عن شبابه فيما أبلاه – إيمان الخولي

لماذا الحديث  الشباب؟ لأنه سن الهمة العالية والآمال العريضة، وسن العطاء والتضحية والقدرة على التحمل، وسن القوة البدنية التي تمكّن من السير وتحمل الصعاب.

لماذا الحديث  الشباب؟   

لأنه سن الهمة العالية والآمال العريضة، وسن العطاء والتضحية والقدرة على التحمل، وسن القوة البدنية التي تمكّن من السير وتحمل الصعاب.

فهل توقف الشاب يومًا وفكّر؟ ماذا سيقول لله يوم القيامة؟ إذا سأله عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما انتفع به، وعن جسمه فيما أبلاه..

نجد كثيرًا من الفتية والشباب يسعون في بناء الأجسام والعضلات..

جميل أن يكون المؤمن قوي البنية، لكن فيمَ يستعمل قوته؟ هل يكون ذلك في النفع لنفسه وخدمة دينه ومساعدة الناس؟ أم فقط في جذب الأنظار؟

هل اهتمامات الفتى تنصب فقط في التفاهات ونسبة المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي والاسترسال مع الأهواء؟!

وما أكثر الأفكار التي صدّرتها مواقع التواصل الاجتماعي! التي تعجّ بالسخافات وتسليط الضوء حول كيفية تحقيق الثروة والمال في سن مبكرة، والتشجيع على ترك الدراسة؛ بحجة أن النحاج في تحقيق الشهرة لا يحتاج إلى دراسة من وجهة نظرهم.

وهذا ما أكّده نظام التعليم الذي انتقل من صناعة المعرفة والخبرات التي تؤهل الشاب للتخصص الذي يريده، إلى مجرد الخادم في سوق العمل، فيزهد الشاب في مجالات التعليم بشكل عام؛ لأن ليس لها سوق عمل، فيبدأ بالبحث عن وسيلة للكسب السريع.

والتي بدورها أدت إلى اختلال المقاييس والمعايير الأخلاقية والتخلي عن كثير من المبادىء والقيم من أجل الوصول إلى الشهرة والترف.

ما الذي حدث؟ ولماذا وصل الشباب لهذا المستوى؟

ألم تسمع قول رسولك الكريم: “ «اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك..» “.

فلنتأمل في قصص القرآن، فقد ضرب الله عزّ وجلّ لنا المثل.. بمثل هذا السن، سن الفتوة..

في البداية.. تأمل معنى الفتوة عند السلف الصالح، قال أحد التابعين في معنى الفتوة: منزلة عالية تجمع بين الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، وتحمل الأذى منهم.  

قال الفضيل في معنى الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوة.

وقال الإمام أحمد في الفتوة: ترك ما تهوى لما تخشى.

إنها معاني تحمل معنى المسؤولية والأخلاق الكريمة ولين الجانب، فهل أدرك الفتى هذه المعاني؟ أم أنه ترك نفسه للتفاهات واللهو والعبث؟ أهذا ما كان عليه الصحابة والصالحون؟!    

عندما تحدث القرآن عن إبراهيم عليه السلام في بداية دعوته لقومه، ذكر أنه كان في سن الفتية، يقول الله عزّ وجلّ: “قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ”، العمل الذي قام به أنه حطم أصنامهم، وكان يدعوهم إلى عبادة الواحد الأحد، إذ يقول سبحانه: {“قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”} .

كيف لفتى في هذه السن أن يدخل في تَحَدٍّ مع أهل قريته؟ لم يخف من بطشهم وانتقامهم منه، بعد ما فعله بأصنامهم، هل هذا من قوة الإيمان والثقة أنه على حق وأنهم على باطل؟ يخبرنا القرآن على لسانه: {“وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”} .

كان يعلم أن مصدر الأمان في هذه الحياة هو أن تكون مع الله، وهو مَن يؤمّنك مما تخاف.

تأمل معي قصة أهل الكهف، هم فتية في سن الشباب، تركوا الأهل والدور والمتاع، وفروا بدينهم من الملك الجبار عابد الأصنام؛ حفاظًا على دينهم.

يقول ابن كثير في معنى فتية: إنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله هم من الشباب. وأما المشايخ من قريش، فبقيت عامّتهم على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.

أولئك الشباب فضّلوا المكوث في الكهف بعيدًا عن الشرك، فربط الله على قلوبهم، وسخّر لهم الكون من شمس وأرض، وأعمى عنهم أعين البشر، وجعلهم مثلًا يُحتذى به، وخلّد ذكرهم في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة؛ ليكونوا عبرةً لمَن هم في مثل سنهم، فحققوا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن ترك شيئًا لله، عوّضه الله خيرًا منه.

فماذا عن الشاب اليوم؟ هل يقوى على ترك معصية في سبيل الله؟

وماذا عن الفتاة؟ هل تمسّكت بحجابٍ يرضي الله؟

هل تمسّكوا بقيام الليل وصيام النهار؟ وسط مغريات الحياة ومتاعها..

كم ضحىّ هؤلاء الفتية! في سبيل التمسك بدين الله، وإعلاء كلمة التوحيد.

وقصة الغلام والساحر..

الغلام الذي ابتعثه الملك؛ ليتعلم من الساحر ويعمل بالسحر، فأراد الله له طريق الهداية والإيمان، فكان يتردد على راهبٍ يتعبد في صومعته، وهو في طريقه للساحر، فتعلّم منه طريق الخير والصلاح، واختبره الراهب؛ حتى يثق في أنه أصبح مؤمنًا حقًّا، فلم يفتنه الملك وما عليه من الهيبة، وأصبح يدعو الناس إلى عبادة الواحد الأحد، فأمر الملك بقتله، فلم يفلح مرةً بعد مرةٍ.

فتقدّم الفتى في شجاعةٍ إلى الملك؛ ليرشده إلى الوسيلة التي يقتله بها، وهي أن يجمع الناس في صعيدٍ واحد، ويقول باسم الله رب الغلام، ويضع السهم في كبد القوس، فإذا انطلق، فهو قاتله، فكانت الثقة بالله والتوكل عليه في مواجهة العدو بإخلاص، والدعاء الذي ينجي المسلم من المهالك.

كان من الممكن أن يتعلم الغلام السحر وتمضي حياته هكذا.. يصبح ساحرًا في بلاط الملك! لكنه تعلّم الخير والصلاح من الراهب، وانقطع عن المجتمع يجلس في صومعته، يصلي ويصوم, وفضّل أن يترك أثرًا طيبًا في مجتمعه، ويأخذ بيد أفراده للجنة، وكانت الطريق ممهدةً له للإتيان بالمال السهل، ولكنه اختار أن تكون له قضية، وأن يضحى بمصلحته الشخصية في سبيل إعلاء كلمة الحق.

ما أعظم تفكيره هذا! تفكيره الذي هداه له الله عزّ وجلّ، فكان قدوةً لغيره، وكان من جنود الله في الأرض.

والسؤال هنا..

لماذا اختار الملك غلامًا صغيرًا ليعلمه السحر؟ لِمَ لَمْ يختر شيخًا كبيرًا؟

لأن القدرة على التعلم والاستيعاب فى سن صغيرة أفضل، وأن تصل إليه المعلومات دون أن تكون له خلفيات ثقافية مسبقة تؤثر عليه.

لذلك.. كان النبي يزكّي نشأة الشباب على الطاعة، فكما ورد في كلام النبي، عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: “شاب نشأ في طاعىة الله” رواه الشيخان، وكلمة نشأ، أي: تربى منذ صغره على طاعة الله والعبادة وفهم الدين بمفهوم شامل، وأن الإسلام منهج حياة.

وماذا عن الفتية في عصر النبوة؟  

فهذا زيد بن ثابت..

أسلم وهو ابن أحد عشر عامًا، تربّى يتيمًا، حيث قُتل أبوه قبل الهجرة، وتبنّاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذات يوم.. طلب منه أن يتعلم لغة اليهود، فأتقنها في نصف شهر، فكان يقرأ له رسائل  اليهود، بالإضافة إلى أنه كان من كُتاب الوحي، فقد عهد إليه الخليفة أبو بكر الصديق بجمع القرآن، تخيل! القرآن الذي بين يديك الآن.. قد شارك في جمعه هذ الشاب!

وماذا عن شبابنا اليوم؟ أين هم من إتقان اللغة وحفظ القرآن والدور في الرسالة؟

بل إننا نرى من الشباب مَن يتقن اللغات المختلفة؛ ليتباهى بها بين أقرانه، أو ليسافر ليعمل بها في دول الغرب، فتبتلعه هذه الدول، ويفقد هويته هناك.

وهذا هو الأرقم بن أبي الأرقم..

صاحب الدار التي كان يجتمع فيها النبي وصحابته خفيةً عن قريش؛ ليتدارسوا القرآن وما نزل من الوحي، كان عمره سبعة عشر عامًا عند بعثة النبي، فتح بيته للدعوة في سن صغيرة، ما هذا الوعي العميق الذي كان لديه؟! وما أعظم تضحيته!

وهذا شاب آخر.. جابر بن عبد الله..

كان عمره ثمانية عشر عامًا يوم مات أبوه، وترك له إخوته الصغار، فيسأله النبي ذات يوم عن زوجته، هل هي ثيب أم بكر؟ فقال له إنها ثيب، فقال له رسول الله: “هلا تزوجت بكرًا، تلاعبها وتلاعبك”، فقال: يا رسول الله إن لي إخوة، فخشيت أن تدخل بيني وبينهم”. لقد اختار امرأةً واعية تقوم عليهم وتحتويهم، بدلًا من أن تفرق بينه وبينهم.

بينما يفعل آخر غير ذلك.. يفكر فقط في نفسه ورغباته، ويغفل عن رعاية الأيتام.

وهذا علي بن أبي طالب..

حين نام في فراش النبي يوم الهجرة، انظر لصغر سنه، كيف يقدم هذه التضحية؟! وهو يعلم أنهم قد يقتلوه،  إنه الإيمان الذي تربى عليه في بيت النبوة منذ الصغر.

وابن عباس..   

حين مات النبي كان عمره عشرة أعوام، ذلك الغلام الذي دعا له رسول الله: “اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل”، وكان عمر بن الخطاب يُجلسه مجلس الرجال، ويطلب منه الرأي، فعن ابن عباس، قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم! فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله: {﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾}  [النصر: 1]، فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا. فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾} [النصر: 1]، وذلك علامة أجلك: {﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾} [النصر: 3]، فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول.

أرأيتم فتى يزاحم الشيوخ في هذا العلم؟! لأنه علم من البداية أنه لم يخلق عبثًا، وأن هناك يوم سيأتي ويسأل عن شبابه فيما أفناه.

وهذا هو الشافعي..

صاحب المذهب الفقهي الذي يتبعه كثيرٌ من المسلمين، كم كان عمره عندما جلس للفتوى؟ بعد موت أبيه وهو طفل صغير، سافرت به أمه إلى مكة، وأرسلته إلى البادية؛ ليتعلم العربية والفصاحة، فلازم قبيلة هذيل في حلّهم وارتحالهم، حتى حفظ أشعارهم، وحسنت لغته، وأصبح حُجةً في اللغة.

ونصحه بعضهم _لنسبه الشريف وجودة قريحته_ أن يتعلم الفقه، فعمل بهذه النصيحة.

ولما عاد الإمام الشافعي من البادية، عكف على تعلم الفقه، وأذن له بالإفتاء وهو دون سن العشرين.

مسيرة علّامة تبدأ من سن صغيرة.. سن العاشرة! وأيّة فطنة لهذه الأم؟! وضعت له هدفًا، وعاشت لتحقيق هذا الهدف في ابنها، فيكون فقيه عصره، وكان من كلماتها له: “تعلم يا بني، وأكفيك بمغزلي”.

هي أم أدركت قيمة أن يكون لها ابن، فاستثمرت فيه عمرها، وهو فتى أدرك قيمة ما فعلته أمه من أجله.

ومن نماذج الفتيان المشرفة أيضًا.. السلطان محمد الفاتح..

الذي تربى على يد الشيخ آق شمس الدين، الذي بثّ فيه الهمة العالية، والتطلع إلى معالي الأمور، منذ كان طفلًا صغيرًا، فكان يمر به على الساحل، ويريه أسوار القسطنطينية الحصينة الشاهقة، ويخبره بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلًا من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم: “لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها”، فكان يكرر عليه الحديث، حتى نمت فيه الهمة والعزيمة، فكان هو فاتحها، وتحققت فيه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم.

لقد تعلم فنون القتال وقيادة الجيش، كما كان على قدر عالٍ من الثقافة والعلم، ولما جاء اليوم الموعود، شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين؛ ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة، قال: حسنًا! عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر!

وحاصرها لمدة واحد وخمسين يومًا، حتى سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين من قبله، وكان له الفضل بعد الله في إسلام الكثير من أهل أوروبا، مثل: البوسنة والهرسك، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاثة وعشرين عامًا.

وغيرهم الكثير من الشباب الذين أيقنوا بالهدف، وآمنوا بالرسالة, وثبتوا عليها حتى الموت.

كانوا كذلك، حيث إنهم قد تربوا على التوازن في الحياة، يجمعوا بين حسنة الدنيا والآخرة، تراهم الرهبان بالليل، والفرسان بالنهار، ترى أحدهم في ليله قائمًا بين يدي الله يبكي من خشيته، حتى إذا أصبح الصبح ونادى المنادي: حي على الجهاد، فتراه يعدّ العدة، ويركب جواده، يصول ويجول في ساحات المعركة، كفارس مغوار.

هؤلاء فهموا الإسلام فهمًا صحيحًا، فهو يجمع بين العبادات والمعاملات، ويوازن بين حرية الشخص ومصلحة المجتمع، ويشمل علاقات أسرية ودولية، الحدود والتشريعات، السلم والحرب، يوازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد، فإن ديننا لا يدعو إلى الرهبانية، ويعرف أن للجسد حقه، وللنفس حقها، وكذلك للأهل، كما بيّن لنا رسول الله حين قال: “إنما أنا اخشاكم لله وأتقاكم له، وأنا أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني”. فالدين لم يكن يومًا دين تشددٍ يحرم ما أحل الله كما بينت الآيات: {“قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} .

هؤلاء ترجموا ما تعلموه من القرآن إلى أفعالٍ على أرض الواقع، فكانوا قدوةً لمَن جاء بعدهم.

وماذا عن اهتمامات شبابنا اليوم؟

تجد الشاب يقضي وقتًا طويلًا على مواقع التواصل الاجتماعي، يشاهد محتوى لا ينفع بل ويضر، كأسرةٍ تعرض الحياة اليومية لطفلها منذ يوم ولادته إلى أن بلغ شهرًا، وأصبحت له أسنان، وها هو يمشي ويضحك..

وربات بيوت يعرضن يومياتهن من تنظيف وطبخ..

وهؤلاء الأشخاص الذين تركوا وظائفهم؛ ليعملوا في مجال تذوق الطعام! يتذوقون الطعام في المطاعم، ويسافرون رحلات باهظة الثمن.

ماذا يرسخون في ذهن الأطفال والأسر بهذه القنوات ونسب المشاهدات العالية؟ إنه التركيز حول المتعة والترفية والحياة القائمة على الاستهلاك والاندهاش لأحداث صغيرة لا تلفت الانتباه في العادة، حتى يصبح هذا النموذج مثالًا وقدوةً لكثيرٍ من أبناء الجيل، فممّا لا شك فيه أن هذه الأمثلة قد أثرت على الأجيال الحالية، فاختلفت الاهتمامات والقيم والسلوكيات وطريقة التفكير والأولويات.

فالهدف عندهم هو تحقيق الشهرة دون شيء مفيد أو بنّاء. وهل هذا هو الهدف الذي جئنا من أجله لهذه الحياة؟ هل نحن حقًّا أمة قابلة للاستعمار الفكري؟

إن قابلية هذا الجيل لهذه التفاهات ما هي إلا نتيجة لضعف الهوية والمناعة الفكرية والإيمانية، وغياب الأهداف، والفراغ ذلك الذي حذّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث.

روى البخاري عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ”.

نِعَم كثيرة نحيا بها، ولا نؤدي شكرها، ولا نحسن استخدامها، وسنسأل عليها يوم القيامة، نسمع كثيرًا من الشباب يقول: ها قد انتهينا، أهلًا بالفراغ! نلهو أو نلعب. صحيحٌ أن الترفيه عن النفس أمر جيد؛ حتى لا تمل النفس، ولكن لا يكون الهدف طوال الوقت هو الترفيه والمتعة فقط بلا عمل، فما الذي سيعود على الناس إن شاهدوا الشاب يأكل في مطعم كذا أو يسافر إلى بلد كذا؟!

فإذا تأملنا قول الله: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ــــ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب”.  

لقد استغل البعض حديث ساعة وساعة، حيث اتخذوا منه سببًا في إضاعة الساعة في ارتكاب المحرمات، ولم يستخدموها في المباح، وهل يدعو الدين إلى معصية؟! إنما هي ساعة للعبادة، وساعة للجلوس مع الأبناء، وللنوم، وللتمتع بالمتع الحلال، وللجلوس مع الصحبة الصالحة، وهكذا.

يقول عمر بن الخطاب: “إن لله حقًّا بالنهار لا يقبله بالليل، وله حقًّا بالليل لا يقبله بالنهار”.

توجد أعمال يقوى عليها الشاب، لا يستطيعها في الكبر، انظر هذا ابن جرير الطبري، يقول: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثمان سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن التاسعة.

فأين أطفالنا اليوم؟ بل.. أين شبابنا الذين وصل بهم السن للخامسة والعشرين وأكثر؟ وهم يقضون أوقاتهم في الأسواق والمقاهي؛ بحجة عدم وجود وظيفة وعمل.

يا شباب الإسلام.. ما كانت معصية امرأة العزيز ومراودتها ليوسف النبي الكريم إلا نتيجة للفراغ.

تأمل قول حفصة بنت سرين:

يا معشر الشباب، اعملوا، فإني رأيت العمل في الشباب هو القوة، فهل ترى الشمس تملأ النهار في آخره كما تملؤه في أوله؟

على الشاب أن يكون مرتبًا في وقته، ومحددًا لأولوياته، ويعلم أن الوقت هو الحياة، ويكون على حذر أن يضيع الوقت في اللاشيء، أو في معصية، أو أمور مباحة ولكن كثرتها تهلك الفرد وتشغله عن نفسه وعن واجبه تجاه المجتمع.

ولو وقف الشاب مع نفسه وقفةً، لأدرك أن الاهتمام بالتفاهات والاسترسال مع الأهواء ضدُّ ما يأمرنا به الدين من المجاهدة بالنفس وقت الإمساك عن الطعام والشراب للصيام، والمجاهدة بالنفس لصلاة الفجر، وأن يملك نفسه عند الغضب، وأن يضحي بنفسه في سبيل الله.

كما أن مداومة مشاهدة هذه المقاطع تجعل الإنسان لا يرضى بحاله، ويقابل عطاء الله له بالسخط أمام ما يراه من استعراض التفاهات من هذا وذاك، ومظاهر المبالغة، واقتناء المنتجات العالمية، والقيام بالرحلات باهظة الثمن، مما يصاب الكثير ممَّن يشاهدون ذلك ولا يملكون مثلها.. بحالة من التطلع الدائم لغيرهم، والسخط على حياتهم. كما أنها تؤدي إلى تدني المستوى الأخلاقي، وتفكك الروابط الاجتماعية.

وهذا كله يصنع جيلًا هشًّا نفسيًّا.

إنني أسمع مَن يقول من الشباب: إن الأجيال السابقة لا تفهمنا.

وهذا الذي أدى إلى انغلاقهم على أنفسهم، وتوحدهم مع مواقع التواصل الإلكتروني.

هل نترك شبابنا يملأ حياته بالتفاهات لغياب دور الأسرة أو للهروب من مشاكله؟

وأنت أيها الشاب..

هل أنت راضٍ عن حياتك هكذا؟ يمضي العمر أمام مواقع التواصل! يقول الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيام معدودة، فكلما ذهب يوم، ذهب بعضك، ويوشك إن ذهب البعض أن يذهب الكل.

بأي قلب تريد أن تلقى الله؟ مَن عاش على شيء، مات عليه، فمَن عاش وغايته إرضاء الله في كل شيء، سيؤدي دوره كفرد في أسرته وفي مجتمعه وفي عمله، ويستحضر نية خالصة لله في هذه الأدوار كلها، فماذا سيتبقى من يومك ليضيع؟ فإذا أدّيت العبادات لله من: صلوات، ومواظبة على ورد قرآن، وقيام الليل، وأذكار الصباح والمساء، ودورك تجاه والديك من مساعدتهم والبر، وصلة الأرحام، وقضاء حوائج مَن طلب مساعدتك، ومشاهدة البرامج المفيدة، وتعلم لغة بجانب دراستك الأساسية..

فإذا استحضرت نية في كل ساعة تمر عليك من اليوم، فستبخل أن يضيع وقتك هباءً.

وليعلم الشاب والفتاة أن علامة  النجاح في الحياة أن تكون الواجبات أكثر من الأوقات، وليس العكس، فلنكن أصحاب همة عالية.

فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل”.

ولنقتدي بالأنبياء وقصص السابقين، فهذا يوسف عليه السلام، يضرب المثل في الترفع عن الشهوات والإغراءات، وهو في سن الشباب، بالرغم أنه غريب وفي بلد لا يعرفه أحد، اعتصم بالله، وأخلص له العبادة، فعصمه الله ونجاه من فتنة امرأة العزيز، قد يقول أحدهم إنه نبي يوحى إليه، نعم، إنه نبي، ولذلك كان امتحانه أصعب من امتحان الشاب العادي، فقد مر بمحن كثيرة منذ الصغر، بدايةً من فقده لأبيه وهو صغير، وبيعه كعبدٍ وهو الكريم بن الكريم، ومحنة السجن والظلم لسنوات طويلة، حتى كان التمكين له، وأصبح عزيز مصر.

وإذا تأملنا قصة أصحاب الكهف، نجدها تكتب العلاج لفتنة الشباب وضياع الأهداف، وذلك باتخاذ القرآن منهج حياة ومرشدًا يضيء الطريق، فنرضي الله، ونحقق الفلاح في الحياة، ونصبر مع الصحبة الصالحة، ونقول الحق، وأن يكون لنا دور إيجابي في الحياة.

ولنقف عند أهمية الصحبة في حياة الشباب..

لأن الطباع تتأثر ببعضها البعض، وتؤدي إلى اعتياد تصرفات الغير، فإن أوجد الشاب نفسه في بيئة سيئة، فسيعتاد السوء أيضًا.   

انظر أيها الفتى إلى أصحابك، فمَن يضيع حق الله، فكيف سيحافظ على حقك أنت؟!

لذلك حث القرآن على أهمية الصحبة: { “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ”} .

وتأمل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عنْ أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النبيِّ  قَالَ: « “لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ”»  

وقوله سبحانه: { “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا”} ، ذلك اليوم الذي لا يندم الإنسان على شيء أكثر من اتخاذه أهل الباطل أصدقاء.

فلينظر الشاب مع مَن سيحشر يوم القيامة، هل تحب أن تكون من أهل السبق إلى الجنة؟  

وبالنسبة للقائمين على عملية التربية سواء الأسرة أو المدرسة..

يجب أن يعلم الفتى أنه لم يخلق عبثًا، يقول الله: {“أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون” } سورة المؤمنون، ويقول سبحانه أيضًا: {“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”} سورة الذاريات.

فلا بدّ أن يكون للإنسان هدف يسعى لتحقيقه، ورسالة تكون وسيلةً لتحقيق هذا الهدف، وهو إرضاء الله عزّ وجلّ والفوز بالجنة.

وحتى تكون الرؤية واضحة..

فلا بدّ أن يكون الهدف واقعيًّا، وليس من وحي الخيال، وأن يكون على خُطى شرع الله، لا أن يكون حسب الهوى، ولا أن يكون الهدف منه إيذاء الناس أو نشر الفساد.

ومن ثم.. علينا أن ندعم ونقوي الهوية الإسلامية لدى الشاب، وحتى يتحقق ذلك، يجب أن تكون مرجعيته كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعتز أنه من أمة الإسلام، وأن تكون مركزيته هي إرضاء الله، وأن يعتز بلغة القرآن، مما يجعل عنده مناعة وقوة فكرية ضد ما يصدره الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من أفكار علمانية مستوردة من الثقافات الغربية ولا تتوافق مع منهجنا الحق.

ويجب ربط الشاب بقضيةٍ يعمل من أجلها، وأن يهتم بأمر المسلمين، فإن الله قد عقد بين المسلمين برباط الأخوة في الله حين قال: “إنما المؤمنون إخوة”، فلم يحدد الدولة والبلد والقبيلة، إنما هي أخوة عامة بين المسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهذه الأخوة تحتم عليه أن يحزن لحزن إخوانه، ويفرح لفرحهم، وتحتم عليه أن يكون ولاؤه لهم، فقد حذر المولى عزّ وجلّ من اتخاذ غير المسلمين أولياءً من دون المؤمنين، يقول سبحانه: { “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ..”} .

علينا تقوية وتعزيز دور المسجد في حياة الفتى، وأن تكون هناك محاضن تربوية للشباب، بحيث تنمي التربية الإيمانية، وتزكيهم، وتعلمهم الأخلاق.

ونؤكد على أهمية اجتماع الأسرة على تفسير الآيات، وقراءة السيرة، وقصص الصالحين والصالحات، وإيجاد مساحات من التواصل بين أفراد الأسرة، ويكون وقت الأسرة هو وقتٌ تُغلق فيه الهواتف والمشتتات الراهنة.

إن اندماج الشباب في دورات تربوية صيفية، أو برامج تعليمية هادفة، وهي توجد _بوفرة_ على كثير من مواقع التواصل الاجتماعي.

وليعلم شباب الإسلام أن خيريتهم تكمن في الاعتزاز بدينهم، وأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأن رسالة الإسلام هي خير الرسالات وأكملها، وبها اكتمل الدين، والثقة فيما عند الله أنه خير وأبقى من متع فانية وتفاهات لا قيمة لها.

وليحرصوا أن يكونوا قدوةً لغيرهم بسلكوياتهم، وأن يكونوا الدروع التي تحتمي بها الأمة وقت الشدائد، وأن يحملوا الرسالة إلى العالم أجمع كما أمرهم الله في القرآن، إذ يقول سبحانه: { “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ”} [سورة آل عمران] .


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

بلقيس والهدهد وسليمان – طريق الإسلام

بلقيس هي ملكة سبأ بإقليم اليمن، وكانت هي وقومها يعبدون الشمس من دون الله، وعلم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *