وداعا يا شهر التوبة – عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

حافظوا على عبادة ربكم بعد هذا الشهر، وإياكم أن تعودوا لما كنتم فيه من الذنوب والخطايا، فإن رب الشهرين واحد

ورد في الحديث أن صيام رمضان سبب لمغفرة الذنوب، وكذا قيامه، وقيام ليلة القدر، والصحيح أن المغفرة تختص بالصغائر، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر» “؛ رواه مسلم والجمهور على أن الكبائر لا بد لها من توبة.

 

ثم إن العبد بعد فراق رمضان وقد كُفِّرت عنه سيئاته، يجب عليه أن يحافظ على الصالحات، ويحفظ نفسه عن المحرمات، وتظهر عليه آثار هذه العبادات في بقية حياته، فذلك من علامات قبول صيامه وقيامه وقرباته، فإذا كان بعد رمضان يحب الصلوات ويحافظ على الجمع والجماعات، ويكثر من نوافل الصلاة، ويصلي من الليل ما قدر له، ويُعِّود نفسه على الصيام تطوعًا، ويكثر من ذكر الله تعالى و دعائه و استغفاره، وتلاوة القرآن الكريم وتدبره وتعقله، ويتعاهد الصدقة، ويصل أرحامه ويبر أبويه، ويؤدي ما عليه من الحقوق لربه و للعباد، ويحفظ نفسه ويصونها عن الآثام و أنواع الجرائم، وعن جميع المعاصي وتنفر منها نفسه، ويستحضر دائمًا عظمة ربه و مراقبته وهيبته في كل حال، إذا كان كذلك بعد رمضان، فإنه دليل قبول صيامه و قيامه، وتأثره بما عمل في رمضان من الصالحات والحسنات.

 

ومع ذلك فإن صفة الصالحين وعباد الله المتقين الحزن والأسى على تصرم الأيام الشريفة، والليالي الفاضلة، كليالي رمضان، وهذه صفة السلف الصالح وصدر هذه الأمة رحمهم الله تعالى، فلقد يحزنون لانصراف رمضان، ومع ذلك يدأبون في ذكره، فيدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، ثم يدعونه ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فتكون سنتهم كلها في ذكر هذا الشهر، فهو دليل على عظم موقعه في نفوسهم، ويقول قائلهم:

سلام من الرحمن كـــل أوان  **  على خير شهر قد مضى وزمان 

سلام على شهر الصيام فإنه  **  أمان من الرحمن كل أمـــــــــان 

لئن فنيت أيامك الغر بغتــة  **  فما الحزن من قلبي عليك بفان 

 

لقد ذهبت أيامه وما أطعتم.

وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم.

وكأنكم بالمشمرين وقد وصلوا وانقطعتم.

أترى ما هذا التوبيخ لكم؟!

أو ما سمعتم قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن؟! ومن ألم فراقه تئن؟

كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع؟! وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع!

 

شعر:

تذكر أيامًا مضت ولياليًا  **  خلت فجرت من ذكرهن دموع 

 

 

أين حرق المجتهدين في نهاره؟!

أين قلق المتهجدين في أسحاره؟!

فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه؟!

ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!!

كم نصح المسكين فما قبل النصح؟!

كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح؟!

كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد؟!

كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد؟!

حتى إذا ضاع الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم.

وطلب الاستدراك في وقت العدم.

دموع المحبين تدفق.

قلوبهم من ألم الفراق تشقق.

عسى وقفة للوداع تطفي من نار الشوق ما أحرق.

عسى توبة ساعة وقلاع ترفو من الصيام ما تخرق.

عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق.

عسى أسير الأوزار يطلق.

عسى من استوجب النار يعتق.

 

لا شك أن شهر رمضان أفضل الشهور، فقد رفع الله قدره وشرفه على غيره، وجعله موسمًا للخيرات، وجعل صيامه وقيامه سببًا لمغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار.

 

فتح فيه أبوابه للطالبين، ورغب في ثوابه المتقين.

فالظافر من اغتنم أوقاته، واستغل ساعاته، والخاسر من فرط في أيامه حتى فاته.

جعله الله مطهرًا من الذنوب وساترًا للعيوب وعامرًا للقلوب.

فيه تعمر المساجد بالقرآن والذكر والدعاء والتهجد.

وتشرق فيها الأنوار وتستنير القلوب.

فهو شهر البركات والخيرات.

شهر إجابة الدعوات.

شهر إغاثة اللهفات.

شهر الإفاضات والنفحات.

شهر إعتاق الرقاب الموبقات.

 

فيه تكثر الصدقات وتتضاعف النفقات ويجود المسلم بما يمكنه من العطايا والهبات.

ترفع فيه الدرجات، وتقال فيه العثرات، وتسكب فيه العبرات، فبعده تنقطع هذه الحسنات.

 

فمن قبله الله فهو من أهل الكرامات وأعالي الدرجات في نعيم الجنات، ومن رُدَّ عليه عمله فهو من أهل الحسرات لما فاته من الخيرات.

 

فلا أوحش الله منك يا شهر الصيام والقيام.

ولا أوحش الله منك يا شهر التجاوز عن الذنوب العظام.

ولا أوحش الله منك يا شهر التراويح.

ولا أوحش الله منك يا شهر الذكر والتسبيح.

ولا أوحش الله منك يا شهر المصابيح.

ولا أوحش الله منك يا شهر التجارات المرابيح.

ولا أوحش الله منك يا شهرًا يترك فيه كل قبيح.

فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المردود منا فنعزيه.

فيا أيها المقبول هنيئًا لك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك.

 

عباد الله: حافظوا على عبادة ربكم بعد هذا الشهر، وإياكم أن تعودوا لما كنتم فيه من الذنوب والخطايا، فإن رب الشهرين واحد، وهو الذي كلفكم وأمركم ونهاكم، فإياكم أن تعودوا لما مضى من التفريظ والإهمال، حتى يمحوا الله عنكم السيئات ويقبل منكم الحسنات، وأكثروا من دعاء الله تعالى والتضرع بين يديه.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *