لقد ظهرت بشكلٍ ملحوظٍ آثارُ التشبه ومفاسدُه على الأمة الإسلامية، من فسادٍ في الأخلاق، وتأنُّثٍ في الأفعال والتصرفات، وتركٍ لسنة رسول الله – ﷺ – وولاءٍ للكافرين، وحبٍ لهم وإعجابٍ بما هم عليه…
يقول الله جل ذكره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] ويقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] في هاتين الآيتينِ يمنُّ اللهُ تعالى علينا بنعمةِ اللباس، فإن من نعمِ اللهِ تعالى العظيمةِ على الإنسانِ في هذه الحياة، ما أوجدَ له وشرعَ من اللباس؛ الذي يتجملُ به في الناس، ويواري به جسدَهُ عن الحر، ويستكنُّ به عن البرد، ويسترُ به سوأتَهُ عن الآخرين.. ثم إن للباسِ تأثيراً بالغاً على الإنسان في حيائِه ومروءتِه وأخلاقه، بل له تعلقٌ كبيرٌ بعباداتِه لربِه، وارتباطٌ وثيقٌ بوجودِ الجنسِ البشري في الأرض، والصراعِ بين الحقِ والباطل، والفضيلةِ والرذيلة، وقد جاءت النصوصُ من الكتابِ والسنةِ التي تهتمُّ باللباسِ وبيانِ أنواعِه وأشكالِه وألوانِه، ما يباحُ من ذلك وما يحرم، ما يستحبُّ وما يكرهُ وما يفضل على غيره، وبيانُ آدابه وشروطِه وأحكامِه، وغيرُ ذلك من الأمورِ المتعلقةِ باللباس.
وبما أننا في أيامِ عيد، ويتزينُ الناسُ فيها الناس بأحسنِ اللباس، ويُغالُون في شرائها؛ فإنني سأتحدثُ في هذه الخطبةِ عن ضوابط وشروط للباس الرجال فقط؛ إذ أن لباس النساء يحتاج إلى موضوع مستقل، وسأركز الحديثَ عن شروطِ اللباسِ فقط حتى لا أطيل عليكم.
معشر المؤمنين:
أولًا عرف العلماءُ اللباسَ بأنه ما يواري به الإنسانُ جسدَه، ويستر به سوأتَه، ويتزين به ويتجملُ بين الناس، مما أباحه الشارعُ الحكيمُ سبحانه، ولم يتعارضْ مع آدابِ الإسلامِ وأوامرِه ونواهيه.
أما شروطُ لباسِ الرجال التي تكلم عنها العلماء فهي أربعة شروط:
الشرط الأول: أن لا يكون محرمًا.
الشرط الثاني: أن لا تكون صفة اللباس وهيئته مخالفة لما ورد به الشرع.
الشرط الثالث: أن لا يكون اللباس نجسًا.
الشرط الرابع: أن يكون اللباس ساترًا للعورة.
أما الشرط الأول فهو أن لا يكون اللباس محرَّماً: فلا يلبس الرجلُ الذهبَ ولا الحريرَ ولا الديباج، وقد اتفق العلماء على تحريم لُبس الرجال (الذكور) للحرير والديباج والإستبرق، واستعماله في الجلوس عليه، أو الاستناد إليه أو التغطي به، واتفقوا أيضاً على تحريم لُبس الذهب فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (نَهَانَا النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
الشرط الثاني: أن لا تكون صفةُ اللباس وهيئتُه مخالفةً لما ورد به الشرع، فلا يكون لباسَ شهرةٍ أو فيه تشبهٌ بالنساءِ أو فيه تشبه بالكفارِ أو تشبهٌ بالفسقة والسفلة، أو يكون الثوب مسبلًا، والمراد بلباس الشهرة هو كل لباسٍ قَصد به لابسُه التميزَ عن عامةِ الناسِ في مجتمعه، وأصبح مشهورًا يُشار إليه، سواءٌ كان ذلك في لونِه، أو في شكلِه، أو في نوعِه، أو نفاستِه، أو في خسته، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا} (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
وقد اتفق أهلُ العلم أيضًا على تحريمِ تشبه الرجلِ بالمرأة والعكس فيما هو من خصائص أحدهما؛ لباسًا كان، أو تختمًا، أو هيئةً أو شكلًا أو فعلًا، وعدُّوا ذلك من الكبائرِ المهلكةِ والذنوبِ الموبقة، فعن عبدالله ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:(لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ) (رواه البخاري).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ) رواه أبوداود وصححه الألباني، واتفق أهل العلم على أنه لا يجوز للمسلم – رجلًا كان أو امرأةً – أن يتشبه بالكافرين في لباسهم وهيئاتهم، وأخلاقهم وعباداتهم، وعاداتهم وأنماط سلوكهم.
كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] وثبت من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ومن تشبه بقوم فهو منهم».. وكذا لا يتشبه في لباسه بالفسقة والسفلة؛ لأن التشبه بهم يؤدي إلى أمرين: التوغلِ في فسقهم، والإعجابِ بماهم عليه من منكراتٍ وعصيان ومن ثم الوقوعُ في فعلهم، ولأن الذي يلبسُ لباسَهم يضعُ نفسَه موضعَ التهمةِ والريبةِ ويُساء به الظن.
عباد الله:
لقد ظهرت بشكلٍ ملحوظٍ آثارُ التشبه ومفاسدُه على الأمة الإسلامية، من فسادٍ في الأخلاق، وتأنُّثٍ في الأفعال والتصرفات، وتركٍ لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهدي الإسلام في اللباس، وولاءٍ للكافرين، وحبٍ لهم وإعجابٍ بما هم عليه، وسرعةِ تقليدهم في الجري وراء الموضات الموديلات والأزياء والهيئات والله المستعان.
أما إسبالُ الثوب (القميص) أو الإزار (الصارون أو المعوز) فقد جاء الوعيد الشديد لمن أسبل في أحاديث مشهورة كلكم يعلمها ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم -: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» (رواه البخاري)، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
إخوة الإسلام والإيمان:
لقد بقي شرطان من شروط لباس الرجال وهو أن لا يكون اللباس نجسًا، وأن يكون ساتراً للعورة.
وكذلك الحديثُ عن الملابسِ التي تشتملُ على صورِ ذواتِ الأرواح أو الصليب أو شعارات الكفار ما حكمها؟ وما حكم الملابس المشتملة على كتابات قبيحة أو لا يُدرى معناها مما يغلب قبحه؟ كذلك ماهي آداب اللباس وحفظ المروءة فيه؟ ثم ما الذي يستحب أن يلبسه المسلم في صلاته، سواء في المفروضة أو في جمعته أو العيدين أو غيرها من الصلوات؟ وهذا لا يتسع له الوقت في هذه الخطبة، ولعل الله أن ييسر إكمالها في وقت آخر قريب.
عباد الله:
إن اهتمام الإسلام بهذه الأمور لهو دليل على كمال الشريعة وشمولها، وتجددها وصلاحها لجميع الأزمنة والأمكنة، وأن هذا الدين الذي أنزله الله بعلمه كما قال جل وعلا: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] دين عظيم قيم أحاط بحياة الإنسان في يقظته وسكونه، وفي حياته وبعد وفاته فحري أن نتمسك به، ونعتز بالانتساب إليه، وننشره بين الناس، ونطالب بحكمه وسيادة شريعته، وأن لا نسمح لأحدٍ بأن يحكمنا بغير الإسلام الذي ارتضاه الله لنا وشرفنا وأعزنا به كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وقال جل ذكره: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] أسأل الله أن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا…الخ الدعاء.
[1] الخطبة ملخَّصة من رسالة دكتوراه بعنوان ” لباس الرجل أحكامه وضوابطه في الفقه الإسلامي” للدكتور ناصر بن محمد بن مشري الغامدي.
Source link