هذا اليوم العظيم المبارك يوم التراحُم، يوم التزاوُر، يوم المرحمة، وليس يوم الخصام وليس يوم التنافر، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بإصلاح ذات البين، وبيَّن أن الشَّحْناء هي الحالقة، يقول: «لا أقول: تَحلِقُ الشَّعر، ولكنها تحلِق الدِّين»
نسأل الله جلَّ وعلا في هذه اللحظات المباركة أن يُمكِّنَ لدينه وأن ينصُرَ الإسلام وأن يُعِزَّ المسلمين، اللهم آمين.
إخواني في الله، هذا اليوم العظيم المبارك يوم التراحُم، يوم التزاوُر، يوم المرحمة، وليس يوم الخصام وليس يوم التنافر، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بإصلاح ذات البين، وبيَّن أن الشَّحْناء هي الحالقة، يقول: «لا أقول: تَحلِقُ الشَّعر، ولكنها تحلِق الدِّين»[2].
الشَّحْناء: ما يكون في القلب من بغضاء وكراهية، والنبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئل عن أفضل الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الناس كل مَخْمُوم القلب صَدُوق اللِّسان»، فقالوا: يا رسول الله، صدوق اللسان نعرِفُه، فما مَخْمُوم القلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو التَّقيُّ النقيُّ الذي لا يحمِل في قلبه بُغْضًا لأحدٍ ولا غِشًّا لأحدٍ»[3]، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإيَّاكم منهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُبيِّن حرمة الخصام والهجر فوق ثلاثة أيام، فيقول: «لا يحِلُّ لمؤمنٍ أن يهجُر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ أخاه بالسلام»[4]؛ هذه الخيرية جعلها الله لكَ أنت أيُّها الحبيب، يا مَنْ تُبادِر بالمصافحة، يا مَنْ تُبادر بإفشاء السلام، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم وغيره، وصحَّحه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة، كانت أول كلمات نطق بها الفمُ الشريف: «أيُّها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نِيام؛ تدخلوا الجنة بسلام»[5].
فها نحن أيُّها الأحِبَّة في عيد، في يوم فرحة المسلمين، فأفشوا السلام بينكم أيُّها الأحبَّة، أفشوا السلام، وليكن حالُنا أيُّها الأحبَّة صفاء القلوب في هذا اليوم العظيم المبارك، ومن أعظم الأعمال في هذا اليوم العظيم المبارك صلة الرحم، ولِمَ لا والرحم معلَّقةٌ بعرش الرحمن؟! لَمَّا خلق الله الخلق في الحديث القدسي الصحيح: «لمَّا خَلَق اللهُ الخَلْق قامَتِ الرَّحِم فتعلَّقَتْ بالعرش، فقالت: يا رب، هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله جلَّ وعلا لها: أيتُها الرَّحِم، أما ترضين أن أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وأن أقطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك»[6].
ولذا أيُّها الأحبَّة الكرام، فإن أول اسمين في سجل صِلة الأرحام: الأم والأب، ثم يأتي بعد ذلك الأشقَّاء والشقيقات والأعمام والعَمَّات والخالات والأخوال، صِلُوا الأرحام أيها الأحبة، فمَنْ وَصَلَها وصَلَه الله، ومَنْ قَطَعَها قطعَه اللهُ، فليحرِص المسلم في هذا اليوم العظيم المبارك على صلة الرحم.
ثم بعد ذلك أيُّها الأحبة: من السنة المؤكَّدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم: سنة الأضحية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي حسَّنه الشيخ الألباني رحِمَه الله: «مَنْ أتاه الله سَعةً فلم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنَّ مُصلَّانا»[7].
والأُضحية سُنَّةٌ مؤكَّدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما من عَمَلٍ أحَب إلى الله جلَّ وعلا في هذا اليوم العظيم المبارك أفضل عند الله من نَحْر الهَدْي، فالأُضحية قُربةٌ لكَ تتقرَّب بها إلى الله جلَّ وعلا، والله تعالى يقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
كلمتي التي أختم بها حديثي الآن بين يدي حضراتكم، وهي: أننا جميعًا بوصفنا مسلمين نعمل للإسلام، لا ينبغي أبدًا أن نتهاجر، عود على بدء لا ينبغي لنا أن نتهاجر ولا أن نتفرَّقَ؛ فإن الفرقة والاختلاف يجعل من المسلمين؛ كما يقول الله تباركَ وتعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
قد أختلفُ معك، وقد تختلف معي؛ لكن في النهاية نحن إخوة في الله جل وعلا، نحن إخوة الدين، إخوة الإسلام، إخوة المنهج، إخوة العقيدة، وقد نزل بالمسلمين ما تعلمون، ولكن في النهاية أيها الأحبة علامَ التدابُر إذًا؟ وعلامَ الخصام إذًا؟ وعلامَ ارتفاع الأصوات إذًا؟! ونحن في النهاية نعمل لإرضاء الله عزَّ وجلَّ، نعمل من أجل أن ندخل الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا زعيم بيت في رَبَضِ الجنة لمَنْ ترك المِراء ولو كان محقًّا»[8].
وبلا شك هذه الأحداث التي حلَّت بالمسلمين أثَّرَتْ في قلوب المسلمين، وأثَّرَتْ في الهَجْر بينهم.
فاليوم يجب أن ننسى هذه الأحزان، لا أقول: ننساها؛ بمعنى أن نرميها خلف ظهورنا، لا، ولكن {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، فالفَرَجُ آتٍ والنَّصْرُ آتٍ لا مَحالةَ؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن تقومَ الساعة حتى يُقاتلَ المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديُّ خلف الحَجَر والشَّجَر، فيُنطِق اللهُ الحَجَر والشَّجَر، فيقول: يا مسلم، يا عبدَالله! هذا يهودي ورائي تعالى فاقتُلْه»[9].
والله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]، فالغلبة لجُنْد الله عزَّ وجلَّ، فالغلبة للصالحين الأتقياء الذين ولاؤهم الحقيقي لله ولرسوله؛ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55].
ينبغي أيُّها الأحِبَّة أن نُصحِّح الولاء لله جلَّ وعلا، ولا يُرضي الله ما بيننا من تهاجُرٍ أو خصام، نحن في النهاية مسلمون نعمل لنصرة الإسلام، وربما يجتهد البعض فيخطئ، فلا تكونواعونًا للشيطان على إخوانكم، هذا اليوم يوم العيد، يوم الفرحة والسرور على ما في القلب من أحزان مما حلَّ بالمسلمين، لكننا نقول: «لا تزال طائفةٌ في هذه الأمة ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم مَنْ خالَفَهم ولا مَنْ خذلَهم، حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك»[10].
وكل عام وأنتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] خطبة عيد الأضحى.
[2] أخرجه البيهقي في الآداب (ص: 48)، باب ترك الحسد والأمر بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد، رقم: (116)، وفي شعب الإيمان (9/ 13)، الحث على ترك الغل والحسد، رقم: (6189).
[3] أخرجه ابن ماجه في سننه، ت الأرناؤوط (5/ 299)، أبواب الزهد، باب الورع والتقوى، رقم: (4216). صححه شعيب الأرناؤوط.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 21)، كتاب الأدب، باب الهجرة، رقم: (6077).
[5] أخرجه أحمد في مسنده، ط الرسالة (39/ 201)، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث عبدالله بن سلام، رقم: (23784)، صحَّحه شعيب الأرناؤوط.
[6] أخرجه أحمد في مسنده، ط الرسالة (15/ 157)، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم: (9273)، صحَّحه شعيب الأرناؤوط.
[7] أخرجه أحمد في مسنده، ط الرسالة (14/ 24)، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم: (8273)، وضعَّفه شعيب الأرناؤوط، وحسَّنه الألباني في تخريج مشكلة الفقر، (ص: 67)، رقم: (102).
[8] أخرجه أبو داود في سننه، ت الأرناؤوط (7/ 178)، باب في حسن الخلق، رقم: (4800)، حسَّنه شعيب الأرناؤوط، وحسَّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 552)، رقم: (273).
[9] أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2239)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تَقُوم الساعةُ حتَّى يَمُرَّ الرجل بقبرِ الرجل، فيتمَنَّى أن يكونَ مكانَ الْمَيِّتِ من البَلاء، رقم: (82) – (2922).
[10] أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1523)، كتاب الإمارة، بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهِرِينَ على الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ))؛ رقم: (170) – (1920).
Source link