حفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات القرآنية التي تحث على الرحلة كأسلوب من أساليب التربية والتعليم، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
حفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات القرآنية التي تحث على الرحلة كأسلوب من أساليب التربية والتعليم، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، فالآية القرآنية دعوة إلى استخدام الرحلة وسيلة للحصول على العلم، والتفقه في أحكام الدين والشرع على وجه الندب دون الوجوب والإلزام، وقد أيَّد هذا القولَ طائفةٌ من العلماء حيث ذكروا: “… أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والتفقُّه في الدين جعله الله متصلًا بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين؛ الأول: سفر الجهاد، والثاني: سفر لطلب العلم؛ إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحَضَر من غير سَفَر، والفقه هو العلمُ بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العالم بها من لغة ونحو، وصرف، وبيان وأصول”[1].
كما يمكن أن تعد الآيات التي وردت بالأمر بالسير في الأرض مما يدخل في استخدام الرحلة كطريقة من طرق التربية والتعليم، فقد أمر الله عز وجل عباده بالسير في الأرض، وهو أمر يقتضي الارتحال من مكان إلى آخر، أما الهدف من هذا السير هو: النظر، والتأمل، والتدبر، والاتعاظ، والاعتبار بمصائر الماضين، وهذا مما يساعد على تنمية العقل والروح والخلق، ويساعد على صقل الشخصية، وزيادة خبراتها, قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20].
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9].
وإذا كانت آيات السير في الأرض، والأمر بالخروج لطلب العلم يُستفاد منها أهمية الرحلة كأسلوب من أساليب التربية والتعليم في القرآن الكريم، فقد حفل القرآن الكريم بالعديد من النماذج الرائعة لهذه الطريقة؛ مثال ذلك رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح الخَضِر، والمذكورة في سورة الكهف آية (60 – 82) التي كان من أهم أهدافها التربوية “خدمة معنى التواضع، وترك التكبر، وادِّعاء العلم المطلق؛ لأن موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذْ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، فكانت قصة لقائه بالخَضِر عليه السلام، وابتداء رحلته العلمية المباركة الحافلة بمعاني الأدب الجم، وعلى رأسها التواضع، وخفض الجناح للمعلم”[2].
كما تمثل قصة إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم مثالًا عمليًّا على الرحلات التعليمية أيضًا المذكورة في القرآن الكريم، وقد وردت قصة الإسراء في القرآن الكريم في موضعين: الأولى: قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، والثانية، قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 11 – 18].
كان الهدف التربوي من هذه الرحلة، هو ما قاله الله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}؛ أي: إنه تعالى أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والعروج به إلى سدرة المنتهى ليريه بعينيه آياته الكبرى، ومخلوقاته العظمى في السماوات والملائكة، والجنة والنار، وسدرة المنتهى، وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب؛ ليكون “ما علمه عن طريق الوحي قد علمه بالرؤيا والمشاهدة”[3].
أما رحلة موسى عليه السلام إلى طور سيناء لملاقاة ربه، والتلقي عنه، فكانت بترتيب من الله عز وجل حتى يتهيأ نفسيًّا لتلقي علم الرسالة من الله عز وجل -ألواح التوراة- التي هي دستور الشريعة لتربية بني إسرائيل، فقد كانت متضمنة “المواعظ وتفاصيل الأحكام المبينة للحلال والحرام، وأصول العقيدة والآداب[4]، وقد ذكرت تفاصيل هذه الرحلة في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] إلى قوله تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 144، 145].
أما هدهد سليمان عليه السلام؛ فقد حمل رسالة التوحيد في رحلته التعليمية الاستكشافية إلى مملكة سبأ باليمن، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 20، 21] إلى قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
تفقد سليمان عليه السلام الطير ومنها الهدهد، بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والعناية بكل جزء منها، فقال متعجبًا: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}! فهو لم يأذن له بالغياب، بل هو غائب دون علم منه، وحينما تثبت له غياب الهدهد هدده بالذبح أو التعذيب، إلا أن يأتيه بسلطان واضح مبين، يدل على قبول عذره وهذا “من كمال ورعه وإنصافه، أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل؛ لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح؛ فلذلك استثناه لورعه وفطنته”[5]، فغاب الهدهد غير بعيد، ثم جاء، فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال له: عندي من العلم، علم ما أحطت به، وليس في علمك الواسع، جئتك من بلاد سبأ بخبر صادق يقين موثوق مضمونه أن مملكة سبأ تحكمهم امرأة أوتيت من كل ما يؤتاه الملوك من الأموال والعتاد، والسلاح والجنود، ولها عرش عظيم، وهي وقومها يعبدون الشمس، ويسجدون لها من دون الله؛ عند ذلك لم يتسرَّع سليمان عليه السلام في تصديقه أو تكذيبه، وهذا من كمال عقله ورزانته، وفي المقابل لا يستخفُّه النبأ العظيم الذي جاء به؛ إنما يأخذ في تجربته؛ للتأكد من صحته شأن النبي العادل، والملك الحازم {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 27، 28]. وقد كان الكتاب يتضمن الدعوة إلى الإيمان بالله وحده.
هذه الرحلة التعليمية الاستكشافية تضمنت العديد من المبادئ التربوية؛ منها:
1- على المعلم ألَّا يُوقِع العقوبة على المتعلِّم إذا أخطأ إلا بقدر الذنب، ويستنبط هذا المبدأ من قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21].
2- “الصغير يقول للكبير، والمتعلم للعالم: عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه”[6]، وهذا مستنبط من قوله تعالى: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، كما يستنبط من هذه الآية عدم جواز كتمان العلم، فقد أعلم الهدهد سليمان عليه السلام ما لم يكن يعلمه من أمر مملكة سبأ.
3- على المعلم تشجيع المتعلم على القيام بالرحلات التعليمية الاستكشافية باستخدام الآلات والاختراعات الحديثة من طيران وغيرها؛ لدراسة مظاهر الكون المختلفة، وللتعلُّم من الأُمَم الأخرى.
4- على المعلم أن يقبل عذر المتعلِّم، ويدرأ العقوبة عنه في ظاهر أحواله بباطن أعذاره؛ لأن سليمان عليه السلام لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه.
5- حمل هَمِّ الدعوة الإسلامية، والسعي لنشرها عند السفر لطلب العلم، مع الأمانة في النقل، وسمو الهِمَّة وعلوِّها في طلب العلم، ونشر الدعوة.
ولم تقتصر الرحلة في طلب العلم، والتفقُّه في الدين على الإنس والطير؛ وإنما شملت أيضًا الجن، فقد أرسل الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين، وقد قام عليه الصلاة والسلام بتبليغ الدعوة للإنس أتم البلاغ وأكمله، وكان لا بُدَّ من تبليغ الجن، وتعليمهم أمر هذا الدين، فصرف الله إليه نفرًا من جن نصيبين أو من نينوَى بالموصل بعد رجوعه من الطائف لدعوتهم إلى الإسلام، وذلك في بطن نخلة، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم} [الأحقاف: 29، 30].
وفي قولهم: {أَنْصِتُوا} تأدب العالم مع المتعلم، وتعليم كيف يكون الإصغاء التام عند التعلُّم، وقد أكَّدت سورة الجن على هذا، باستماعهم القرآن والإيمان به: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]، ولم يتوقف دور هذا النفر من الجن عند التعلُّم؛ بل مضوا في تبليغ القرآن ورسالته إلى قومهم انطلاقًا من الإحساس بواجب التبليغ، فقالوا لهم: إننا سمعنا كتابًا أنزله الله عز وجل من بعد موسى مصدقًا لما قبله من الكتب، يهدي ويرشد إلى طريق الحق في العقيدة وأحكام الشرع، ومن ثم قدموا لهم النصح بأن يجيبوا داعي الله، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والرُّسُل.
وهكذا كل طالب علم يجب عليه البلاغ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لحديث: «بلَّغُوا عنِّي ولو آيةً»[7].
[1] الشوكاني، فتح القدير، ص 715. [2] حسين أبو لبابة، التربية في السنة النبوية، دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، ط3، 1403هـ، ص 50. [3] أبو بكر الجزائري، أيسر التفاسير، مرجع سابق، م3، ص173. [4] وهبة الزحيلي، التفسير الوسيط، ج1، ص721. [5] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م7، ج13، ص119. [6] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م7، ج13، ص123. [7] البخاري، صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3461)، ص 666.
_____________________________________________________
الكاتب: د. حياة عبدالعزيز محمد نياز
Source link