إنه أبو ذر الغفاري رضى الله عنه: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، نرى من خلال الحديث عنه كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحبه، وأعلن محبته
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى { ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ﴾}
أيها الإخوة الكرام: هذه الآية من سورة آل عمران { ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ﴾} هى إحدى الآيات التي أصّلت للحديث عن أصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام..
وورد الحديث عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في مواضع تتعدد وتتكاثر في كتاب الله سبحانه وتعالى ومنها قول الله تعالى:-
{﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ﴾}
ومنها قال {﴿ وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ﴾}
والحديث عن ذكر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم (أشخاصا وأحداثا ومواقف) في القرآن الكريم حديث يطول..
من هنا ارتأيت أن ينتظم الحديث( فقط) عن واحد( فقط) من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، نعطر أسماعنا بسيرته ، وتَرفعُ هِمَمَنَا مَسِيرتُهُ ، وكما قال تبارك وتعالى : {{ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}}
إنه أبو ذر الغفاري رضى الله عنه: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، نرى من خلال الحديث عنه كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحبه، وأعلن محبته، وأحسن صحبته، وأحسن نصحه، وأحسن توجيهه، وبشره بالجنة وهو لم يزل حي يرزق يمشي على قدميه..
إنه أبو ذر.. وما أبو ذر؟
رجل من (غفار) ، وغفار هى: قبيلة عربية سكنت بين مكة والمدينة..
أبو ذر الغفاري: هو أحد كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد السابقين الأولين إلى الإسلام؛قيل هو الرابع،وقيل هو الخامس بين المسلمين الأُول يأتي بعد أبي بكر وعليّ وعثمان وسعد بن أبي وقاص رضوان الله تعالى عليهم أجمعين..
سمع وهو في بلده أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قال فَقُلْتُ لِأَخِي : انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ ، قال فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، قال فَقُلْتُ مَا عِنْدَكَ ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ..
قال أبو ذر فَقُلْتُ لَهُ : لَمْ تَشْفِنِي مِنَ الخَبَرِ ، قال فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ ، فَجَعَلْتُ لاَ أَعْرِفُهُ ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي المَسْجِدِ ..
قلت: ولم يزل كذلك شهرا.. حتى سبب الله الأسباب وهيئها له فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ : اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ ، فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي ، فَقَالَ لِي : « ( يَا أَبَا ذَرٍّ ، اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ ). قال: فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، فَجَاءَ إِلَى المَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَقَالُوا : قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ ، فَقَامُوا فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ ، فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : وَيْلَكُمْ ، تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ ، فَأَقْلَعُوا عَنِّي ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الغَدَ رَجَعْتُ ، فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ ، فَقَالُوا : قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ ، وَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ، وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالأَمْسِ ، قَالَ : فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّه» .
ولم يكتف رضى الله عنه بإسلام نفسه، ولكنه رجع داعية إلى قومه وإلى من حولهم أن أسلموا لله رب العالمين، فأسلم من قومه نصفهم وأبطئ في الإسلام نصفهم، ثم أسلمت غفار جميعها، وأسلمت قبيلة ( أَسْلَمُ) بإسلام غفار، قالوا (إِخْوَتُنَا ، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ ، فَأَسْلَمُوا) وفاز الجميع بدعوة مستجابة من النبي عليه الصلاة والسلام ( غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ) لتأتي أسلم وغفار برجالها ونسائها وذراريها في ميزان حسنات ( أبي ذر) كما ستأتي الأمة كلها في ميزان النبي صلى الله عليه وسلّم
ورد في مناقب أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال فيه «” مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ، وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ “. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَالْحَاسِدِ أي (على طريقة الغبطة) يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَنَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ، فَاعْرِفُوهُ “» .
أما عن شبه أبي ذر بعيسى بن مريم عليه السلام فإنما يشبهه في ( أخلاقه) وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ : ” أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ “.
وفي رواية أبي يعلى الموصلي قال النبي عليه الصلاة والسلام
” من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر ”
لذلك لم أعجب عندما مررت بحديث بريدة والذي قال فيه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي، أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ “. قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِّهِمْ لَنَا، قَالَ : ” عَلِيٌّ مِنْهُمْ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ، وَأَخْبَرَنِي، أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ “.
قال الذهبي في السير : “كان أبو ذر رأسا في الزهد والصدق والعلم والعمل، وكان رضى الله عنه قوَّالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم”.
دخل عليه رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلِّب الطرفَ في بيته، فلم يجد فيه متاعًا، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ فقال: “لنا بيت هناك، نُرسل إليه صالحَ متاعنا!”. ففهم الرجل مرادَه، وأنه إنما يعني الدار الآخرة، فقال: ولكن لا بدَّ لكَ من متاع ما دمتَ في هذه الدار، فأجاب: “ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه!”.
أما عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حياة أبي ذر:
فقد كان رسول الله كل شيء في حياة أبي ذر، لزم أبو ذر رسول الله يخدمه ويقضي له الحاجات محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم طول يومه، فإذا جنَّ الليلُ ذهَب أبو ذر لينام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فلم يكن له بيت سواه..
قلت: ولئن فاتت الدنيا أبا ذرٍّ فقد ربح صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم
لزم ابو ذر رسول الله فصلى معه، وحضر مجالسه، وسمع منه، وتتلمذ مباشرة على يد النبي عليه الصلاة والسلام..
وكما تعاهد رسول الله أصحابه أجمعين بالمحبة والمودة والرحمة،
والتوجيه، والتهذيب، والتربية، والتعليم، تعاهد أبا ذر …
وكان أبو ذر رضى الله عنه محبا لله ورسوله، ومحبا للذين آمنوا
قَالَ أبو ذر يَا رَسُولَ اللَّهِ ««الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ كَعَمَلِهِمْ قَالَ النبي عليه الصلاة والسلام« أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أبو ذر فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ(راوي الحديث) فَأَعَادَهَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» »
لم يكن أحد من الصحابة أشد اشتياقا للعلم من أبي ذر كان أحرص الناس على الخير بعد النبي عليه الصلاة والسلام عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أَوْصِني، قال: ««اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»»
عاش أبو ذر رضى الله عنه محبا للعلم، يدقق فيه، يقبل عليه بوجهه وقلبه، ولم يكن أحد من الصحابة يسأل ويلح في السؤال ( ليتعلم) كما أبو ذر..
قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ : « ” مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ “. قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : ” وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ “. قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : ” وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ “. قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : ” وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ “. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ» .
وقَالَ أَبُو ذَرٍّ أيضا : « قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الإِيمَانِ عَمِلا. قَالَ: يُرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا لا يَجِدُ مَا يُرْضَخُ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَيِيًّا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: يَصْنَعُ لأَخْرَقَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَخْرَقَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا؟ قَالَ: يُعِينُ مَغْلُوبًا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا؟ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ فِي صَاحِبِكَ مِنْ خَيْرٍ، تُمْسِكُ الأَذَى عَنِ النَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَفْعَلُ خَصْلَةً مِنْ هَؤُلاءِ، إِلا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» .
نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه منهجا متكاملا في التربية، فمرةً يعظهم بالترغيب، ومرةً بالترهيب، وثالثةً بدعوتهم للتأمل، ورابعةً بفتوى، وخامسة بتقويم لسلوكهم وهكذا. ومن بين الصحابة ( أبو ذر)
قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضولُ أموالٍ يتصدقون بها وليس لنا مال نتصدق به! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « “يا أبا ذر، ألا أعلمك كلمات تدرك بهن مَنْ سبقك ولا يلحقك مَن خلفَك إلا من أخذ بمثل عملك؟”. قال: بلى يا رسول الله. قال: “تكبر الله -عز وجل- دبرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمده ثلاثا وثلاثين، وتسبحه ثلاثا وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر”» .
وعند الإمام أحمد قال أبو ذر -رضي الله عنه- : «« أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» »
وعلى الرغم من ديانة أبي ذر، وكمال إيمانه، وحسن إسلامه، وكرم أخلاقه، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلا أنه يبقى واحدا من البشر، يخطئ ويصيب، ويقع منه السهو والزلل..
قَالَ حَجَّاجٌ سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ بِ( الرَّبَذَةِ ) وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُها قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّهُ سَابَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ قَالَ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ..
قلت وهذا يستلزم شيئا من الحزم، والردع، والتقويم وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم..
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أبا ذر ««إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيَكْسُهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ» »
ولم تزل هذه الزلة التي وقع فيها أبو ذر عالقة في ذهن النبي صلى الله عليه وسلّم يود أن يرهبه منها لئلا يعود إليها حتى مر النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أبو ذر على شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ فَقَالَ النبي «« يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ قَالَ لَا قَالَ لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا»»
ولما كانت آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم،ودخل الناس في دين الله أفواجا، واتسعت رقعة الإسلام، جعل أبو ذر يأمل في أن يوليه رسول الله ولاية لكن الله تعالى أشفق عليه من تبعات الولاية..
قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبيّ، ثم قال: « “يا أبا ذَرّ، إنكَ ضعيفٌ وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ إلا مَنْ أخذَها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها”.» رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وفي رواية قال أبو ذر : قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «“يا أبا ذر، إني أراكَ ضعيفًا، وإني أُحِبّ لكَ ما أحب لنفسي، لا تَأمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مالَ يتيم”» .
وكان هذا المنع من رسول الله عين العطاء كان منعا سببه الرحمة والشفقة وإرادة الخير من رسول الله إلى أبي ذر…
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن صاحبا رحيما رفيقا معلما وناصحا…. بقى لنا أن نقول:
وماذا يراد منا؟
بعد ما سمعنا ما سمعنا أقول يراد منا الكثير…
يراد منا أن نتعرف مواقف وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم،وكيف هو بين زوجه وولده وأصحابه،ويراد منا في الوقت نفسه أن نتعرف سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ننظر إلى علو همتهم، ننظر إلى صدقهم وأمانتهم، نتصف بصفاتهم، ونتخلق بأخلاقهم فلن يصلح الله تعالى حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..
وقد سمعتم أن أبا ذر رضى الله عنه كان يشبهه رسول الله بعيسى ابن مريم عليه السلام..
كان سيدنا عيسى عليه السلام رجلا مربوعا ليس بالطويل ولا بالقصير، وليس بالسمين ولا بالنحيل، ووجهه وجهه أبيض يميل إلى الحمرة.. أما أبو ذر فكان رجلا طويلا، وكان نحيفا، وكان أسمر اللون وشعر رأسه ولحيته أبيض..
ورغم هذه الفوارق إلا أن رسول الله شبه أبا ذر بسيدنا عيسى عليه السلام وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنه لا يشبهه في شكله ولونه إنما يشبهه في كريم صفاته، وحسن أخلاقه..
لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام « ” أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ “» .
وفي الحديث الآخر ” من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر “
فتميز أخي بعفتك في زمان قتل فيه العفاف، تميز بالحياء، تميز بالصدق والأمانة، تميز بالتواضع في زمان الكبر والغرور، تميز بالحلم وسعة الصدر، والنفس الطويل، وخذ أبا ذر مثالا فقد كان رضى الله عنه مميزا فريدا بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وصدق فيه قوله «(رحِمَ اللهُ أبا ذَرٍّ، يَمشي وَحدَه، ويَموتُ وَحدَه، ويُبعَثُ وَحدَه)» .
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها..
Source link