أسئلة عرضت على مفتى القدس الحاج «محمد أمين الحسيني» -رحمه الله- وتصدى للرد عليها في كتابه «كارثة فلسطين، الحقيقة والمؤامرة» الذي يعد شهادة للتاريخ وكشف لحقيقة المؤامرة القديمة على فلسطين
{بسم الله الرحمن الرحيم }
أ – يتحدث الناس عن مشكلة اللاجئين، ولماذا خرجوا من بلادهم فما هي الأسباب الأساسية لخروج الفلسطينيين من وطنهم، وهل للإنجليز واليهود، خاصة الأعمال الإرهابية اليهودية لها علاقة بذلك؟
ب – يقول بعض الناس أن سماحتكم والهيئة العربية العليا طلبتم من أهل فلسطين الخروج من البلاد على إثر صدور قرار التقسيم في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م وقيام الاضطرابات في فلسطين. فماذا تقولون في ذلك؟
أسئلة عرضت على مفتى القدس الحاج «محمد أمين الحسيني» -رحمه الله- وتصدى للرد عليها في كتابه «كارثة فلسطين، الحقيقة والمؤامرة» الذي يعد شهادة للتاريخ وكشف لحقيقة المؤامرة القديمة على فلسطين والذي امتدت خيوطها حتى الآن.
يجيب محمد أمين الحسيني:
** المؤامرة الاستعمارية اليهودية على العرب
ترجع الأسباب الحقيقية لخروج أهل فلسطين من بلادهم إلى المؤامرة الاستعمارية اليهودية المبيتة ضدهم، وقبل أن أسرد هذه الأسباب، أرى أن أعرض بالذكر لبعض مقدمات هذه المسألة:
لقد كان هدف الإنجليز واليهود منذ البداية العمل على تحويل فلسطين العربية إلى دولة يهودية، ولم يكن تصريح بلفور وعبارة «الوطن القومي اليهودي» إلا تمهيدا لهذه الغاية، وتمويها على الرأي العام العربي والإسلامي، حتى يتم للسياسة البريطانية تحقيق الوسائل المقررة وفق الخطة المرسومة، وكان في مقدمة هذه الوسائل فتح أبواب فلسطين على مصاريعها لهجرة يهودية واسعة النطاق، إلى أن يكاثر اليهود العرب، ومن ثم يأخذون بالضغط عليهم لإخراجهم من البلاد، كما ظهر من أقوال القاضي (برانديس) الزعيم اليهودي الأمريكي الذي كان مستشارا للرئيس (ولسون) في الشئون اليهودية.
فقد أعلن هذا في عام ١٩٦٦م: “أن القصد من طلب اليهود تسهيل الهجرة إلى فلسطين أن يصبح اليهود أكثرية السكان فيها، وأن يرحل العرب عنها إلى الصحراء”، وكذلك كتب الكاتب اليهودي، (بن آفي) تعليقا على الشهادات التي قدمت أمام لجنة التحقيق المؤلفة في عام ١٩٢١م برئاسة السير (توماس هيكرافت): “أن على اليهود أن يظهروا وطنهم «فلسطين» من الغاصبين، وأن أمام المسلمين الصحراء والحجاز، وأمام المسيحيين لبنان فليرحلوا إلى تلك الأقطار.
وفي أكتوبر ۱۹۳۰م نشرت صحيفة (المانشستر جارديان) البريطانية المعروفة بصبغتها الصهيونية، بيانا وقعه عدد من أقطاب الإنجليز ورجال الكومنولث البريطاني ومن بينهم (الويد جورج، وستانلي بولدوين، وأوستن تشامبرلن، وليوبولد ايمري، وونستون تشرشل، وهيو دالتون، وهارولد لاسكي، والمرشال سمطس، وأرثر جرينوود، واللورد سئل)، وغيرهم، وقالوا فيه: “إنه كان واضحا ومفهوما لدى الحكومة البريطانية عند إصدارها لتصريح بلفور عام ۱۹۱۷م أن يصبح اليهود أكثرية ساحقة في فلسطين”.
لقد كان عدد المهاجرين اليهود قبل عهد الانتداب البريطاني حوالي ٦٥ ألف يهودي، أما في فترة الانتداب (۱۹۱۹- ١٩٤٨م) فقد تعاظمت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بدعم من حكومة الانتداب حتى بلغ عدد المهاجرين في هذه الفترة وحدها نحو ٤٨٣ ألف مهاجر یهودي.
ولما وقعت الحرب العالمية الثانية سنحت الفرصة لليهود لتقوية أنفسهم وتعزيز أسلحتهم ومضاعفة قواتهم العسكرية وإنشاء جيش يهودي بمساندة السلطات البريطانية التي عينت واستخدمت خلال تلك الحرب عددًا كبيرًا من اليهود في ورش الجيش البريطاني وثكناته ومستودعاته، وفي الوظائف الرئيسية والفنية، وجندت ألوفًا من شبان اليهود في سلك الجيش فدربتهم وسلحتهم وأشركتهم في العمليات الحربية، واعتمدت بعض المصانع اليهودية لإنتاج الذخائر والمتفجرات وما إلى ذلك من اللوازم العسكرية، وبلغ عدد الذين دربهم الإنجليز وجندوهم في الجيش البريطاني حسب ما ورد في التقويم السنوي اليهودي (هاشانا) لعام (٤٣ – ١٩٤٤م ) ٣٣ ألفًا وهذا الرقم لا يشمل عدد المجندين منهم في البوليس والدفاع السلبي والهاجانا وغيرها .
واستطاع اليهود بمساعدة الإنجليز نقل كميات هائلة من السلاح إلى فلسطين وزعوها على مستعمراتهم ومنظماتهم العسكرية .
** تشرشل يؤلف الفيلق اليهودي
وفي عام ١٩٤٣م طالب اليهود الحكومة البريطانية بتأليف “فيلق يهودي” [تشكيلات عسكرية من المتطوعين اليهود] وإلحاقه كوحدة مستقلة بالجيش البريطاني، وساعدهم (تشرشل) مساعدة فعالة على تحقيق هذا الطلب، ولما اعترض المرشال (ويفل) قائد القوات البريطانية في مصر والشرق الأوسط على هذا الطلب خوفًا من إثارة العرب، تحداه (تشرشل) بتأليف الفيلق وجعلته القيادة البريطانية قسما من الجيش البريطاني في حملته على إيطاليا عام ١٩٤٤م.
وبعد انتهاء الحرب عاد أفراد ذلك الفيلق إلى فلسطين ومع أكثرهم أسلحتهم الخفيفة.
وفي ذلك يقول (تشرشل) في مذكراته التي نشرها عن الحرب العالمية الثانية ما نصه: “ولقد نصحني (ويفل) بعدم تشكيل ذلك الفيلق اليهودي خوفا من إثارة شعور العرب، ولكنى تحديت (ويفل)، وكتبت إلى الدكتور (وايزمان) بالسماح بتشكيل الفيلق، ولم يتحرك عربي واحد بالاحتجاج على ذلك”.
ولقد وافقت حكومة (تشرشل) على تشكيل لواء يهودي بصورة نهائية وصل عدد أفراده إلى ١٦ ألف في سنة ١٩٤١م، فلم يشبع هذا الكلب اليهودي العقور فاتخذ قرارا ببناء الجيش اليهودي جاء فيه: “يجب الاعتراف بحق اليهود في أداء قسطهم الكامل للمجهود الحربي، وفي الدفاع عن بلادهم بواسطة قوة عسكرية يهودية تقاتل تحت رايتها الخاصة”.
وقد تم لليهود تنظيم قواتهم وتسليحها قبل أن تضع الحرب أوزارها فأرادوا اغتنام الفرصة وأن لا تنتهي الحرب إلا وقد تحولت فلسطين إلى بلاد يهودية، مدفوعين إلى ذلك بالاعتبارات الآتية :
1/ خشيتهم من قيام حركة عربية واسعة النطاق بعد الحرب تضطر بريطانيا وأمريكا إلى عدم تشكيل الدولة اليهودية في فلسطين.
2/ رغبتهم في قيام الدولة اليهودية قبل أن يزول أثر عطف العالم الغربي عليهم، وهو ما استطاعوا الحصول عليه بدعايتهم الواسعة ضد ألمانيا النازية واضطهادها لليهود.
3/ خشيتهم من أن يقوم من البريطانيين من يعارض في تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، لاعتبارات تتعلق بمصلحة الإمبراطورية
ثم شرع اليهود بحملة إرهابية منظمة لاستعجال السلطات البريطانية بالتسليم لهم بفلسطين، وشكلوا عصابات إرهابية أشهرها :
1/ عصابة أرجون تسفاي ليومي
2/ عصابة شتيرن فقامت بأعمال إرهابية عدة.
واستمر الإرهاب اليهودي إلى ما بعد انتهاء الحرب، وتجاوز الانجليز إلى العرب لإرهابهم وترويعهم وحملهم على ترك ممتلكاتهم والنزوح عن فلسطين، ومع أن الإنجليز لم يشكلوا الدولة اليهودية في فلسطين خلال الحرب، لاعتبارات سياسية وعسكرية، إلا أنهم سارعوا إلى تشكيلها بعد انتهائها متوسلين إلى ذلك بوسائل سياسية وغيرها، إلى أن قدموا قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة التي قررت في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م تقسيم فلسطين باتفاق بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وتبع صدور قرار التقسيم قيام اضطرابات وتطورات خطيرة في فلسطين، وحدثت المحاولات المعروفة لإبعاد عرب فلسطين عن تولى زمام قضيتهم من الوجهتين السياسية والعسكرية، وحرمان مجاهديهم من المال والسلاح، وقد وجد اليهود والإنجليز والأمريكيون أن ظروف عام ١٩٤٨م مواتية لتنفيذ خطتهم المبيتة لإخراج عرب فلسطين منها، وتحويلها إلى دولة يهودية، ولم تعد ثمة ضرورة لانتظار الوقت الذي يصبح فيه اليهود أكثرية في فلسطين، وتوسلوا إلى ذلك بوسائل متعددة بنيت على ثلاث قواعد رئيسية هي :
(1) الضغط السياسي (۲) الدعاية والإرجاف (۳) الإرهاب
1/ الضغط السياسي
ويتمثل في الضغط الشديد الذي قام به المستعمرون على بعض المسئولين العرب لانتزاع زمام قضية فلسطين من أيدي أهلها، مما أدى إلى تبديل الخطة الأساسية الموضوعة من قبل مجلس جامعة الدول العربية في (أكتوبر ١٩٤٧م) للدفاع عن فلسطين وما تلا ذلك من عدم تقديم المساعدات الضرورية لعرب فلسطين، مما أدى إلى إضعافهم، وعرقلة جهودهم، ومنع مجاهديهم من الاستمرار في جهادهم العظيم الذي كاد يقضى على قرار التقسيم في مارس ١٩٤٨م .
2/ الدعاية والإرجاف
ضاعف المستعمرون واليهود دعايتهم المضللة ضد الفلسطينيين ورجال الحركة الوطنية في داخل فلسطين وخارجها، ولاسيما في الأقطار العربية فقد أنشأ قلم المخابرات البريطانية – بالتعاون مع اليهود – عدة مراكز دعاية ضد الفلسطينيين لتشويه سمعتهم وتشكيك الشعوب العربية في إخلاصهم وجهادهم فتكف عن مد يد المساعدة إليهم، ولإقناع العرب بأن إنقاذ فلسطين لن يتم إلا عن طريق إدخال الجيوش النظامية إليها.
ومما هو جدير بالذكر أن الإنجليز أنشئوا من جملة ما أنشئوه من مراكز الاستخبارات والدعاية في الأقطار العربية، مركزا للدعاية في القاهرة في شارع قصر النيل، ووضعوا على رأسه رجلاً بريطانيا انتحل الإسلام واتخذ له اسما إسلاميا وملئوه بالموظفين والعملاء والجواسيس الذين بنوهم في مختلف المدن والأوساط المصرية، وكان من مهام هذا المركز بث الدعاية المعروفة بدعاية الهمس Whispering بالإضافة إلى نواحي الدعاية الأخرى.
أما في داخل فلسطين فقد بذلوا جهودًا واسعة لتثبيط الهمم وإضعاف النفوس وإدخال روح الوهن والهزيمة بين المجاهدين، والكيد للرجال العاملين ومحاولة إقناع الفلسطينيين بقلة جدوى المقاومة وضرورة الإقلاع عن سياسة التطرف، والدعوة إلى التعاون مع الإنجليز، وقد ركزوا الدعاية وتشويه السمعة على صفوة الوطنيين والمجاهدين الذين عرفوا بصلابتهم وشدة إخلاصهم ولاسيما على الهيئة العربية العليا ورئيسها حيث اختلقوا أنواع الأكاذيب والمفتريات والأراجيف
ولما شرع أهل المدن الكبرى – كالقدس ويافا وحيفا وعكا بالعمل على تحصين مدنهم وتسليح أنفسهم، تدخل الإنجليز للحيلولة دون ذلك بإقناع الأهلين بأن بريطانيا لن تسمح لليهود باحتلال المدن الكبرى، ولاسيما المدن والقرى العربية التي خصصت للعرب بموجب قرار التقسيم.
وإني لأذكر بهذه المناسبة أنى ألححت بمطالبة المختصين بجامعة الدول العربية في ديسمبر ١٩٤٧م بضرورة تحصين المدن الرئيسية، وتسليح المجاهدين للدفاع عنها تسليحًا واقيا، فأجابني أحد المسئولين بقوله: “لا ضرورة لتسليح يافا البتة؛ لأن قرار التقسيم جعل يافا في المنطقة العربية، فلا خوف عليها مطلقا اعتداء اليهود، أما حيفا فإن الإنجليز لن يسمحوا لليهود باحتلالها أبدا؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا منها مرفاً حرا، وأن لدينا من التأكيدات ما يجعلنا نطمئن إلى ذلك”!!!.
3/ الإرهاب اليهودي
وارتبطت أعمال الدعاية والإرجاف ارتباطا وثيقا بأعمال الإرهاب اليهودي الأثيم الذي قام به اليهود لترويع العرب المدنيين وذلك بنسف المنازل وإلقاء المتفجرات في الأسواق ومراكز تجمع الأهلين مما أودى بحياة الكثيرين من الشيوخ والنساء والأطفال، وأخذ دعاة الأعداء يزينون للأهلين الهجرة إلى الأقطار العربية محافظة على سلامة أرواحهم وأطفالهم، وفي الوقت نفسه أخذت تظهر دعوة من بعض البلاد العربية تنادى بضرورة نقل الأطفال والنساء والشيوخ العاجزين من فلسطين ريثما يبت في مصيرها، كما ظهرت دعاية أخرى بأن الجيوش العربية ستدخل فلسطين قريبا لتحريرها فلا داعي للقتال وتحمل الخسائر في الأموال والأرواح.
** تحيز الإنجليز لليهود
فلما نشب القتال بين العرب واليهود في أواخر عام ١٩٤٧م إثر صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، كان موقف حكومة الانتداب البريطاني موقف المتحيز إلى اليهود، المتآمر معهم، شأنها طول عهد انتدابها مدة ثلاثين عاما فكانت تتدخل -في كل معركة يفوز بها العرب- لحماية اليهود والحيلولة دون استيلاء العرب على ممتلكاتهم ومستعمراتهم، بحجة أنها لا تزال صاحبة السلطة في فلسطين والمسئولة عن حماية أرواح السكان وممتلكاتهم، غير أنها لا تتذرع بهذه الحجة عندما تكون أرواح العرب وممتلكاتهم عرضة للهلاك والدمار والأمثلة على هذا كثيرة لا مجال لتعدادها الآن، غير أن من الحوادث ما له صلة وثقى بكارثة فلسطين، وأدى إلى هجرة عدد كبير من العرب.
الإنجليز يمهدون السبل لخروج العرب
أضرب لذلك مثالاً حادث هجرة أهل طبرية، فقد تم طبقا لخطة مرسومة لتسليم هذه المدينة لليهود، فإن طبرية تقطنها أكثرية من اليهود وأقلية من العرب، وقد كانت القوات البريطانية خلال المعارك الناشبة بين العرب واليهود تغض طرفها عما يقترفه اليهود في الأحياء العربية العزلى من السلاح، وتسهيل سبيل وصول المدد والنجدات إلى اليهود، وتحول دون وصول المدد والنجدات إلى العرب، مما هيأ لها أن تتدخل وتعمل على إجلاء العرب عن المدينة تاركين وراءهم جميع ما يملكون، بحجة أنهم أقلية يخشى عليها من الأكثرية اليهودية .
ومثل ذلك حدث في المذابح التي اقترفها اليهود في القرى العربية الضعيفة بين سمع القوات البريطانية وبصرها، كمذابح قرى دير ياسين وغيرها.
ومن الجدير بالذكر أن معظم الفظائع الوحشية في هذه القرى ارتكبتها عصابتا أرجون تسفاى ليومى وشترن، وأكثر أفرادهما من اليهود المتدينين ورجال الدين الربانيين والحاخاميين المنتسبين إلى جماعة (أجودات إسرائيل) الدينية اليهودية، المعروفين بفرط تعصبهم وشدة أحقادهم، فكانوا يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة، ويبقرون بطون الحوامل ويخرجون الأجنة منها برءوس حرابهم، زاعمين أن هذا أمر إله إسرائيل الذي أمر شعب إسرائيل حين فتح أريحا أن يقتل بحد السيف كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، وأن يحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، كما جاء في الإصحاحين السادس والسابع من سفر يشوع
المؤامرة الإنجليزية على تسليم حيفا لليهود
أما حيفا فقد كانت كارثتها من أبرز مظاهر تحيز الإنجليز لليهود وتآمرهم، فقد أعلنت سلطة الانتداب البريطانية أن لبريطانيا مصالح حيوية في حيفا، وأنها لن تتخلى عنها إلا بعد شهر أغسطس ١٩٤٨م أي بعد انتهاء الانتداب بثلاثة أشهر ونصف شهر، وعلى هذا منعت العرب من إقامة المراكز المحصنة داخل المدينة، وحظرت عليهم الوصول إلى أماكن معينة، في الحين الذي كان اليهود فيه يتحصنون ويتركزون ويجوبون كافة المواقع دون حظر، حتى إذا أتموا تسلحهم واستكملوا استعدادهم أعلنت سلطة الانتداب فجأة عدولها عن التمسك بحيفا واضطرارها لإخلائها! وحينئذ ظهر أن اليهود قد تسلموا ما كان بيد الإنجليز من المعسكرات ذات الشأن، والأماكن المحصنة والمواقع المشرقة على أحياء حيفا كلها، مما سبب كارثة استيلاء قوات اليهود المسلحة عليها، واضطرار أهلها العرب للجلاء عنها بعد وقائع دامية، وبعد ما منع الإنجليز وصول النجدات إليهم، تاركين وراءهم كل ما يملكون أيضا، وعندئذ فقط ظهرت رقة شعور القوات البريطانية، ففتحت ميناء حيفا وجمعت ما فيها من السفن وجعلت تدعو العرب إلى الرحيل عن المدينة وتحملهم عليها، وكذلك أخذ الفيلق العربي – أي جيش الجنرال جلوب- ينقل العرب في سياراته كما فعل في طيرة حيفا وغيرهما، وكما نقل قبل ذلك أهالي طبرية وبيسان بسياراته إلى شرق الأردن، فعل كل ذلك تسهيلاً لهجرة العرب وتمكينا لاحتلال اليهود.
واشتركت دائرة المخابرات البريطانية واليهودية في هذه المهمة بنصيب وافر وأخذت على عاتقها إشاعة الحوادث المثيرة والأخبار المضللة، ونشر الذعر بين الأهالي الآمنين من العرب، وخاصة على أثر المذابح التي اقترفها اليهود وكان للمخابرات البريطانية وأعوانها من موظفي حكومة الانتداب أكبر الأثر فيما حدث في مدينة يافا من هذا القبيل أيضا مما أدى إلى خروج أهلها الغزل، والتجائهم إلى أماكن أخرى من فلسطين أو إلى الأقطار العربية المجاورة.
أما في القدس الجديدة فقد منعت القوات البريطانية المجاهدين الفلسطينيين من المرور عبر مناطق السلامة التي كان جنودهم يحتلونها ثم لم يلبثوا أن سلموا تلك المناطق -مع معسكر العلمين الكبير الواقع جنوب القدس- إلى قوات الهاجاناه اليهودية في ١٣ و ١٤ مايو ١٩٤٨م وبذلك أصبح اليهود يسيطرون على القدس الجديدة، ويتحكمون في القدس القديمة أيضًا .
كارثة اللد والرملة
وأما كارثة اللد والرملة فقد نشأت من أن الجنرال جلوب سحب فجأة قوات الجيش الأردني التي كانت مرابطة فيهما، بعد ما جرد قوات الجهاد المقدس التي كانت مرابطة في مطار اللد ومحطة السكة الحديد وغيرهما من سلاحها، بحجة الهدنة الأولى، واعدًا بإرجاعها بمجرد انتهاء الهدنة.
ولكن أخلف وعده عندما استؤنف القتال في ٩ يوليو ١٩٤٨م، فسقطت اللد والرملة وعشرات القرى المحيطة بهما في أيدي اليهود واضطر نحو مائة ألف من أهلها للنزوح، يضاف إليهم من لجأ إلى المدينتين المذكورتين من أهل مدينة يافا وقراها، وهم لا يقلون عن خمسين ألف نسمة أيضًا.
والجنرال (جوت باجوب جلوب): هو المستشار العسكري للملك عبد الله بن الحسين والقائد العام للجيوش العربية في فلسطين، له تاريخ أسود في سحق ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق حين كان قائدا للقوات البريطانية المرابطة في شرق الأردن .. كان هو القائد الفعلي لتلك الجيوش المنكوبة، وضع خطة تفتقد عنصر التنسيق والتكامل والتوافق في تنفيذها، تم تعديلها قبلها بيومين مما أربك مهمات الجيوش ومحاور عملياتها الأمر الذي يضع علامة استفهام من المغزى منه، خاصة أن الخطة الجديدة أفقدت الجيوش وحدة الهدف، وضعف التأثير .. وطلب فيها من جيش الإنقاذ الانسحاب وعطل الجيش اللبناني وشتت بقية الجيوش.
وقد روى لي أحد رجال الدين المسيحي المحترمين أنه سمع من سيادة (المونسنيور) وكيل بطريرك اللاتين في فلسطين أن جلوب بعث ببرقية تهنئة لقائد الجيش اليهودي على احتلاله اللد والرملة، ولما صادفه المونسينور المذكور وعاتبه على برقيته أجابه جلوب بقوله: “هذه هي السياسة”!!.
أشرف قائد الجيش الأردني سنة ١٩٥٣م جلوب باشا على المذبحة التي أبادت قرية (قبية) الواقعة في الضفة الغربية التي قام بها اليهود، فقررت الحكومة الأردنية عزله عن قيادة الجيش وترحيله عن البلاد، وجاء هذا القرار متأخرا جدا.
ونحن حين نعرض لذكر الجنرال جلوب باشا الانجليزي لا نرمى إلى تجريحه شخصيا فهو يعمل لصالح أمته ويقدم لها الخدمات الجلية، ولكن اللوم يقع على بعض العرب الذين ولوه القيادة العامة الفعلية أثناء حرب فلسطين.
وبعد الهدنة الثانية توالت اعتداءات اليهود على المناطق العربية، وانسحبت قوات الدول العربية من مناطق الجليل الغربي وجنين وبعض القدس وبيت لحم
يذكر أنه دخلت الهدنة الأولى حيز التطبيق العمل في ١١ يونيو ١٩٤٨م بقبول الجامعة العربية لها، والتي قالت عنها القيادة العسكرية الإسرائيلية: “إن الهدنة جاءت في الوقت الملائم”؛ فقد كانت الوحدات متعبة وخائرة القوى، وكانت الخسائر في كتائب سلاح المشاة عالية جدا، وكان من الضروري منح الرجال فترة استجمام لاسترداد القوى، كما كان من الضروري إرسال تعزيزات للكتائب.
أما الهدنة الثانية فبدأت في ١٩ يوليو ١٩٤٨م بعد استئناف الحرب في ٩ يوليو ١٩٤٨م على جميع الجبهات بعد أن أعادت القوات الصهيونية ترتيب قواتها وبعد أن زودت بكميات كبيرة من أحدث الأسلحة وبادرت بالهجوم على الجبهات العربية الراكدة وبصورة عامة أخذ زمام المبادرة في هذا القطاع وإلحاق الضرر به وإلغاء تفوقه الطبوغرافي.
الهيئة العربية العليا عارضت في خروج العرب من فلسطين
أما فيما يتعلق بالجواب على الشق الأخير من سؤالكم، فقد كان رأيي الذي أعلنته مرارًا، وأبلغته للجهات العربية ذات الشأن، أن يبقى عرب فلسطين في بلادهم، وأن يدافعوا عنها حتى النفس الأخير، وأن لا يجلوا لأي سبب من الأسباب.
لماذا خرج اللاجئون الفلسطينيون من فلسطين؟
لا يزال المستعمرون واليهود الصهيونيون، وصنائعهم المأجورون، يروجون دعايتهم الكاذبة المضللة بأن اللاجئين من عرب فلسطين إنما غادروا بلادهم من أنفسهم، وتلبية لنداءات وتوجيهات صدرت إليهم من الهيئة العربية العليا لفلسطين ومن الدول العربية، فبالإضافة إلى ما بيناه أنها من إدحاض لتلك التهم والمفتريات التي يرجف بها الأعداء، نثبت فيما يلي بعض الحقائق والوثائق الدامعة في هذا الشأن:
لما اشتد الإرهاب اليهودي في فلسطين، وأخذ اليهود المجرمون يقترفون شتى الفظائع الوحشية في العرب، اقترح سيادة (جاورجيوس حكيم) مطران طائفة الروم الكاثوليك في حيفا وعكا ترحيل النساء والأطفال إلى لبنان لإنقاذهم من فظاعة الإرهاب اليهودي، وقد كتب رئيس اللجنة القومية في حيفا المرحوم السيد رشيد الحاج إبراهيم بتاريخ ٣ مارس سنة ١٩٤٨م كتابا إلى رئيس الهيئة العربية العليا مستوضحًا رأى الهيئة في هذا الأمر، وعلى أثر ذلك أبرق رئيس الهيئة إلى اللجنة القومية بحيفا يقول: إن هجرة الأطفال ضارة بالمصلحة، ويطلب التريث في الأمر وانتظار كتابه، ثم أرسل رئيس الهيئة كتابه المشار إليه إلى رئيس اللجنة القومية وقد أعرب فيه عن تخوفه من أن يكون نزوح العائلات العربية عن فلسطين سببا في إضعاف معنويات الأمة، وعارض في النزوح مبينا أن الأفضل نقل من تدعو الضرورة إلى نقله من العائلات من الأماكن الشديدة الخطر إلى الأماكن المأمونة في المدن والقرى الداخلية الفلسطينية .
وفي نفس الوقت أبرقت الهيئة إلى السيد “كمال حداد” مدير مكتبها في بيروت مؤكدة ضرر هجرة الأطفال وغيرهم من فلسطين إلى دمشق وبيروت وطالبت مراجعة السلطات المختصة في سوريا ولبنان لمنعها.
ولم تقتصر الهيئة في مساعيها على محاولة منع هجرة الفلسطينيين إلى خارج فلسطين بل طالبت في مذكرتها، الحكومات المصرية واللبنانية والسورية، وسائر الحكومات العربية بإعادة الفلسطينيين الذين غادروا فلسطين إلى الأقطار العربية ليقوموا بواجبهم في فلسطين، كل في ناحية عمله.
وفي ذلك عبرة وتذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ثم إن اليهود أنفسهم، ولاسيما الذين قاموا منهم باقتراف جرائم الإرهاب المنكرة، اعترفوا بصراحة بأن الجرائم والفظائع التي اقترفوها في العرب كانت السبب المباشر لخروجهم من بلادهم والتجائهم إلى الأقطار العربية المجاورة، فالإرهابي اليهودى المجرم (مناحم بيجن) الذي كان قائدا لمنظمة (أرجون تسفاى ليومي) اليهودية الإرهابية السرية يقول في كتابه «الثورة – تاريخ الأرجون»: “إن مذبحة دير ياسين كان لها أثر بالغ في نفوس العرب يساوى ستة أفواج من الجنود، وأن قرية قلونية العربية التي كانت قد صدت كل هجوم شنته عليها قوات الهاجاناه، قد أخليت في ليلة واحدة، وكذلك أخليت قرية بيت أكساء”.
ثم يقول: “لقد ساعدتنا مذبحة دير ياسين على إنقاذ طبرية وحيفا بصورة خاصة ولم يبق من العرب الذين كانوا يقطنون المنطقة التي أصبحت إسرائيل، وعددهم ۸۰۰ ألف غير ١٦٥ ألفا، وتظهر أهمية هذا الحادث بما ينطوي عليه من مغزی اقتصادی وسیاسي”.
وكذلك يقول الكاتب اليهودي (اليرمان هال) في كتابه «عرب إسرائيل»: “لقد أصبح واضحا أن القوات الإسرائيلية كانت قاسية حتى مع غير المحاربين من العرب، فهناك على سبيل المثال عدد كبير من القرى المنسوفة والمهجورة، حيث لم يقع أي قتال أو وقع منه شيء يسير جدا، أما بشأن الفظائع فإن إسرائيل تذكر دير ياسين بأسف حيث ذبحت الأرجون أكثر من مائتين من الرجال والنساء والأطفال، ويجب أن يضاف إلى الأسباب التي أدت إلى فرار العرب الجنوني من فلسطين خوفهم من وقوع حوادث جديدة مشابهة الحادثة دير ياسين”.
اعتراف الكونت برنادوت
واعترف (الكونت فولك برنادوت)، وسيط الأمم المتحدة الذي اغتاله اليهود في القسم الذي احتله اليهود من مدينة القدس لأنه أوصى بإعطاء القدس والنقب للعرب، اعترف في تقريره المرفوع إلى الأمم المتحدة عام ١٩٤٨: بأن خروج عرب فلسطين نجم عن الرعب الذي نشأ عن إشاعات تتعلق بأعمال الإرهاب والطرد، حقيقية أو مزعومة، ثم قال: “وهناك تقارير عديدة من مصادر موثوقة تؤكد وقوع نهب وسلب على نطاق واسع، وتخريب وتدمير قرى دون أية ضرورة عسكرية”.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link