إن أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان ويقضي عليه التكيف السلبي، فالتأقلم أو التحمُّل قد يكون قاتلًا إذا تمَّ في بيئة قاتلة، وعدم التفكير في تغيير واقعه.
هل قرأت قبلًا – عزيزي القارئ – عن تجربة الضفدع الْمَغْلِيِّ؟
إذا كنت قرأتها، فيمكنك تجاوزها، وإذا لم تُحدَّث بها؛ فإليك هي:
قام بعض العلماء بنشر بحث تجربة الضفدع المغلي؛ حيث قاموا بوضع ضفدع حي في الماء المغلي، ولأنه لا يمكن للضفدع أن يصمد أمام التنبيه الحراري المفاجئ والخطير، فإنه قفز على الفور من الماء المغلي ونجا بحياته.
وعندما وضع الباحثون الضفدع في إناء مليء بالماء البارد، ثم سخن الماء بهدوء، لم تكن النتيجة نفسها، بدأ الضفدع فعلًا بالاسترخاء مع ارتفاع حرارة الماء.
عندما وجد الضفدع أن الحرارة أصبحت لا تُطاق، أراد القفز بالفعل خارج الإناء، لكن عضلات جسمه لم تعد تَقْوَى على القفز، ولم تعُد تستجيب، وهكذا فإن الضفدع بقِيَ في الماء وطُهِيَ حتى الموت في الماء الساخن.
ودون الدخول في جدلية ما إذا كانت التجربة حقيقيةً أم هي مجرد رمز، فإنها تكشف حقيقةً في غاية الأهمية والخطورة معًا؛ وهي التأقلم السلبي.
إن أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان ويقضي عليه التكيف السلبي، فالتأقلم أو التحمُّل قد يكون قاتلًا إذا تمَّ في بيئة قاتلة، وعدم التفكير في تغيير واقعه.
والحياة – يا صاحبي – قائمة على ثنائية دائمة الصيرورة؛ السعادة والشقاء، الفرح والحزن، العطاء والمنع، النجاح والفشل … ومن يظنها حبيسةَ طرفٍ من تلك الأطراف آثمٌ ظنُّه.
يرى المحلل النفسي الشهير فيكتور فرانكل أن الحياة لا تقتصر على الإبداع والاستمتاع، فإن كان هناك معنًى للحياة بصفة عامة، فإنه – من ثَمَّ – ينبغي أن يكون هناك معنًى للآلام والمعاناة، فالآلام والمعاناة جزء من الحياة، ويتعذر الخلاص منهما، شأنهما في ذلك – بل في مقدماتهما – القدر والموت، وبدون المعاناة وبدون الموت لا تكتمل حياة الإنسان.
والإنسان القوي ذاك الذي يكون جديرًا بآلامه جدارة تجعله لا يتنازل عن ذاته – ذاته كلها – تلك الذات التي تُبْقِيه على إنسانيته، أو تجعله في عداد الحيوانات.
كنت أدرس طالبات الفرقة الأولى بالجامعة، كُنَّ طالباتٍ جديدات جِئْنَ من نظام تعليم ثانوي يركِّز كثيرًا على استدعاء المعلومات، وحينما وضعتُ الاختبار، كان ذا طابع فلسفي، لم يكن بالطريقة المعتادة لهن، على ما أتذكر 23 طالبة رَسَبْنَ في المادة، 23 طالبة من إجمالي 49، حوالي نصف الطالبات رسبن، كانت النتيجة الأسوأ على مستوى الكلية.
استدعاني عميد الكلية، وسألني عن هذا الإخفاق الملحوظ للطالبات في مقرري تحديدًا، كنت قد راجعت الاختبار، واهتديت إلى أن بعض الأسئلة التي وضعتُها لم تكن على مستوى تفهُّم الطالبات، فقد كُنَّ حديثاتِ عهدٍ بالتعليم الجامعي.
إذًا قد أخطأت، وكان هذا الاعتراف بالخطأ أيسرَ الطرق وأفضلها لمعالجة الخَلَلِ، لم يستغرق لقائي بالعميد والمناقشة في هذا الأمر أكثر من خمس دقائق، من المفارقة أنه في العام نفسه كان هناك زميل حصل جميع الطلاب عنده على درجة ممتاز، جميعهم 40 من 40، وواحد فقط 38 من 40، وظل هو والعميد في جدال طويل حول عملية التضخم هذه.
في هذا العام الذي حصلت فيه طالباتي على الرسوب، وفي الفصل الثاني منه، أجرت الكلية استفتاءً للطلبة على اختيار المرشد الأكاديمي لديهن، كل طالبة تكتب المرشد الذي تختاره من أعضاء هيئة التدريس في الكلية، لقد توقعت من طالبات تلك الشعبة استبعادًا لي، لكن كانت المفارقة الغريبة الصادمة المحببة إلي، أن 48 طالبة من واقع 49 كتبن اسمي بأن أكون مرشدهم الأكاديمي.
إلى الآن أعتَبِر هذا الحدث هو أفضل تكريم حصلت عليه خلال مشواري المهني الذي امتد لربع قرن، حصلت فيه على تكريم متعدد من جهات مختلفة، بقِيَ هذا الاستفتاء بمذاقٍ مغاير تمامًا، قارنت نتيجة الاستفتاء هذه ودرجات الطالبات، ولماذا كانت رغبتهن قائمة في أن أكون مرشدهم الأكاديمي، على الرغم من رسوب نصفهن في مادتي؟
اهتديت إلى معنًى واحد؛ وهو العمل بتفانٍ، نعم، كنت أعمل معهن بحب ورغبة صادقة، فالمقرر التربية والضبط الاجتماعي كان فرصة ثريةً لمسِّ أوتار حساسة في حياة معظمهن، بطريقة غير مباشرة – قطعًا – ولطالما حاولت في المحاضرة أن أُعطيَ أمثلة من هنا وهناك؛ لتبسيط ما قد يبدو جسيمًا لدى بعضهن، أو تقديم عون معنوي لبعضهن، ساعدهن على اجتياز ما قد اعتبروه مشكلات، وكيف لا، وقد كُنَّ يكتبن بعض المشكلات على أنها مشكلات لأقاربهن، ويَضَعْنَها على طاولتي في القاعة قبل المحاضرة، بدون توقيع أو معرفة صاحبتها؟
إننا نحن البشر جميعًا في حاجة لأيدٍ حانية تمتد لنا، تُرَبِّتُ على ظهرنا بودٍّ، تدفعنا للقيام إذا وقعنا، وتمسح دمعنا إن عانينا، تلك اليد لا تجدها متوفرة بكثرة حولنا، حتى من أقاربنا الذي شُغلوا برعايتنا وظنوا أنهم يربوننا، فالتربية أعمق بكثير من تلك الرعاية التي تقف على تلبية الحاجات لا سيما المادية.
إننا كبشرٍ خُلقنا لنخطئ، ثم نخطئ، ثم نخطئ، فالإنسان خطَّاء، ووحدهم الكسالى هم المستثنَون من ذلك، وخُلقنا لنقع، ونقع، ونقع، وقد كان وقوعنا في بداية حياتنا ونحن نتعلم المشي درسًا تاريخيًّا؛ لكي نتذكر طوال حياتنا أن هذا السقوط جزء منا، وخُلقنا لنفشل، مرة تلو المرة، فبهذا الفشل نهتدي للنجاح، فأحيانًا أفوز، وأحيانًا لست أخسر، بل أتعلم كما يُقال في الغرب.
تزاملت مع صديقي باري، أمريكي الجنسية، في العمل بجامعة طيبة بالمملكة العربية السعودية، لم يكن يعرف دروب وطرقات المدينة المنورة، كنت أحاول أن أصِفَ له الطرق المختلفة، كلما واتت الفرصة، في مرة من المرات، وفي السنة الأولى له في المدينة المنورة، كنا مَدعوَّينِ على العَشاء، وخرجت معه أصِف له كيف يرجع بسيارته، فوجدته غير مبالٍ، فقلت له: “باري، ستضل هكذا”، فضحك وقال: “نحن في أمريكا نحب التيه”.
هذا التيه في دروب المدينة هو الذي علَّم صديقي باري كيف يعرف شوارعها، شارعًا شارعًا، دونما حاجة إلى دليل أو سؤال.
وحدها التجارب المؤلمة يا صديقي هي التي تصنعك، فمن دروب الْمِحَنِ تأتي الْمِنَحُ، ومن لم يذُقِ الفشل، فلن يعرف لذة النجاح.
إذا كنت متابعًا لمباريات الدوري الإنجليزي والإسباني – على اعتبار أنهما أقوى الدوريات عالميًّا – أو حتى دوري بلدك، فستجد أن الفريق الذي ستشجعه حينما يواصل الانتصار تلو الانتصار، ويحصل على البطولة بسهولة، لا تجد للنصر طعمًا مثلما تجده حينما يكون ناديك المفضل متعثرًا، العثرة تلو الأخرى، ويظل يفقد النقاط، ثم يقف في شموخ محققًا الانتصار تلو الانتصار، حتى آخر البطولة، هل يستويان مثلًا؟
وفي لعبة الحياة رأى بيل فوجان أنه من الخير التعرض للقليل من الخسائر المبكرة، فهذا أدعى لأن يخلصك من ضغط محاولة تحقيق موسم بلا هزائم.
قال أحدهم: الفشل أمر جيد، فهو كالسَّماد الذي يغذي الأرض، فكل ما تعلمته عن التدريب كان نتيجة أخطاء ارتكبتها، وهو المعنى نفسه الذي أكَّده ألوي ريستاد بقوله: “حينما نسمح لأنفسنا بالفشل، فإننا في الوقت نفسه نسمح لها بالتفوق”.
وهذه ليست دعوة للفشل، فليس هناك من يدعو لذلك، ولا هناك من يتعمَّد السقوط ليقول: كي أستطيع تذوق النجاح، لا، ليس هذا مقصدي، ولا يمكن أن يدعو إليه داعٍ، كل ما هنالك أن الوقوع إذا أصابك – وهو مصيبك لا محالة – فلا تركن، ولا تستسلم، ولا تتركه يُحدِث تصدُّعًا فيك، ولكن قِفْ وقوفَ الرجال، وعاوِدِ السير، وستصل إلى غايتك ولو تأخرت قليلًا.
نعم، فكما يقول جيه ولاس هاملتون: “يتدرب الناس على النجاح، بينما يجب أن يتدربوا على الفشل، فالفشل أكثر انتشارًا من النجاح، والفقر أكثر انتشارًا من الغِنى، وخيبة الأمل أكثر احتمالًا من النجاح”.
والفشل المؤدي للسقوط هنا ليس مقصورًا على عدم تحقيق النجاح المهني والأكاديمي – وإن كان هو جزءًا منه – لكنه يعني الفشل في أن تكون إنسانًا بالمعنى الحقيقي للكلمة.
فالحزانى فاشلون في عدم وصولهم لمعنى البهجة والسعادة في الحياة، والمنهزمون داخليًّا فاشلون، ومثلهم الوجلون، والحمقى، واليائسون، والكسالى، وكثيرو الضجر، والمتشائمون …
ولا تحتاج – يا صاح – إلى التأكيد على أن معظم هذه السمات كفيلة بإحداث شروخ وتصدُّعات في الإنسان، إذا ما تمكَّنت منه واحدة أو اثنتان، أما إذا تكالبت جُلُّها أو كلها عليه، فسيموت قبل أن يُشيَّع للقبر، وإن تأخر الأخير لسنوات طوال.
وفي مثل تلك الحالات لا يوجد نجاح بمعناه المعهود، فالنجاح هنا يعني ببساطة عدم تصدعك، فضلًا عن سقوطك؛ أي: إن البقاء في حالة التماسك والصمود هو المراد.
وكما الأشجار يكون الإنسان في تنشئته.
والإنسان الطبيعي شأنه شأن الشجرة، تتعهدها بالرعاية والتعرض لظروف طقسها الملائم، فتنمو قوية، ضاربة بجذورها في الأرض، وشامخة في السماء، أما إذا أُهملت، أو وُضعت في بيئة غير بيئتها، فلا إخالها تستقيم، أو تنمو نموًّا طبيعيًّا.
إن الغصون إذا قومتَها اعتدلت = ولا يلين إذا قومتَه الخشبُ
وكذلك الإنسان؛ إذا ما تم تعهده بالرعاية والاهتمام، والتعرض للحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح وآلام، فإنه ينمو طبيعيًّا، وإن شئت، فانظر إلى الأطفال الوحشيين الذين تربَّوا مع الكلاب أو القرود في ظروف استثنائية، قد تصرفوا مثلهم، كما أن الإنسان الذي نشأ بمعزِل عن المجتمع منذ طفولته، فإنه يفقد إنسانيته.
ولعلك سمعت عن قصة الفتاة التي تُدعَى جيني وايلي، إذا لم يكن وصلك خبرها، فدَعْنِي ألخصه لك.
في عام 1970، دخلت امرأة وطفلتها إلى مكتب الرعاية الاجتماعية في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية، كانت الفتاة تبدو في سن السادسة، بينما هي في السنة الثالثة عشرة من عمرها.
وبالتقصي أخبرت الزوجة إحدى الموظفات بأنها تعرضت للاعتداء والتعذيب من قِبل زوجها، وأن الفتاة قَضَتْ طفولتها معزولة داخل غرفة نومها، متعرضة للإساءة البدنية والنفسية، محرومة من الاتصال الإنساني حتى مع أمها وأخيها، كانت تتعرض من قِبل أبيها للضرب، إذا ما حاولت الكلام أو البكاء، لم تكن جيني قادرة على الكلام والنطق؛ إذ كانت تتعرض للضرب، كلما حاولت الكلام أو الصُّراخ.
نُقِلت جيني إلى المستشفى لتلقي العلاج في حالة صحية متدهورة، وُجِّهت إلى والدها تهمة الاعتداء على الأطفال، وأطلق النار على نفسه، وترك ملاحظة مكتوبة قبل انتحاره كتب فيها: العالم لن يفهم.
لا بد لي من جملة اعتراضية على تلك العبارة التي تركها والدها، فعلى المستوى الشخصي لم أفهم، ولم أجد تفسيرًا لذلك، إلا أنه مريض نفسي، لا ريب في ذلك.
تعلمت جيني الضَّحِك، والاستمتاع بالألعاب، وما تزال تعيش – لحظة كتابة تلك السطور – بمؤسسة لرعاية المختلين عقليًّا في كاليفورنيا بولاية لوس أنجلوس.
ذكَّرتْني قصة جيني بأحد الزملاء الذين زاملتهم خارج مصر، رأيتُه في بيته الذي كان يسكنه وحده منظمًا مرتبًا بشكل لافت، فأبديتُ إعجابي به، فقال لي: إنه في البيت لا يسمح بأن يسمع صوتًا، قلت له: معقول؟ ألهذه الدرجة؟ وكيف يستجيب أولاده؟
شرح لي أن لديه ثلاث بنات، بينما كُنَّ صغيرات، كانت إحداهن تصرخ، فارتفع صوته عليها لكي تسكت، فلما لم تستجب، قام بقذفها بالكرسي البلاستيك.
وماذا حدث بعد ذلك؟ سألته.
قال مغتبطًا وعلى شفتيه ابتسامة المنتصر: لم أسمع بعدها صوتًا!
فاحذر – يا صاحبي – من نظرتك لذاتك؛ لأنها هي التي تحدد شخصيتك، فإذا كنت تنظر لها على أنها ذات قيمة، فستغدو كذلك، وإذا رأيتها لا تمثل شيئًا، فلن تصمد أمام تحديات الحياة.
___________________________________________________________
الكاتب: أ. د. زكريا محمد هيبة
Source link