إنَّ سرَّ السعادة يكمن في (التوازن) في شؤون الحياة، فحين يباشر الفرد منا أمور حياته بكل تفاصيلها، الروحية والمالية والوظيفية والاجتماعية على نحوٍ متوازن، فإنه سيشعر براحة في رُوحه وفي بدنه على حد سواء.
السعادة شعور قلبي، يسعى كل الناس لنيله أو تحقيقه، ويسلكون من أجل ذلك كلَّ السبل المتاحة، ويستخدمون كل الوسائل المتوفرة؛ فمنهم مَن يعتقد أنها في وفرة المال، ثم بعد أن يقضيَ في هذا المجال شطرًا من عمره يكتشف أن المالَ شيءٌ مهم في الحياة، ولكنه لا يجلب السعادة وحده، فليس المال كلَّ شيء.
فبالمال أو “الفلوس” أو “النقود” يمكنك أن تشتري بيتًا كبيرًا جميلاً فسيحًا، وبه تستطيع أن تأتي بالطعام الفاخر، والمَرْكب الحسن، وأحيانًا تستطيع به أن تتزوج المرأة التي تريدها، وما إلى ذلك، وربما أطلق صاحبُ المال لنفسه عِنانها في نَيْل كل ما ترغب في أن تناله، فلا يترك شيئًا من ملذاتها خلفه، يمارس كل شيء، ثم يكتشف بعد حين أن كلَّ هذه الأشياء لا تُحقِّق السعادة، بل إنَّ المال وحده مهما بلغ لن يجلب السعادة، نعم المال مهم، ولكنه ليس كل شيء؛ فصاحب المال يشعر أن هناك حلقةً أو ربما حلقات مفقودة في حياته للحصول على السعادة.
وآخر يعتقد أن السمو في الجانب الرُّوحي، والتفرغ للعبادة بشكل كامل، والانفراد، والانقطاع عن الناس واعتزال الدنيا، هو السبيل للسعادة، فيباشر هذا العمل بعاطفة جياشة، وبنَفْس متحمسة، وبرغبة عارمة، فيُلغي فكرة الزواج، ويعيش حياة التقشف المبالغ فيه، ويلغي كل الفعاليات والعلاقات؛ الاجتماعية منها وغير الاجتماعية، ثم يشعر بعد حين أنه يُهمل جزءًا مهمًّا من تركيبته البشرية، وهو الجزء المادي، وكأنه يسير عكس تيار الحياة الطبيعية؛ فهناك رغبات مادية يحتاجها بدنه، وتستقر بها نفسه، وقد جُبِل عليها، وهو يرغم نفسه على تركها قسرًا، وحين تطول أيام السباحة عكس التيار يجد نفسه متعبًا مرهقًا مهمومًا، ويحتاج إلى مَن يُعِينه للخروج بسرعة من هذا المأزِق.
وآخر يعتقد أنَّ الإبداع في العمل والإخلاص والتفاني فيه، وكشف المزيد من النظريات، وتطوير أنظمة العمل – هو ما يُسعِده بالفعل؛ فلا ينفك يواصل الساعات والليالي والأسابيع بالعمل، ويشعر بلذة عجيبة كلما اكتشف شيئًا جديدًا، أو حقَّق إنجازًا رائدًا، ويقدم المزيد من الإصرار على التواصل من أجل النجاح والإبداع، ثم يكتشف أنه بحاجة لأن يترجَّل عن فَرَس العمل ساعة؛ ليشرب فنجان قهوة مع صديق أو قريب، أو ليجلس ساعة مع ابنته التي تركها منذ سنين ولا يدري ما تصنع، أو ليختلي مع زوجته لتبوحَ له ما حُمِّلت من هموم الحياة.
وآخر يقضي سنين طويلة من عمره من أجل أن يكون بمنصب وظيفي أو عسكري أو اجتماعي أو اقتصادي، ويدفع مقابل ذلك زهرة شبابه، وأهم سِني عمره؛ حتى ينال ما سعى له، ويتعامل مع أقربِ الناس إليه بما يُعرَف في عالم الإدارة بـ: (بيروقراطية)، ويحب أن يناديه الناس بـ: (دكتور) أو (أستاذ) أو (سعادة المهندس) أو (معاليك) أو (باشا) أو (سيدي) أو (شيخ)، ويتكلف من أجل ذلك حتى في بيته وبين أفراد أسرته، فيتكلف في مجلسه، وفي مَلبَسه، وفي أَكْله، وفي منطقه، فتراه دائم التأهُّب، ويحرص كلَّ الحرص على ألا تخدشَ أيُّ شائبة هذا الذي بناه وسعى لتحقيقه في أي لحظة.
هل رأيتم ضابطًا يجلس على المقهى، أو يوجد في أماكنَ عامة خارج أوقات عمله الرسمي وهو يلبَسُ بزته العسكرية كاملة؟
هل سألتم أنفسكم: لمَ يفعل ذلك؟
هل رأيتم طلاب كلية الطب وكلية الصيدلة وهم يحملون (القميص الأبيض) الذي يستخدمونه في المختبر – على أيديهم؟ إنهم قادرون أن يخبئوه في كيس.
يا ترى، لم يفعلون ذلك؟
إنَّ هؤلاء وأمثالهم يلبُّون حاجاتٍ في داخلهم، ويستجيبون لنزعات هم يعلنون عنها، بل و(يصرخون بها)، ولكن بطريقة مختلفة؛ حتى يقولوا لمن لا يعرفهم: (نحن هنا).
هذه بعضٌ من نماذج بشرية تملأ الآفاق، ولكنهم ليسوا بسعداء؛ لأنهم لم يقعوا على سرِّ السعادة الحقيقي، ربما توهموا أنهم يجدون سرها في بعضٍ من تلك الممارسات، لكنهم سيكتشفون لاحقًا أنهم كانوا واهمين في ذلك كل الوهم.
إنَّ سرَّ السعادة يكمن في (التوازن) في شؤون الحياة، فحين يباشر الفرد منا أمور حياته بكل تفاصيلها، الروحية والمالية والوظيفية والاجتماعية على نحوٍ متوازن، فإنه سيشعر براحة في رُوحه وفي بدنه على حد سواء.
فأولئك الذي تفرغوا للعبادات من أجل شحن الجانب الرُّوحي، والسمو فيه، عدَّل لهم رسولُ الله محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – المسار، وبيَّنَ لهم أنهم يسلكون الطريق الخطأ في الوصول إلى الله تعالى؛ فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه -: “أنَّ نفرًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – سألوا أزواجَ النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عمله في السرِّ؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكُلُ اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بالُ أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني» [1]، فوضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للإنسانية قاعدة جليلة، هي أعظم قواعد الاتزان بين الجانب الرُّوحي والمادي.
واحد من أهم أسباب سعي معظم الناس نحو جمع المال واختلال التوازن عندهم، هو الناس أنفسهم، فهم يتملقون ويميلون للثريِّ وينبذون الفقير، وكما قال الشاعر:
رأيتُ الناسَ قد ذهبوا *** إلى مَن عنده ذهــــبُ
ومن لا عنده ذهـــــبُ *** فعنه الناسُ قد ذهبوا
رأيتُ الناسَ قد مالوا *** إلى من عنده مــــــالُ
ومن لا عندهُ مــــــال *** فعنه الناسُ قد مالـوا
رأيت الناسَ منفضَّـه *** إلى من عنده فضَّــــه
ومن لا عنده فضَّـــه *** فعنه الناسُ منفضَّـــه
ولا يتحقق التوازن المطلوب إلا بتحقيق فك الاشتباك بيننا وبين هذه الدنيا ومغرياتها ومؤثراتها؛ فالإنسان من كثرة ما يتعلق بهذه الدنيا، تتغير عنده قِيَم الإنسانية، فمن ذلك أنه يشعر أنه يبقى شابًّا ولا يكبر، وتنعكسُ عن ذلك الشعور تصرفاتٌ غريبة، لا تناسب عمره ولا مقامه، فيبتعد عن التوازن؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا يزال قلبُ الكبير شابًّا في اثنتين: في حبِّ الدنيا، وطول الأمل» [2].
لقد رأيت رجلاً تجاوز الخمسين وربما الستين من عمره، وهو يلبَس لباس الشباب، ويضع الحلق في أذنه، ويلبَس القلادة، ويصفف شعره مثل الأولاد الصغار، وما كل ذلك إلا لشعوره أنه ما يزال صغيرًا ولم تتقدم به أيام العمر.
والتوازن يحتاج إلى التعاون مع الآخرين من أجل تحقيقه، فالمهمة الفردية في تحقيق التوازن شاقة وصعبة للغاية، نعم بإمكان الصفوة من البشر أن يصلوا إليها، وهم الأنبياء؛ فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، ولكننا بمرتبة نحتاج فيها إلى عون بعضنا البعض لتحقيق التوازن، وهكذا كان الصالحون فيما غَبَرَ من الزمان يتعاونون فيما بينهم للوصول لهذا الهدف.
ومن أمثلة ذلك أنَّ الإمام مالك بن أنس – رحمه الله – كان مشغولاً بالعلم والدرس والفُتيا؛ حتى قيل: “لا يُفتى ومالك في المدينة“، فكانت الأمور المادية تضيق عليه بسبب ذلك، ولكنه لا يتحرج من أن يكتبَ لأخيه في الله، الفقيه العالم والتاجر الثري الليث بن سعد – رحمه الله – فيلبِّي له صديقه ذلك؛ ليبقى في دائرة التوازن التي تجعله في حالة إبداع مستمر؛ فقد كتب الإمام مالك إلى الليث بن سعد أن عليه دَينًا، فبعث له بخمسمائة دينار، ثم كتب له مرة أخرى أنه يريد أن يزوِّجَ ابنته، فبعث له بثلاثين جملاً محملة بالعُصفر، وكان العُصفر غاليًا، فباعه الإمام مالك فزوج ابنته، وبقي له فضلة وفيرة من المال.
المغني الأمريكي (تشوسي هوكنز) والمعروف باسم (لوون)، الذي يحظى بشهرة واسعة في الوسط الشعبي الأمريكي بسبب الغناء، حقَّق نجاحًا باهرًا في هذا المجال حتى أصبح من أفضل عشرة مغنين في أمريكا حسب استفتاءات الوسائل الإعلامية الأمريكية، لم يكن بحاجة لشيء مادي، كل شيء متوفر لديه، فقد باع 7 ملايين نسخة من أحد ألبوماته.
يقول لوون: إنه يفقد شيئًا مهمًّا في حياته، هو أنه لا يشعر بالسعادة، وكل هذه الأشياء المادية من حوله لا تحقق له السعادة، وبقِي يبحث عن طريق السعادة، فوجدها في الإسلام، فأسلم وغيَّر اسمه إلى أمير، وأسلمت زوجته وولداه معه، ووجد السعادة التي يبحث عنها بعد 17 عامًا من الضياع والألم والمعاناة في عالَمٍ من الهوس والجنون، وبعد إسلامه شعر بالسعادة تغمره، بل هو يبكي اليوم من شدة السعادة التي هو فيها.
والتوازن يحتاج إلى العفوية في العمل، فيعمل الفرد منا ما هو قادر عليه من غير تصنُّع وتكلف أمام الآخرين، لقد ساد المتوازنون على مَرِّ الدهر، وذاع صيتهم بقيامهم بأفعالٍ هي من سجيتهم؛ فقد ساد الأحنف بن قيس بحِلْمه، ومالك بن مسمع بحُبِّ العشيرة له، وقتيبة بن مُسلم بدَهائه، وساد المُهلب بهذه الخِلال كلِّها.
والتوازن في العلاقات يقتضي عدم التنطع والحماسة في الحب والبغض، ولكن الذي يحصل أن البعض منا إذا أحبَّ شخصًا، فلا يرى أخطاءه، ويرى أنه على صواب بشكل دائم، إنه ينزله بمنزل لا يستحقه، ويرفعه إلى مصافِّ الملائكة، فليس هناك مَن لا يُخطئ، كلنا نخطئ، ولكن “الحب أعمى” كما يقولون، وكما قال الشاعر:
وَعَينُ الرِّضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ ** ولكنَّ عَينَ السُّخطِ تُبدي المَساوِيَا
فمن يحب بلا توازن لا يرَ إلا الصواب ممن يُحب، ويغض الطرف عن كل سوء منه، ولا يستمع إلى آراء الآخرين، إلا تلك التي ترتاح لها نفسه وتوافق هواه، فلا يكون متزنًا، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “أحبِبْ حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغضْ بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما“.
وفي العلاقات البشرية المتزنة ينبغي ألا تتجاوز مَن هو فوقك في المكانة الاجتماعية؛ فقد يكون أسنَّ منك، أو أعلمَ منك، أو أعلى منصبًا منك؛ فإنك إن تجاوزته وتطاولت عليه، سيستخف بك الناس، وسينظرون إليك نظرة ازدراء.
ويدفعنا التوازن في العلاقات إلى عدم إنزال الأدنى منا مقامًا في منزلة أعلى مِن استحقاقهم، فتقل هيبتنا ويستخفون بنا.
[1] صحيح مسلم – كتاب النكاح – باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه.
[2] صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب من بلغ ستين سنة.
Source link