قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأسِ مِن الجسد…ألا لا إيمانَ لمن لا صبرَ له”
أمرٌ عظيم من الأحكام والمفاهيم التي جاء بها الشرع لتعين الإنسان في أمور دِينه ومِحن وشدائد دنياه؛ إنه الصبر، هذا الدواء المهمُّ الذي ذكره الله سبحانه مرارًا في كتابه، بقوله:
1- {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
2- ويخاطِب المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
3- ويخاطبهم أيضًا قائلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
4- {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126].
5- ويطلب مِن المؤمنين الالتزام بالأمر الآتي: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
6- ويوجِّه الخطاب إلى نبيِّه الكريم صلى الله علي وسلم قائلًا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].
وفي الحديثِ عن ابن عباس: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «يا غلام، أو يا بني، ألا أعلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بهن» ؟))، فقلت: بلى، قال: «احفَظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إليه في الرخاء يعرِفْك في الشدة، وإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، جفَّ القلم بما هو كائنٌ، فلو أن الخَلْق اجتمعوا على أن ينفعوك أو يضروك بشيءٍ لم يقضِه اللهُ لك لم يقدِروا عليه، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن النصرَ في الصبر، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة، واعلَمْ أن في الصبرعلى ما تكرَه خيرًا كثيرًا، واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» [1].
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه: أن ناسًا مِن الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسأله أحدٌ منهم إلا أعطاه حتى نفِد ما عنده، فقال لهم حين نفِد كلُّ شيءٍ أنفق بيديه: «ما يكونُ عندي من خيرٍ لا أدَّخِره عنكم، وإنه مَن يستعفَّ يعفَّه الله، ومَن يتصبَّر يصبِّرْه الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله، ولن تُعطَوا عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر»[2].
يبيِّن ابن تيمية أن الصبر ثلاثة أقسام:
الأول: صبرٌ على طاعة الله حتى يفعلها؛ فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبرٍ ومصابرة ومكابدة لعدوِّه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون فعلُه للمأمورات وللمستحبَّات.
الثاني: صبرٌ عن المعصية حتى لا يفعلها؛ فإن النفس ودواعيها، وتزيينَ الشيطان، وقرناء السَّوء – تأمُرُه بالمعصية، وتجرِّئه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركُه لها، قال بعض السلف: أعمالُ البر يفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يقدِر على تركِ المعاصي إلا صِدِّيق[3].
النوع الثالث: الصبرُ على ما يصيب الإنسانَ بغير اختياره مِن المصائب، وهذا النوع على قسمين:
القسم الأول مِن هذا النوع لا اختيارَ للخَلْق فيه؛ كالأمراض وغيرها مِن المصائب، فهذه يسهُلُ الصبر فيها؛ لأن العبدَ يشهَد فيها قضاء الله وقدره، وإنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إما اضطرارًا، وإما اختيارًا، فإنْ فتَح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها وما فيها من النِّعَم والألطاف، انتقل مِن الصبر عليها إلى الشكر لها، والرضا بها، فانقلبَتْ حينئذ في حقه نعمةً، فلا يزال قلبُه ولسانه يقول: “ربِّ، أعنِّي على ذِكرك، وشكرك، وحُسن عبادتك”، وهذا يقوَى ويضعُفُ بحسب قوةِ محبة العبد لله وضعفها.
أما القسم الثاني مِن النوع الثالث:
أن يحصُلَ له بفعل الناس في ماله أو عِرضه أو نفسه – فهذا النوع يصعُبُ الصبرُ عليه جدًّا؛ لأن النفس تستشعر المؤذيَ لها، وهي تكرَه الغلَبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوعِ إلا الأنبياءُ والصِّدِّيقون، وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إذا أُوذِيَ يقولُ: «يرحَمُ اللهُ موسى؛ لقد أوذي بأكثرَ مِن هذا فصبر» !))، وأخبَر عن نبيٍّ من الأنبياء أنه ضرَبه قومُه، فجعل يقول: «اللهم اغفِرْ لقومي؛ فإنهم لا يعلمون»، وقد رُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه جرى له هذا مع قومه [فجعل يقول مثل ذلك]، فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذارَ عنهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النوع مِن الصبر عاقبتُه النصرُ والعز، والسرور والأمن، والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله، ومحبة الناس له، وزيادة العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فبالصبرِ واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوةُ اليقين والإيمان، ترقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم[4].
الصبرُ هو في أسماء الله تعالى: فالصبور – تعالى وتقدَّس – هو الذي لا يعاجِل العصاة بالانتقام، وهو مِن أبنيَة المبالغة، ومعناه قريب مِن معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنِبَ لا يأمَن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم، وصبر الرجل يصبره: لزمه، والصبر: نقيض الجزع، صبر يصبر صبرًا، فهو صابرٌ وصبَّار وصبيرٌ وصبور، والأنثى صبور أيضًا، بغير هاءٍ، وجمعه صبرٌ، الجوهري: الصبر حبسُ النفس عند الجزع، وقد صبَر فلانٌ عند المصيبة يصبر صبرًا.. وصبَّرْته أنا حبَسْتُه؛ قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28]، وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، معناه: وتواصَوا بالصبر على طاعة الله، والصبرِ على الدخول في معاصيه[5].
والصبر: الجراءة، ومنه قولُه عز وجل: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]؛ أي: ما أجرَأَهم على أعمالِ أهل النار، قال أبو عمرٍو: سألت الحليحي عن الصبر فقال: ثلاثة أنواع: الصبر على طاعة الجبار، والصبر على معاصي الجبار، والصبر على الصبر على طاعتِه وترك معصيته.
وقال ابن الأعرابي: قال عمرُ: أفضل الصبرِ التصبُّرُ، وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18، 83]؛ أي: صبري صبرٌ جميل، وقوله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200] ؛ أي اصبِروا واثبُتوا على دِينكم…والتصبُّر: تكلُّف الصبر، وقوله أنشده ابن الأعرابي:
أرى أمَّ زيدٍ كلما جنَّ ليلُها *** تُبَكِّي على زيدٍ، وليسَتْ بأصبَرَا
أراد: وليست بأصبَرَ مِن ابنها، بل ابنها أصبرُ منها؛ لأنه عاقٌّ، والعاقُّ أصبرُ مِن أبويه.
وتصبَّر واصطبر: جعل له صبرًا، وتقول: اصطبَرْت، ولا تقول: اطَّبَرْت؛ لأن الصاد لا تدغم في الطاء، فإن أردت الإدغام قلبت الطاء صادًا، وقلت: اصَّبَرت، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن اللهَ تعالى قال: إني أنا الصبورُ»، قال أبو إسحاق: الصَّبُور في صفة الله عز وجل الحليم، وفي الحديث: «لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه مِن الله عز وجل»؛ أي: أشد حِلمًا على فاعل ذلك، وترك المعاقبة عليه، وصَبَره: أوثقه.
فليصطبِرْ: معناه فليقتص؛ يقال: صبر فلانٌ فلانًا لوليِّ فلانٍ؛ أي: حبسه، وأصبره: أقصه منه، فاصطبر؛ أي: اقتص، يقال: صبَر فلانٌ مِن خَصمه واصطبر؛ أي: اقتصَّ منه، وأصبَره الحاكم؛ أي: أقصَّه مِن خصمه[6].
والصَّبور، وهو اسمٌ مِن أسماء الله تعالى، “هو الذي لا تحمله العجلةُ على المسارعة إلى الفعلِ قبل أوانه، بل ينزلُ الأمور بقدر معلوم، ويُجْريها على سنن محدود، لا يؤخِّرها على آجالها المقدورة لها تأخيرَ متكاسلٍ، ولا يقدِّمها على أوقاتها تقديمَ مستعجل، بل يودِع كلَّ شيء في أوانه على الوجه الذي يجب أن يكون، وكما ينبغي، وكل ذلك مِن غير مقاساة داعٍ على مضادة الإرادة، وأما صبرُ العبد فلا يخلو عن مقاساة؛ لأن معنى صبره هو ثباتُ داعي الدِّين أو العقل في مقابلة داعي الشهوة أو الغضب، فإذا تجاذَبه داعيانِ متضادَّان، فدفع الداعيَ إلى الإقدام والمبادرة، ومال إلى باعثِ التأخير – سُمِّيَ صبورًا؛ إذ جعَل باعث العجلة مقهورًا، وباعث العجَلة في حق الله سبحانه معدومٌ؛ فهو أبعدُ عن العجلة ممَّن باعثُه موجود ولكنه مقهور؛ فهو أحقُّ بهذا الاسم بعد أن أخرجت عن الاعتبار تناقض البواعث ومصابرتها … “[7].
ويقول ابن القيم في المعنى اللغوي للصبر: أصلُ هذه الكلمة هو المنعُ والحبس؛ فالصبر حبسُ النفس عن الجزعِ، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن لطمِ الخدود، وشَقِّ الثياب ونحوهما، ويقال: صبَر يصبر صبرًا، وصبَر نفسه؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28]، ويقال: صبَرت فلانًا إذا حبَسْته، وصبَّرته بالتشديد إذا حملته على الصبر، والصُّبر – بضم الصاد – للأرضِ ذات الحصب؛ لشِدَّتها وصلابتها، ومنه سُمِّيت الحرة: أم صبَّار، ومنه قولهم: وقَع القومُ في أمر صبُّور – بتشديد الباء – أي: أمرٍ شديد، ومنه صبَارَّة الشتاء – بتخفيف الباء وتشديد الراء – لشدة بردِه، وقيل: مأخوذٌ مِن الجمع والضم؛فالصابر يجمَع نفسَه ويضمها عن الهلع والجزع، ومنه صُبْرة الطعام، وصبارة الحجارة.
وأما صبَرت أصبُرُ – بالضم في المستقبل – فهو بمعنى الكفالة، والصبير الكفيل، كأنه حبَس نفسه للغرم، ومنه قولهم: أصبَرني؛ أي: جعلني كفيلًا، وقيل: أصلُ الكلمة مِن الشدة والقوة، ومنه: الصبر للدواء المعروف؛ لشدة مرارتِه وكراهته.
والتحقيقُ أن في الصبر المعانيَ الثلاثة؛ المنعَ، والشدة، والضم، ويقال: صبر إذا أتى بالصبر، وتصبَّر إذا تكلَّفه واستدعاه، واصطبر إذا اكتسبه وتعمَّله، وصابَر إذا وقف خَصمه في مقام الصبر، وصبَّر نفسَه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر، واسم الفاعل صابر، وصبار، وصبور، ومصابر، ومصطبر؛ فمصابر من صابر، ومصطبر من اصطبر، وصابر من صبر، وأما صبَّار وصَبُور فمن أوزان المبالغة مِن الثلاثي؛ كضرَّاب وضَرُوب، والله أعلم [8].
قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأسِ مِن الجسد…ألا لا إيمانَ لمن لا صبرَ له”؛ فالصبر على أداء الواجبات واجبٌ؛ ولهذا قرَنه بالصلاة في أكثرَ مِن خمسين موضعًا، ومِلاكُ ذلك حُسن النية للرعيَّة، وإخلاص الدِّين كلِّه لله عز وجل، والتوكل عليه؛ فإن الإخلاصَ والتوكل جماعُ صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فهاتانِ الكلمتان قد قيل: إنهما تجمعانِ معانيَ الكتب المنزلة مِن السماء.
ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذات مرة: {يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين}، فجعلت الرؤوس تندُرُ عن كواهلها.
وأصلُ ذلك المحافظةُ على الصلوات بالقلب والبدن، والإحسان إلى الناس بالنفع والمال الذي هو الزكاةُ، والصبر على أذى الخَلْق وغيره من النوائب، فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلُحُ حالُ الراعي والرعية، وإذا عرَف الإنسانُ ما يدخُلُ في هذه الأسماءِ الجامعة عرَف ما يدخُلُ في الصلاة مِن ذِكر الله تعالى ودعائِه، وتلاوةِ كتابه، وإخلاص الدِّين له، والتوكل عليه، وفي الزكاة مِن الإحسان إلى الخَلْق بالمال والنفع مِن نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج، وفي الصحيحِ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل معروفٍ صدقة»، فيدخل فيه كلُّ إحسان، ولو ببَسْط الوجه، والكلمة الطيبة، وفي الصحيح عن عديِّ بن حاتم، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم مِن أحدٍ إلا سيكلِّمه ربُّه، ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا شيئًا قدَّمه، وينظر أشأَمَ منه فلا يرى إلا شيئًا قدَّمه، وينظر أمامه فيستقبِل النار؛ فمَنِ استطاع منكم أن يتَّقيَ النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فليفعَلْ، فإن لم يجِدْ فبكلمةٍ طيبة، [وفي السنن: لا تحقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقى أخاكَ بوجهٍ طَلْق»[9].
وأما حقيقةُ الصبر فهو “خُلُق فاضلٌ مِن أخلاق النفس، يمتنع به مِن فعل ما لا يحسُنُ ولا يجمُلُ، وهو قوَّة مِن قوى النفس، التي بها صلاحُ شأنها، وقوام أمرها”.
وقال موسى صلواتُ الله وسلامه عليه: “اللهم لكَ الحمدُ، وإليك المشتكى، وأنتَ المستعانُ، وبك المستغاثُ، وعليك التُّكلانُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بك”.
وقيل: الصبرُ المقام على البلاء بحُسْن الصحبة كالمقام مع العافية، ومعنى هذا أن للهِ على العبد عبوديةً في عافيته، وفي بلائه؛ فعليه أن يُحسِن صحبةَ العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الصبرُ مطيَّةٌ لا تكبو”، وقال عمرو بن عثمان المكيُّ: “الصبرُ هو الثبات مع الله، وتلقِّي بلائِه بالرحبِ والدَّعَة”، ومعنى هذا أنه يتلقَّى البلاء بصدرٍ واسع، لا يتعلَّقُ بالضيق والسَّخَط والشكوى، وقال الخواص: “الصبرُ: الثباتُ على أحكامِ الكتاب والسنَّة”، وقال رويم: “الصبرُ: تركُ الشَّكوى”، فسَّره بلازمِه، وقال غيره: “الصبرُ هو الاستعانةُ بالله”[10].
إن الشخصَ البالغ العاقل المسلم لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال، ما دام في دار التكليف، والأقلام جارية عليه، فإنه بين أمرٍ يجبُ عليه امتثالُه، والصبر لا بد منه قولًا وفعلًا، وبين نهيٍ يجب عليه اجتنابُه وتركُه، وبين نعمة يجب عليه شكرُ المنعِم عليها، والصبر عليه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبرُ فيهما، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازمٌ له إلى الممات، فإن قيل: النِّعم يجب الصبر عليه؟ قيل: نعم؛ لأنها مِن الابتلاء؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15]، وفي الآية الأخرى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر: 16، 17]؛ أي: ليس الأمر كذلك، وإنما اللهُ تعالى يبتلي عباده بالغنى والفقر، فينظر مَن هو الشاكر الصابر على ما ابتلاه به، كما يبتلي عبادَه بالمصائب والأسقام؛ تطهيرًا لهم مِن الذُّنوب والآثامِ[11].
ويحتاجُ العبد إلى الصبرِ في ثلاثة أحوال:
أولاها: قبل الشروع في العبادات، بتصحيح النيةِ والإخلاص، وعقد العزم على توفية المأمور به، وتجنُّب دواعي الرياء والسُّمعة.
والحالة الثانية: الصبر حالَ العمل، فيلازم الصبرَ عند دواعي التقصير فيه والتفريط، ويلازم على استصحاب ذِكر النية وحضور القلب بين يدَيِ المعبود، وهو محتاجٌ إلى الصبر، توفيةَ أركانها وشروطها، وواجباتها وسُننها.
والحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل، فيحذر مِن الإتيان بما يُبطِله؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]؛ فالصبرُ على محافظتِها بعد الفراغ أنفعُ ما للعبد، هذا معنى ما ذكره ابن تيمية [12].
وفي الصبرِ: احتمال الأذى، وكَظْم الغيظ، والعفو عن الناس، ومخالفة الهوى؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 9 – 11].
وليس مِن حُسن النية للرعيةِ والإحسان إليهم أن يفعَل ما يهوَوْنَه ويترُكَ ما يكرهونه؛ قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وقال لأصحاب نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، وقال الحسَن البَصري: “إذا كان يومُ القيامة، نادى منادٍ مِن بطنان العرش: ألا لِيَقُمْ مَن أجره على الله، فلا يقومُ إلا مَن عفا وأصلح”[13].
قال عليُّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: “الصبرُ ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية؛ فمَن صبَر على المصيبة حتى يردَّها بحُسن عزائها، كُتِب له ثلاثمائة درجة، ومَن صبر على الطاعة، كُتب له ستمائة درجة، ومَن صبر عن المعصية، كُتب له تسعمائة درجة”.
قال الإمام أحمدُ: حدثنا وكيع، عن مالك بن مِغول، عن أبي السفر، قال: “مرض أبو بكرٍ فعادُوه، فقالوا: ألا ندعو لك الطبيبَ؟ فقال: قد رآني الطبيبُ، قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعَّالٌ لِمَا أريد”.
وقال عمرُ بن عبدالعزيز: “ما أنعَم اللهُ على عبدٍ نعمةً، فانتزَعها منه، فعاضَه مكانَها الصبر، إلا كان ما عوَّضه خيرًا مما انتزَعه منه”.
وقال الحسنُ: “الصبر كنزٌ مِن كنوز الخير، لا يعطيه اللهُ إلا لعبدٍ كريم عنده”.
وعن سعيد بن جُبَير، قال: “الصبر اعترافُ العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله”.
وقال الجنيد، وقد سُئل عن الصبر، فقال: “هو تجرُّع المرارة من غيرِ تعبُّس”.
وقال الفضيلُ بن عِياض: في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، ثم قال: “صبَروا على ما أُمِروا به، وصبَروا عمَّا نُهوا عنه”.
وقال ميمونُ بن مِهران: “الصبرُ صبران: فالصبرُ على المصيبة حَسَنٌ، وأفضلُ منه الصبرُ عن المعصيةِ” [14].
[1] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: “موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر”، المحقق / المترجم: حمدي بن عبدالمجيد السلفي مكتبة الرشد – الرياض الطبعة: الثالثة، 1419هـ ، 1 / 328، والحديث أيضًا عند: أحمد بن الحسين البيهقي: “الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد”، المحقق أحمد إبراهيم أبو العينين، الناشر: دار الفضيلة، الطبعة: الأولى، 1420هـ، ص 147، عبدالحق الإشبيلي: “الأحكام الشرعية الكبرى”، المحقق: حسين بن عكاشة، مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة: الأولى، 1422هـ، 3/333، وعبدالرحمن بن رجب الحنبلي: “جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا”، المحقق شعيب الأرناؤوط وآخر، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ، 1/ 459، ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: “سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام”، المحقق خليل مأمون شيحا، دار المعرفة – بيروت، الطبعة السابعة، 1426هـ، 4 / 267. [2] محمد بن إسماعيل البخاري: “الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه”، المحقق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية – القاهرة، الطبعة الأولى ، 1400هـ، حديث ( 6470). [3] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية، الحرَّاني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ): “قاعدة في الصبر”، المحقق: محمد بن خليفة بن علي التميمي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد 116 – السنة 34، 1422هـ/2002م، ص 90 – 91. [4] نفسه، ص 91 – 94. [5] ينظر: محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711هـ): “لسان العرب”، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ، 4 / 437 – 439. [6] ابن منظور: “لسان العرب” ، 4 / 439 – 440. [7] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): “المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى“، تحقيق عبدالوهاب الجابي، الجفان والجابي – قبرص، الطبعة: الأولى، 1407 – 1987 م، ص 149. [8] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، شمس الدين، ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): “عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين” دار ابن كثير، دمشق، بيروت/مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة، 1409هـ/ 1989 م، ص 15 – 16. [9] تقي الدين أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن محمد، ابن تيمية، الحرَّاني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ): “جامع الرسائل”، المحقق: د. محمد رشاد سالم، دار العطاء – الرياض، الطبعة: الأولى، 1422هـ – 2001م، 1 / 81 – 83. [10] ابن قيم الجوزية: “عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين”، ص 18. [11] محمد بن محمد بن محمد، شمس الدين المنبجي (المتوفى: 785هـ): “تسلية أهل المصائب”، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1426 هـ – 2005 م، ص 143. [12] المنبجي: “تسلية أهل المصائب”، ص 144. [13] ابن تيمية: “جامع الرسائل”، 1 / 84. [14] المنبجي “تسلية أهل المصائب”، ص 142.
_________________________________________________________
الكاتب: د. رواء محمود حسين
Source link