منذ حوالي ساعة
لا شيء أنفع لاستدامة الودِّ بين المسلمين من التواصلِ برحمةٍ، والتقاربِ بإحسانٍ، وأنسبُ الأوقاتِ لذلك عند إقبال النفوس، وانشراح الصدور في زمن الأفراح والمسرَّاتِ، لذلك كانت الأعيادُ في الإسلام جامعةً لأبناء الأمة في مظهر من التآلف والتآزر والتلاحم والتكاتف
لقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يحيا البشر على وجه البسيطة حياةً جماعيةً قوامها التعاون والتناصر والتعارف والتواصل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وشرع لهم من الشرائع ما يضمن لهم تقوية الروابط والعلاقات فيما بينهم، ليقيموا أمر الله في الأرض التي استُخلِفُوا فيها، فيعمروها بما يرضيه سبحانه، والأمم قد تعاقبت يَخلُفُ بعضها بعضًا، ولكلٍّ منها وجهتها وسبيلها، حتى كانت آخرَها أمةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي جعلها المولى خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناس؛ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو الخلق إلى الحق والخير. ولن تقوم أمتنا بالدور الرياديِّ الذي وكِّلَ إليها إلا إن كانت قويةً متماسكةَ البنيانِ، أبناؤها على قلبِ رجلٍ واحدٍ يشدُّ بعضُهم أَزْرَ بعضٍ، ومحال أن يحقِّقَ المسلمون ذلك إلا إن اعتصموا بحبل الله جميعًا، وكان أُسُّ اجتماعهم أوثق عرى الإيمان الحب في الله. قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]، فلا بدَّ من تعاهد غرسة الحب في قلب العبد ورعايتها، لئلا تعتريَها الآفاتُ فتذبلَ أو تموتَ.
ولا شيء أنفع لاستدامة الودِّ بين المسلمين من التواصلِ برحمةٍ، والتقاربِ بإحسانٍ، والالتقاءِ على البرِّ والتقوى والإيمانِ، وأنسبُ الأوقاتِ لذلك عند إقبال النفوس، وانشراح الصدور في زمن الأفراح والمسرَّاتِ، لذلك كانت الأعيادُ في الإسلام جامعةً لأبناء الأمة في مظهر من التآلف والتآزر والتلاحم والتكاتف، يُعينُ قويُّهم ضعيفَهم، ويُنفقُ غنيُّهم على فقيرِهم، فيومُ العيد في شرع الله يومٌ للمواساة والموالاة، يخرج المسلمون جميعُهم صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً مُعظِّمين لشعائر ربهم، يجأرون بصوتٍ واحدٍ وذكرٍ واحدٍ ـــ الله أكبر ـــ ويقفون خلف إمامٍ واحدٍ مُخبتين للربِّ الواحدِ في صفوفٍ يتساوى فيها الأمير والفقير والعالم والجاهل والأبيض والأسود، فإذا ما أدَّوا حقَّ الله عزَّ وجلَّ انصرفوا لتأدية حقِّ أخوة الدين، فالتزاور في العيد من أجلِّ القربات والطاعات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة: النبيُّ في الجنة، والصِّدِّيقُ في الجنة، والشهيدُ في الجنة، والمولودُ في الجنة، والرجلُ يزور أخاه في ناحيةٍ من نواحي المِصْرِ لا يزوره إلا لله في الجنة». وقال عليه السلام فيما يرويه عن ربِّه: «قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ».
وأيُّ غنيمةٍ أعظمُ من الفوزِ بمحبة الله ودخولِ جنته، يُكرِمُ بها الربُّ عبدَهُ إنْ هو زارَ أخاه وتحبَّبَ إليه. أفيُعقَلُ أن يتدابرَ مسلمان بعد هذا الترغيب، أو يتقاطعا ويتهاجرا مع هذا الوعد ممن لا يُخْلَفُ وعدُهُ؟ أيتقاعسُ مؤمنٌ ويتكاسلُ عن وصلِ إخوانه، وقد جعله اللهُ في سياقٍ واحدٍ مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
إنَّ البليةَ كلَّ البليةِ تكمنُ في هيمنة الفكرة الأرضية، وسيادة النظرة المصلحية في مجال العلاقات بين الناس اليوم، فغيابُ المفهومِ السماويِّ والمرادِ الإلهيِّ من التواصلِ الاجتماعيِّ أدَّى إلى تهاونٍ كبيرٍ في هذا الجانب حتى على صعيد الأقارب من أبناء العمِّ وأبناء الخال، بل من الإخوة الأشقاء في كثيرٍ من الأحيان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنْ لم يجتمعِ الأهل والأصحاب والجيران والأحباب في العيد، فمتى يكون الاجتماع؟
ولَعَمْرِي كيف يفرحُ بالعيد من يقبع في بيته لا يزور ولا يُزار؟ وكيف يهنأُ بحياته من يتقوقعُ على نفسه وينعزلُ عن أهله وخُلَّانه؟ إنَّ مجالسَ العيدِ فرصةٌ رائعةٌ حريٌّ بالمسلم أن يستغلها فيفتح قلبه ويُقبِل على من حوله، لتتآلف النفوس، وتتصافح الأرواح، مع التأدُّب بآداب الإسلام؛ من حسن العشرة، والبعد عن التكلُّف، والحرص على الإيناس بطيِّب القول والفعل، وبذل النصح، واستغلال الوقت فيما ينفع من أمور الدنيا والدين. قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
إنَّ الفرحَ بالعيد فرحان، مذموم ومحمود، فالمذموم ما خالطه شيء من محارم الله، أو أدَّى إلى التقصير في حقٍّ من حقوقه، أو كان مقتصرًا على الفرح بالمأكل والمشرب والملبس، والمحمود ما التزم فيه صاحبه أمر ربه، وقام بواجبه تجاه أهله وعياله، ووفَّى بحقوق إخوانه وأصحابه، ولم ينسَ نصيب نفسه. فاجعل اللهم فرحنا فيما يرضيك، وأكرمنا بفضلك ورحمتك {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
____________________________________________
الكاتب: رامي بن أحمد ذوالغنى
Source link