الخطاب لليهود؛ وهنا خاطبهم باعتبار الجنس لا باعتبار الشخص؛ إذ إن موسى لم يأت هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكنه أتى بني إسرائيل الذين هؤلاء منهم.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93) }
{{وَلَقَدْ جَاءكُم}} الخطاب لليهود؛ وهنا خاطبهم باعتبار الجنس لا باعتبار الشخص؛ إذ إن موسى لم يأت هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكنه أتى بني إسرائيل الذين هؤلاء منهم.
{{مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ}} بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقه، ولم يبين هنا ما هذه البينات، وبينها في مواضع أخر كقوله: {{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}} [الأعراف:133] وقوله: {{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}} [الشعراء:33-32] وقوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل: التسع، وهي: العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر.
وإنما كررت هنا لدعواهم آنفا أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم {{قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} } وهم كاذبون في ذلك.
قال ابن عاشور: وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة، فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات.
وقال البيضاوي: إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه وهو احتجاج خطابي.
{{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}} إلهاً عبدتموه في غيبة موسى عليه السلام، وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم {مِن بَعْدِهِ} من بعد ذهابه إلى الطور.
{{وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ}} أي معتدون؛ وأصل الظلم النقص، كما في قوله تعالى: {{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً}} [الكهف:33]؛ وسمي العدوان ظلماً؛ لأنه نقص في حق المعتدى عليهم.
ولم يقل سبحانه وتعالى: وأنتم كافرون؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أُعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم، فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى: {{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}} [البقرة:57].
واتخاذ العجل ليس في التوراة، بل فيها أن يفرد الله بالعبادة، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرر عبادة العجل تنبيهاً على عظيم جرمهم. ولما ذكر ذلك قبل، أعقبه تعداد النعم بقوله: {{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52] وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}} [البقرة:64] وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ.
والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه، كررته. وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
{{وَإِذْ}} أي اذكروا إذ {{أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}} العهد؛ وسمي العهد ميثاقاً؛ لأنه يتوثق به {{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}} وهو الجبل المعروف بسيناء؛ رفعه الله عزّ وجلّ على رؤوسهم تهديداً لهم؛ فجعلوا يشاهدونه فوقهم كأنه ظلة؛ فسجدوا خوفاً من الله عزّ وجلّ، وجعلوا ينظرون إلى الجبل وهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى بكشف كربتهم؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم عن اليهود أنهم يرون أن أفضل سجدة يسجدون لله بها أن يسجدوا وقد أداروا وجوههم إلى السماء؛ يقولون: هذه السجدة أنجانا الله بها؛ فهي أشرف سجدة عندنا.
{{خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم}} أي ما أعطيناكم؛ والمراد به التوراة {{بِقُوَّةٍ}} بعزم {{وَاسْمَعُواْ}} سماع قبول واستجابة على قول جمهور المفسرين.
قال بعض العلماء هو من السمع بمعنى «الإجابة والامتثال» ومنه قولهم: “سمعا وطاعة” أي: إجابة وطاعة، ومنه: “سمع الله لمن حمده” في الصلاة. أي: أجاب دعاء من حمده، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}} [النور:51].
قال ابن عاشور: “الظاهر أن قوله: {{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}} لا يشتمل الامتثال فيكون قوله {{واسمعوا}} دالا على معنى جديد وليس تأكيدا، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال، وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي.
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله: «اسمع يا إسرائيل» فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه، وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد”.
وقيل فيها وجه آخر: أن المراد بقوله {{وَاسْمَعُوا}} بآذنكم سمع إدراك لا سمع استجابة، أي: ولا تمتنعوا من أصل الاستماع. ويدل لهذا الوجه: أن بعض الكفار ربما امتنع من أصل الاستماع خوف أن يسمع كلام الأنبياء، كما في قوله تعالى عن نوح مع قومه: {{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}} [نوح:7]. وقوله عن قوم نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} } [فصلت:26] وقوله: {{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}} [الحج:72]، وقوله بعدها: {{قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}} لأن السمع الذي لا ينافي العصيان هو السمع بالآذان دون السمع بمعنى الإجابة.
{{قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}} سمعنا بآذاننا وعصينا بلسان الحال والفعال.. قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا {{وَعَصَيْنَا}} بألسنتهم ولكن لما سمعوه تلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعا، فمن المستبعد قولهم عصينا مع قوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق.
{ {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ}} ذكر مكان الإشراب، كقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}} [النساء:10]
والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، قالوا: وأشرب البياض حمرة، أي خلطتها بالحمرة، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته، كما داخل الصبغ الثوب.
وقيل: الإشراب هو جعل الشيء شاربا، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه، ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره، ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل.
وقيل: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض، نسب ذلك إلى المحبة، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
{{الْعِجْلَ}} أي حب عبادة العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه.
قال ابن عثيمين: “عبر بالعجل عن حبه؛ لأنه أبلغ؛ فكأن نفس العجل دخل في قلوبهم؛ والذي أشرب هذا في قلوبهم هو الله سبحانه وتعالى؛ ولكن من بلاغة القرآن أن ما يكرهه الله يعبر عنه غالباً بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: (والشر ليس إليك) [مسلم]، وقال الله تعالى عن الجن: {{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}} [الجن:10]؛ ففي الشر قالوا: {أريد}، ولم ينسبوه إلى الله؛ أما الرشد فنسبوه إلى الله عزّ وجلّ”.
وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم، وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوى ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى:
{بِكُفْرِهِمْ} فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده. وذلك لأنهم كانوا مجسمة، أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري.
والظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى «مع» للمصاحبة، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوباً بكفرهم، فيكون ذلك كفراً على كفر.
{{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}} أي بئس إيمان يأمركم بعبادة العجل. أضاف الإيمان إليهم لكونه إيماناً غير صحيح، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم: {{نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا}} .
{{إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}} بزعمكم. أضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم، كما قال أصحاب شعيب: {{أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}} [هود:87]
والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة، وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمى بهم في مهواة الاستسلام للحجة، فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: {{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}} [الزخرف:81]
ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور، فلا جرم أن يكون مرتكبوا هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم {مؤمنين} وهو المقصود.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link