نقصد ب ( العمل) السعي في الأرض، والضرب فيها والابتغاء من فضل الله تعالى.، نقصد به عمل الإنسان بيديه في أرضه أو في صنعته أو تجارته
أيها الإخوة الكرام: اليوم موعدنا لنتحدث عن ( العمل) ولا نقصد به العمل الذي يأتي في صورة ركعات وسجدات وآيات وتسبيحات، والمشار إليه في قول الله تعالى ﴿ {وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ﴾ لا نقصد هذا العمل الأخروي..
وإنما نقصد ب ( العمل) العمل الدنيوي، العمل اليومي، الذي نتكسب به المعاش، نقصد ب ( العمل) السعي في الأرض، والضرب فيها والابتغاء من فضل الله تعالى.، نقصد به عمل الإنسان بيديه في أرضه أو في صنعته أو تجارته وهذا ( العمل) هو المشار إليه في قول الله تعالى ﴿ {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ} ﴾
العمل يساوي حياة، العمل سبب البقاء على ظهر الأرض، العمل شقيق الكرامة والشرف، العمل سبب عمارة الأرض، وسبب القوة والغنى..
ضمن الله تعالى للإنسان ولكل مخلوق رزقه وهو في بطن أمه ﴿ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا} ﴾ولن يخرج من الدنيا إنسان ولا مخلوق إلا وقد استوفى رزقه..
لكن: لله تعالى في خلقه سنة في تحصيل الأرزاق وهى سنة السعي، وبذل الوسع، والحركة، والأخذ بالأسباب، سنة معمول بها في حياة جميع الخلائق التي تأكل وتشرب، سنة لا تتبدل ولا تتغير قال الله تعالى في شأن النحل: {﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ ﴿ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾}
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الطير ( «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» )
أيها الإخوة الكرام:
لقد جعل الله تعالى في قصص القرآن الكريم ( عظة وعبرة وآية)
ومن أعجب وأشهر قصص القرآن الكريم قصة ( مريم ابنة عمران) عليها السلام، نذكر اليوم ( طرفا) منها..
نرى من خلال هذا ( الطرف) أن الله تعالى (جعل لكل شيء سببا) وأنه سبحانه (سن) لكل مخلوق أن يأكل من عمل يديه، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ولا طعاما، وإنما السماء تقول {﴿ فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ ﴾}
مريم عليها السلام آية من آيات الله تعالى للعالمين، هى إحدى بنات بني إسرائيل سليلة الصالحين وربيبة الأنبياء والمرسلين من بني إسرائيل ..
ولدت مريم ابنت عمران عليها السلام لأبوين شيخين كبيرين مشهود لهما بالصلاح والتقي فما كان أبوها امرأ سوء وما كانت أمها بغيا..
وكانت أمها وهى في بطنها قد نذرت حملها لله تعالى يخدم في بيت المقدس على اعتقادها أن ما في بطنها ( ذكرا ).
لكن الله تعالى اقتضت حكمته أن تلد امرأة عمران ( أنثى) وليس الذكر الذي تمنته امرأة عمران كالأنثى التي وهبها الله تعالى لها، ذلك أن الله اختار هذه الأنثى اختيارا، وطهرها طهارة، واصطفاها اصطفاء على نساء العالمين..
{﴿ إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ ﴾ ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾}
تقبل الله عز وجل (مريم) قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها، فرضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيت المقدس كحال الرجال، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التي قالت {(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)}
ثم إن الله تعالى أنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أى (رباها تربية حسنة) وصانها من كل سوء، فكان حالها كحال النبات الذي ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة.
وهكذا قيض الله- تعالى- لمريم عليها السلام كل ألوان السعادة الحقيقية، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خلقي أو خلقي، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب.
قال صاحب الكشاف ( الزمخشري): «روى أن «حنة» حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم» .
فقال لهم زكريا عليه السلام: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها» .
قال الله تعالى {(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)}
سنوات وهى على هذا الحال تتنقل بين الكرامات والمعونات، حتى جاء اليوم الذي بشرت فيه بغلام؟!
ومن هنا بدأت المحنة الكبرى في شأن ( مريم عليها السلام) بشرت بغلام وهى بلا زوج، ولم تك بغيا.. ؟!
{﴿ وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ ﴿ فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ ﴿ قَالَتْ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ﴾ ﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمًا زَكِيًّا ﴾ ﴿ قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ ﴿ قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُۥٓ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ﴾﴿ فَحَمَلَتْهُ فَٱنتَبَذَتْ بِهِۦ مَكَانًا قَصِيًّا ﴾ ﴿ فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ﴾ ﴿ فَنَادَىٰهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ وَهُزِّىٓ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ ﴿ فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِىٓ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴾}
خيم الحزن على مريم عليها السلام حتى تمنت الموت قبل أن يجري عليها ما جرى {﴿قَالَتْ يَٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ﴾}
فناداها (مولودها) من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحت قدميك ( سريا) نهرا صغيرا فمدي يديك فاشربي منه ودونك هذه النخلة هزيها بيديك تساقط عليك الرطب فكلى واشربي وقري عينا..
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن مباشرة الأسباب في طلب الرزق، وبذل الوسع ( أمر واجب شرعا) وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله..
وهذا هو الشاهد: أيها المؤمنون من ذكر هذا ( الطرف) من قصة مريم عليها السلام..
لبيان أن المؤمن يأخذ بالأسباب، ويسعى، ويضرب في الأرض، ويتحرك، ويعمل بكلتا يديه، امتثالا لأمر الله {﴿ فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ ﴾} مع علمه ويقينه أنه لا يقع في ملك الله – سبحانه- إلا ما يشاؤه ويريده.
من هنا أمر الله- تعالى- مريم- عليها السلام على لسان مولودها-عليه السلام بأن تعمل بيديها فتهز النخلة هزا ليتساقط عليها الرطب فتأكل من عمل يديها، مع قدرته- سبحانه- على إنزال الرطب إليها من غير هز أو تحريك، ولكنها سنة الله تعالى في أرزاق العباد..
كما أخذوا منها أيضا أن خير ما تأكله المرأة بعد ولادتها الرطب، قالوا: لأنه لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطمعه الله- تعالى- لمريم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح لنا أبواب رحمته، وأن يقدر لنا الخير حيث كان إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
بقى في ختام الحديث عن العمل كوسيلة شرعها الله تعالى وسنها لاكتساب المعاش بقى لنا أن نقول:
إن العمل الدنيوي إذا وقع من إنسان مؤمن وتوفرت له النية الصالحة تحول هذا العمل الدنيوي إلى عبادة يؤجر صاحبها ويثاب عليها، حتى ورد أن من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له..
وقد صافح رسول الله أحد أصحابه فأصاب من يديه خشونه فبشره رسول الله بقوله ( هاتان يدان يحبهما الله ورسوله)
أحدهم يخرج من بيته يسعى على أولاده يطعمهم ويكسوهم ويعلمهم ويداويهم..
والثاني يخرج من بيته يسعى على والديه شيخين كبيرين يطعمهم ويكسوهم ويداويهم..
والثالث يخرج من بيته يسعى على زوجه يطعمها ويسقيها ويكسوها ويداويها..
والآخر يخرج من بيته يسعى على نفسه يعفها عن سؤال الناس أعطوه أو منعوه..
كل هؤلاء متى توفرت لديهم النية الصالحة فجهدهم مأجور، وسعيهم مشكور، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على شرف النية التي تحول العادة إلى عبادة، وتحول القليل إلى كثير..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
Source link