ما أضعفَ الخلقَ! فعلى رغم ما وَصلوا إليه مِن علوم وتقنية، وعلى قدرِ ما أوتوا مِن قوَّة ماديَّة، إلاَّ أنَّهم يظلُّون ضعفاءَ أمام قُدرة الله، لا يستطيعون دَفْعَ هذه الزلازل أو الأعاصير، أو توجيهها إلى مكانٍ آخرَ، فيكتفون بمجرَّد المشاهدة والرَّصد.
نِعمُ الله علينا كثيرةٌ: نِعمٌ في الأبدان، ونِعمٌ في الأوطان، حينما خَلقَنَا ربُّنا يَسَّر لنا كلَّ ما نحتاجه؛ {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وأكثر هذه النِّعم ربَّما لا نستشعر أهميتَها؛ لأنَّها ملازمةٌ لنا منذ وُجدنا في هذه الحياة؛ لكن وبضدِّها تتبيَّن الأشياء، فكم مِن نعمةٍ نحن عنها غافلون، ونُدرك أهميتَها حينما نفقدها، أو يفقدها غيرُنا.
فالأرض بما فيها من أشياءَ نُشاهدها بأبصارنا، أو مغيبة نُدركها بعقولنا، خَلقَها لنا ربُّنا؛ لنعيشَ فيها، ولنعمرَها عمرانًا حِسيًّا بالحرْث والزَّرع والبناء، وعمرانًا معنويًّا بطاعته، وذلَّلها لنا؛ لاستثمارها وبناء المساكن، والتنقُّل في أرجائها بَرًّا وبحرًا وجوًّا؛ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، فجعل فيها أسبابَ اليسر والسهولة التي يحتاجها الخلق؛ {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
فحينما خَلَق الأرضَ جعلها مستقرَّة؛ لنتمكَّن من العيش عليها، فلو كانت مضطربةً كالسَّفينة في البحر، لَمَا قرَّ فيها قرار، وما تم الانتفاع بها، فهذه نعمةٌ مِن نِعم الله، وحينما تزلزل الأرض زلزالاً يَسيرًا لثوانٍ معدودة، تتبدَّل حياة الناس، فيفقدون نِعمةَ الاطمئنان، فالكلُّ في خوفٍ ووَجَل، يَهيمون على وجوههم في الخلاءِ؛ طلبًا للنجاة.
تَهلِك الأموال والأنفس والثمرات بهذه الزَّلازل، وكم مِن حِكَمٍ لربِّنا – تبارك وتعالى – في هذه الزلازل والبراكين والأعاصير، واللهُ يَعلم وأنتم لا تعلمون، فأفعالُ الله لا تخلو مِن حِكمة ومصلحة، فتبارك الله أحكمُ الحاكمين، فحتى ما فيه ألَمٌ وضرر ماديٌّ – في الظاهر – فللهِ فيه حِكمٌ لا تُحيط بها عقولُ البَشَر، فالشيء قد يكون خيرًا محضًا بذاته، وقد يكون خيرًا لا لذاته، بل لِمَا يؤول إليه من مصالح، فعلينا واجبُ العبودية لربِّنا، والصبر على أقداره، والتسليم فيما نُحبُّ ونكره.
عبادَ الله:
كثرُت في زماننا الزلازل، وهي مِن علامات تَصرُّم الدنيا وقُرْب الآخرة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا تقومُ السَّاعة حتى يُقبضَ العِلم، وتكثرَ الزلازل، ويَتقاربَ الزَّمان، وتظهرَ الفِتن، ويَكثرَ الهَرْج – وهو القتل – حتى يكثرَ فيكم المال فيفيض»؛ (رواه البخاري (1036)).
فكثرةُ الزلازل ودوامها من علامات السَّاعة الصُّغرى، وبعدَ ذلك علاماتٌ أخرى لَم تَظهرْ بعدُ، ثم تظهر العلاماتُ الكُبرى.
عبادَ الله:
ما أضعفَ الخلقَ! فعلى رغم ما وَصلوا إليه مِن علوم وتقنية، وعلى قدرِ ما أوتوا مِن قوَّة ماديَّة، إلاَّ أنَّهم يظلُّون ضعفاءَ أمام قُدرة الله، لا يستطيعون دَفْعَ هذه الزلازل أو الأعاصير، أو توجيهها إلى مكانٍ آخرَ، فيكتفون بمجرَّد المشاهدة والرَّصد.
بوَّب البخاريُّ في صحيحه في كتاب الاستسقاء: “باب ما قيل في الزلازل والآيات”، قال الحافظ ابن رجب في “فتح الباري” (9/245) في شرحه لهذا الباب: “أشار (البخاري) إلى أنَّ الزلازل لا يُصلَّى لها؛ فإنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ذكر ظهورها وكثرتها، ولم يأمرْ بالصلاة لها، كما أمر به في كسوفِ الشَّمس والقمر، وكما أنَّه لم يكن يُصلَّى للرِّياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل ونحوها من الآيات… وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطَّاب، ولم يُنقلْ أنَّه صلَّى لها هو ولا أحدٌ من الصحابة… فعن صفيةَ بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر، حتى اصطفقت السُّرر، وابن عمر يُصلِّي فلم يَدرِ بها، ولم يوافق أحدًا يُصلِّي، فدرى بها، فخطب عمرُ الناسَ، فقال: “أحدثتم، لقد عجلتم”، قالت: ولا أعلمه إلاَّ قال: “لئن عادتْ لأخرجنَّ من بين ظهرانيكم”؛ (رواه ابن أبي شيبة (8335)، والبيهقي (3/343)، ورواته ثقات)… اعلم: أنَّ الشُّغل بالصلاة في البيوت فُرادى عندَ الآيات أكثرُ الناس على استحبابه، وقد نصَّ عليه الشافعي وأصحابه،كما يُشرع الدُّعاء والتضرُّع عند ذلك؛ لئلا يكونَ عندَ ذلك غافلاً، وإنَّما محل الاختلاف: هل تُصلَّى جماعة أم لا؟ وهل تُصلَّى ركعة بركوعين كصلاة الكسوف أم لا؟ ا.هـ.
معاشر الإخوة:
اللجوء إلى الله وقتَ الشِّدَّة بالدعاء والصلاة أمٌر مطلوب شرعًا، وهو من مَظنَّة رفْع البلاء ودفعه؛ {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، لكن خلاف أهلِ العِلم: هل تُشرع الصلاة جماعة لأجل الزلازل أو لا؟ وهل تُصلَّى كصلاة الكسوف بركوعين أو ثلاثة في كلِّ ركعة؟
مَن مَنَع صلاةَ الجماعة للزلازل يقول: الأصل في العبادات التوقيف، فلم يَشْرَع النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لنا صلاةَ جماعة لأجل الزلازل، مع أنَّه أَخبرَ بكثرتها آخرَ الزَّمان، وكذلك الفاروق سُنَّتُه متبعة بأمر النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولم ينقل أنَّه صلَّى لأجل الزلزلة.
ومَن يَرى مشروعيةَ الصلاة جماعة لأجل الزلزلة، يرى أنَّ الزلازل آيةُ تخويف كالكسوف، فتُشرع فيها صلاةُ الجماعة، وقد صحَّ عن ابن عبَّاس: “أنَّه صلَّى في زلزلة بالبصرة، فأطال القُنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسَه فأطال القُنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسَه فأطال القُنوت، ثم ركع فسجد، ثم قام في الثانية ففعل كذلك، فصارتْ صلاتُه ستَّ ركعات، وأربع سَجَدات”؛ (رواه عبدالرزاق (4929)، وصحَّحه البيهقي (3/343)، وابن رجب في “فتح الباري” (9/249)، فمَن صلَّى جماعة لأجل الزلزلة فلا يثرب عليه، وله سلفٌ (ابن عباس)، ونِعْمَ القدوة، وإن تُركت الصلاة جماعة، وصلَّى الناس فُرادى، فهو أولى، والله أعلم.
عباد الله:
لا مانعَ من أن يكون للزلازل سببانِ: سببٌ شرعي عقابًا للبعض وتحذيرًا للآخرين، وسبب ماديٌّ يعرفه أهلُ الاختصاص من أهل عِلمِ الأرض، كالكسوف والخُسوف لهما سببان: سببٌ شرعي يخوِّف الله بهما عبادَه، ولهما سببٌ كوني يعرفه علماءُ الفَلك، ويُدرك بالحِساب، فكون مخلوقات الله تسير على وَفقِ سُنن كونيَّة هو من كمال إتقان الله لخلقه، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
هذه الزَّلازل تُذكِّرنا بحقيقة، وهي أنَّ الأرض ومَن عليها من مخلوقات كتب الله عليها الفناء، فوجودُها إلى أجلٍ، فإذا انتهى الأجل هلكوا بزلازل أو بغيرها، فسُبحانَ مَن تفرَّد بالدوام؛ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 – 27].
عبادَ الله:
ما يظهر من اختلال في الأرض أو في السَّماء؛ بسبب ما اقترفه بنو آدم، وعلى قدرِ تقصيرهم في حقِّ خالقهم، وتنكُّبهم الطريقَ على قدر مصائبهم قوَّة وكثرة؛ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فتكون هذه المصائبُ تحذيرًا من الله لعباده؛ { {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} } [الإسراء: 59]، فلنحذر من سَخَط ربِّنا، ولنتُبْ إليه توبةً نصوحًا، فلَسْنا بمنأًى عن هذه المصائب، ولا نغترُّ بإمهال الله لنا؛ {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 – 99].
هذه الزلازل تُذكِّر بالزلزلة العامَّة للأرض يومَ القيامة؛ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا…} [الزلزلة: 1] السورة، هذا الهلع الذي يَلحق الناسَ بسبب الزلازل في الدُّنيا لا يُقارن بفزع يومِ القيامة؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1- 2]، فهل استحضرنا هذا الموقف واستعددنا لتلك الأهوال؟!
حينما نشاهد الزلازلَ نتأثَّر بسببها، لا سيما إذا أصابتْ بلادَ المسلمين، ونمدُّ يدَ المساعدة، وتكون حديثَ مجالسنا؛ لكن هناك زلازل أُخرى، لا يَهتمُّ بها إلاَّ القليل، وهي الزلازل التي تُزلْزِل أخلاقَ الناس، فلنَهتمَّ بها كاهتمامنا بالزلازل الحِسيَّة، بل لنهتمَّ بها أكثرَ منها، فمن مات مِن المسلمين بِفعل هذه الزلازل التي تَهدم البيوتَ على أهلها يُرجى له خيرٌ، فهو في عِداد الشُّهداء في الآخرة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «الشُّهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهَدم، والشهيد في سبيل الله»؛ (رواه البخاري (2829)).
فلننتبهْ لزلازل الأخلاق التي تُبثُّ عبرَ وسائل الإعلام المختلفة، فدمَّرت أخلاقَ البعض، وقتلت الغَيْرة من البعض، فمع كثرة مشاهدة الفُجور تبلَّد الحِسُّ، وأظلم القلب، فلا تنكر هذه المنكرات التي هي من الفواحش، لنَنتبهْ لزلازل الدِّين التي يُقصد منها اجتثاثُ الدِّين من القلوب، والاكتفاء بأن يكونَ المسلم مسلمًا بالهُويَّة، لا فرق بينه وبين سائر الكفَّار، إلاَّ بمجرَّد اسم الدِّيانة ببطاقته، لننتبهْ لزلازل الدِّين التي يُراد منها اجتثاثُ التُّقى والورع من أهل الصلاح، والتهوين مِن العبادات والشَّعائر الظاهرة، فيجب علينا ألاَّ نتلقَّى دِيننا إلاَّ مِن أهل العِلم، الذي جمعوا بين العِلم والعمل، وجعل الله لهم القَبولَ في الأرض، لا سيما الأموات منهم.
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
Source link