الصراع بين القيم الفاضلة، والمصالح الزائلة صراع طويل وقديم قِدم الصراع بين الحق والباطل، والتحديات التي يفرضها هذا الكفاح المرير كثيرة ومختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص…
الصراع بين القيم الفاضلة، والمصالح الزائلة صراع طويل وقديم قِدم الصراع بين الحق والباطل، والتحديات التي يفرضها هذا الكفاح المرير كثيرة ومختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
ذكر جماعة من المفسرين أن هذه الآيات أُنزلت كلها في قِصَّة واحدة، وذلك أن رجلًا من الأنصار يقال له “طُعمة بن أُبيرق” أحد بني ظُفر بن الحارث من الأنصار سرق درعًا من جار له يقال له “قتادة بن النعمان”، وكان الدرع في جرابٍ فيه دقيق، فحمل الجراب وبه الدرع واتجه إلى بيته، وجعل الدقيق يتناثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، وفي الطريق أثرُ الدقيق، ثم خبَّأها عند رجل من اليهود يقال له “زيد بن السمين”، فالتُمس الدرع عند طُعمة فلم توجد عنده، وحلف لهم أنه ما أخذه -أي: الدرع- وما له به من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى والله قد أدلج علينا فأخذه وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوا -الدرع- فقال دفعها إليَّ “طُعمة بن أبيرق” وشهد له أناس من اليهود على ذلك فقالت بنو ظفر -قوم طُعمة-: انطلقوا بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلِّموه في ذلك، وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل -وكان هواه معهم- وأن يعاقب اليهودي، فأنزل الله هذه الآيات.
لقد كادت معالم الحق أن تخفى، وأوشك البريء أن يُتهم والمتهم أن يُبَرَّأ لكن الذي يعلم السرَّ وأخفى جلَّى الحقيقة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في سياق تكاد السماوات يتفطَّرْن منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدًّا.
وهكذا يحتدم الصراع بين القيم الفاضلة من الصدق والأمانة والقيام بالقسط على الأنفس والأقربين وبين مصالح زائلة: عصبية، نوال دنيوي حقير، درع، وماذا يساوي الدرع وما فوق الدرع أمام المبادئ الحقَّة والثوابت السامية؟!
وتتكرر الوقائع بتكرر الزمان وتعداد المكان بلونٍ مختلف وأسماء مختلفة والحقائق واحدة، فأرباب الهمم الصغيرة، والنفوس الأسيرة يضحُّون بقيمهم مهما كان الثمن؛ بل ويبذلون أعراضهم في سبيل دنياهم.
أفيُخاصم عن هؤلاء؟!
إن نصرة الظالمين ليس بتبرئة ساحتهم، ولا بتبرير افتياتهم، إنما تكون وفق المنهج الشرعي وذلك بالأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطرًا؛ إذ تقرر في قواعد الشريعة أن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
ولا عجب أن ترى مساحة المخاصمة عن المبطلين تتسع في زمن العولمة لتجد من يكتب أو يتكلم أو يجادل أو حتى يفتي ليقول لغاصب الأرض وهاتك العرض: أنت مُحرر لا مُدمِّر، ومُبشرٌ لا مُنصِّر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصدق الله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5].
إن مَعْقد الابتلاء في حقيقة الاستقامة يكمن في أن أهواء العِباد غالبًا ما تتعارض مع مبادئهم وقيمهم الحقَّة، فلا مَحيص من خسران بعض مصالحنا لتسلم لنا ثوابتنا الإسلامية؛ لأن التنازل عن المبادئ أو قبول المساومة عليها يعني ضياع المصالح العاجلة والآجلة التي جاءت الشريعة بها، فنخسر من حيث أردنا الربح، ونُفسد من حيث أردنا الإصلاح {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
Source link