد منهم يرى أباه في البيت قاعد، بل تأملوا كيف رغب الإسلام ببناء المساجد، وكيف أضافها الله لنفسه، ورتب الفضل، والثواب والأجر لمن بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة.
كل هذا لكي يرانا الله صفًا واحدًا في بيته، ولكي تظهر فيه أعظم شعيرة في دينه، إلى غير ذلك من المقاصد الكريمة التي تظهر في هذه البقاع العظيمة. وإنه – والله- من المؤسف جدا في هذا الزمان، ما نراه في هذه الأيام في غير ما مكان، حين تكون بعض المساجد محاطة بمئات البيوت من جيرانه، ولكنك لا تراهم، أو لا ترى أكثرهم إلا في الجُمعات أو المناسبات، والله المستعان.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة»[17].
فالجماعة الجماعة يا عباد الله، الجماعة الجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة.
وقد كان سلف هذه الأمة رحمهم الله يحرصون أشد الحرص على صلاة الجماعة، بل كان بعضهم يبكي إذا فاتته الجماعة.
فقد كان سعيد التنوخي رحمه الله: «إذا فاتته الجماعة بكى ».
وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله -: «ما فاتتني الصلاة في الجماعة أربعين سنة».
وكان الربيع بن خثيم رحمه الله: يقاد إلى الصلاة وبه الفالج، فقيل له: لم هذا وقد رخص الله لك؟ قال: « إني أسمع حي على الصلاة».
وهذه قصة عجيبة لامرأة في ليلة زفافها قبل أن تُزف إلى بيت زوجها، كان قلبها متعلقًا بربها، وكانت الصلاة قرةَ عينها، فأذن المؤذن لصلاة المغرب، فأرادت أن تتوضأ، أرادت أن تغسل يديها ووجهها، بعد أن انفسخ وضوؤُها، ومن عادة النساء في هذا الزمان أنهن يصلين المغرب بوضوء العصر؛ حتى لاتزال المكاييج والحوامير، وعشرات الآلاف التي قد صُبت على وجه العروس، فأنكرت عليها أمها، ونهرنها أخواتها وزجرنها لأن المساحيق، والمكاييج، سيذهبهن الماء من وجهها، لكنها أبت إلا أن تقترب من ربها، أبت إلا أن تحافظ على صلاتها- ولو كانت في أسعد أيام حياتها، كيف لا وقد جعلت الصلاة قرة عينها، ومنبع سعادتها، ومصدر عزها وحياتها! أبت إلا أن تصلي صلاتها، وألا تقطع صلتها بربها، ثم بسطت سجادتها بعد أن استقبلت قبلتها، ثم كبرت وركعت، ثم سجدت، وبينما هي في سجودها، بين يدي ربها، قبض الله روحها وهي ساجدة بين يدي ربها وخالقها، أحبت لقاء الله فأحب لقاءها، تبعث يوم القيامة وهي ساجدة بين يدي ربها، فبعد أن كان سيزفها أهلها إلى زوجها، تزفها الملائكة إلى ربها!
هكذا الصلاة تفعل بأصحابها، وهكذا تكون خاتمة النفوس التي تعلقت بخالقها.
هذه هي الحياة الطيبة، هذه هي الحياة الكريمة، هذه هي الحياة التي حرمها من حرم من أصحاب العيشة الضنكة.
قل لي بربك كم هم أولئك أصحاب المحلات الذين يسمعون النداءات ولا يجيبونها، كم هم أولئك أصحاب البقالات والناقلات والسيارات، الذين يسمعون النداء ولا يوقفونها أو يقفلونها؟! كم هم أصحاب كرة القدم؟! كم هم أصحاب المسلسلات والأفلام الهابطات؟! كم هم أولئك المخزنون الذين يسمعون النداء، ولا ينقاد أحد منهم لرب الأرض والسماء، بل تمر الساعات وهم على حالة عافانا الله منها؟! وأعظم البلايا والرزايا التي تحدث من هؤلاء -هدانا الله وإياهم- من يجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، أوبين المغرب والعشاء، من أجل هذه الشجرة التي ما أقامت للبلاد قائمة، ما السبب يا فلان؟ قال: حتى لا يضيع طعم القات، الله المستعان! أما تستحي من الله؟! أما تخاف من الله؟! وبكل جراءة تقول هذا، من الذي أذن لك، وأفتاك بهذا؟ من الذي أباح لك أن تجمع بين الصلوات، وتصلي الصلاة في غير وقتها؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
بالله عليك لو كنت مدرسًا، وأحد طلابك يتأخر عن درسك دقائق معدودة، ماذا ستظن بهذا الطالب؟ ستظن أنه يسخر بك، ولا يبالي بدروسك ووقتك، إلى غير ذلك من الظنون التي ستصبح بها فيمن لا يبالي بدروسك، وليس كمثل الله شيء، والله يقول: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
ألا فليعلم هؤلاء وغيرهم أن من صلى الصلاة قبل دخول وقتها ولو بدقائق ولحظات، فإن صلاته باطلة بإجماع العلماء.
ختامًا أيها المسلمون، الله الله في الصلاة، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم! الصلاة الصلاة يا من هجرتم بيوت الله، الصلاة الصلاة يا من تركتم تشكون الأوضاع والأوجاع! مصيبتكم ووجودكم في الأرض واللهِ أعظم من الأزمات والنكبات، بل أنتم من أسبابها، وكم قلتم أمراض البلاد وأنتم من أمراضها.
نعم أيها الناس ليست مصيبتنا في انعدام المشتقات النفطية، ولا في فقد التيارات الكهربائية، ليست مصيبتنا في انعدام الماء والكهرباء، ولا في لقمة العيش والرخاء، مصيبتنا العظمى في قطاع الصلاة الذين يعيشون بين أظهرنا؛ لأن مصيبتهم في الدين.
وكل كسر لعل الله جابره ** وما لكسر قناة الدين جبران
أسأل الله العظيم بمنِّه وكرمه أن يجعل الصلاة قرةَ أعيننا، وأن يجعلنا من المحافظين عليها في أوقاتها، وبخشوعها وركوعها وسجودها.
[1] رواه الحاكم في مستدركه (4388).
[2] رواه الترمذي (413).
[3] رواه البخاري (528)، ومسلم (667).
[4] رواه البخاري (526)، ومسلم (2763).
[5] رواه مسلم (233).
[6] رواه مسلم (228).
[7] زاد المعاد (4/ 304).
[8] رواه مسلم (82).
[9] رواه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079).
[10] رواه الترمذي (2622).
[11] رواه البخاري (6764)، ومسلم (1614).
[12] رواه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079).
[13] رواه البخاري (644) ، ومسلم (651)
[14] رواه مسلم (654).
[15] رواه مسلم (653).
[16] رواه أبو داود (553)
[17] رواه مسلم (649)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________________________________________
الكاتب: يحيى بن حسن حترش
Source link