خصائص رسولنا عليه الصلاة والسلام وكمالاته

هذه بعض خصائص نبينا الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، فلنعرف بها عِظَمَ قدرِه، وعلوَّ منزلته، وليكن ذلك داعيًا لنا إلى زيادة محبته وتعظيمه – في حدود شرعه – والسير على منواله قولًا وعملًا، وظاهرًا وباطنًا.

إن نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خيرُ البشر وأسماهم، وأفضلُهم في جميع جوانب الفضل وأعلاهم، حوى من كل خير أفضلَه، ونال من كل عطاء يشرُف به صاحبه أجزلَه، تتلألأ المحاسن في نواحيه، وتتباهى الكمالات البشرية فيه، وتنطِق معالمُ الحمد في أفعاله، وتتدفق معاني البلاغة والهدى في أقواله، ويتسامى المجدُ بين بُرْدَيه، وتتسابق المكارم أرسالًا إليه.

ملأ الوجود محاسنًا وسنـــــــاء  **  وفضائلًا ومناقبًا شمَّــــــــاء

وأتى إلى الأيام رحمة راحـــــمٍ  **  كشفت بنور ضيائها الظَّلْماء

حسُنت به الدنيا وزان سماءهـا  **  أنداؤه وكسا القلـــوب رواء

من غارِهِ انبعثت أشعةُ شمســه  **  فتوهَّج الكونُ البهيم ضيـاء

 

أيها المسلمون، إن الله تعالى اختص نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام بخصائص ومزايا، سما بها على غيره من البشر، فكان بها رفيعَ الشأن في الدنيا والآخرة.

 

هذه الخصائص منها خصائص تميَّز بها عن إخوانه الأنبياء، وأخرى تميَّز بها عن أُمَّتِهِ الغرَّاء.

 

فمن تتبَّع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، رأى أن الله اختص رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عن سائر النبيين بخصائصَ في الدنيا والآخرة، تُنْبِي عن فضله عليهم، وتقدُّم مرتبته على مراتبهم، عليهم جميعًا الصلاة والسلام.

 

فمن تلك الخصائص في الدنيا: أن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء من آدمَ إلى عيسى، أنه إذا بُعِثَ محمد عليه الصلاة والسلام وهم أحياء أن يؤمنوا به وينصروه، ويأمروا بذلك أتباعهم؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

 

فما أعظم هذا الشرف، وأسمى هذه المنزلة لخير البشر عليه الصلاة والسلام!

ومن تلك الخصائص الدنيوية: أن رسالته رسالة عامة لجميع الإنس والجن، وليست خاصَّةً بقومٍ دون آخرين، كما كان حال سائر الأنبياء والمرسلين.

 

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].

 

وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعَث إلى قومه خاصةً، وبُعثت إلى كل أحمرَ وأسودَ، وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تُحَلَّ لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض طيبةً طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيتُ الشفاعة»[2].

 

ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء والرسل في الدنيا: أن الله تعالى ختم به الرسل والرسالات، وأكمل به الدين، وأتمَّ به النعمة على العالمين.

 

قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

 

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن مَثَلي ومَثَلَ الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ بنى بيتًا فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلا موضعَ لَبِنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وُضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[3].

 

ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء والرسل في الدنيا: أن الله تعالى يناديه في القرآن بوصف النبوة والرسالة، ولم ينادِه باسمه المجرد؛ تشريفًا له وتكريمًا.

 

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45].

وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].

 

وأما بقية الأنبياء والرسل، فيناديهم الله تعالى بأسمائهم مجردة عن وصف النبوة والرسالة؛ كما قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19].

 

وقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].

وقال: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 104].

 

وقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].

 

قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: “ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضلَ ما وجد فيهم من الأوصاف العلِيَّة، والأخلاق السَّنِيَّة، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام، لا يشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخُلُقٍ من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعزُّ عليه، وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العَلَم، وهذا معلوم بالعُرف أن من دُعِيَ بأفضل أوصافه وأخلاقه، كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه”[4].

 

ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء والرسل في الدنيا: أن الله تعالى شرَّفه وكرَّمه بأن أعْلَمَنا أنه قد غَفَرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخبره بهذه المغفرة وهو ما زال حيًّا صحيحًا يمشي على وجه الأرض، فيا له من عطاء كريم، وتشريف عظيم!

 

قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1، 2].

 

قال العز بن عبدالسلام: “من خصائصه: أنه أخبره الله بالمغفرة، ولم يُنقَل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم؛ بدليل قولهم في الموقف: نفسي نفسي [5].

 

ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء والرسل في الدنيا: أن الله جعل معجزته الكبرى القرآنَ الكريم كتابًا خالدًا محفوظًا إلى يوم الدين، فأي معجزة نبيٍّ بلغت هذا السموَّ الباذخ؟ وأي كتاب رسولٍ وصل إلى هذا المنزل الشامخ؟

 

قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

 

ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء والرسل في الدنيا أيضًا: أن الله تعالى شرَّفه برحلة الإسراء والمعراج، وإمامة الأنبياء فيها.

 

قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

 

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 – 18].

محمد ذاك النبي الهادي  **  ذو المنزل الأعلى على العبـــــادِ

صلَّى عليه ربنا وسلَّمــا  **  ما طارت الأطيارُ في أفقِ السَّما

 

أيها المؤمنون، وكما خصَّ الله تعالى رسولنا محمدًا عليه الصلاة والسلام على بقية الأنبياء في الدنيا بخصائصَ، فقد خصَّه أيضًا في الآخرة من بينهم بخصائص أخرى؛ منها:

إعطاؤه الوسيلةَ والفضيلةَ، وهي درجة عالية في الجنة لا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى على صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة»[6].

 

ومن خصائص نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الآخرة على بقية الأنبياء: المقام المحمود؛ وهو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس بقيام الحساب؛ ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم[7].

 

قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

 

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، سمعته يقول في قوله عز وجل: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: «يُجمَع الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاةً عُراةً كما خُلقوا، سُكوتًا لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال: فينادَى محمد، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهديُّ مَن هديت، وعبدُك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت، فذلك المقام المحمود الذي قال الله» : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]))[8].

نبينا ذو المنزل الْمُنِيـــــــف  **  يوم الحساب قام بالتخفيـــف

عن العباد من عناء المحشر  **  شفاعةً عمَّت جميعَ البشــــــر

صلى عليه الله بارئ الـورى  **  ما حجَّ بيت الله في أمِّ القرى

 

أيها الأحباب الكرام، هناك خصائص وفضائل انفرد بها نبينا عليه الصلاة والسلام عن أُمَّتِه:

فهو عليه الصلاة والسلام معصوم في أقواله وأفعاله فيما يتعلق بأداء رسالته؛ قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2 – 4].

 

وهو صلى الله عليه وآله وسلم عالي الجانب، محفوظ الشأن، فمن سبَّه أو شتمه أو استهزأ به جِدًّا أو هزلًا، فإنه يكفر بذلك الفعل المهين؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].

 

وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].

 

وقد أجمع أهل العلم على أن من سبَّ رسول الله، أو استهزأ به، عامدًا قاصدًا عالمًا بحرمة ذلك وهو مُكلَّف، فإنه يكفر بذلك، وذكر كثير من العلماء أن على وليِّ أمر المسلمين أن يقتله؛ دفاعًا عن رسوله، وعقوبة للمعتدي، وردعًا لغيره.

 

ومن الخصائص كذلك له صلى الله عليه وآله وسلم بين أُمَّتِهِ: أن الكذب عليه ليس كالكذب على سواه من الناس، بل هو ذنب مضاعف الإثم، وأسوأ عاقبةً من الكذب على سائر الخلق؛ عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار»[9].

 

ومن الخصائص كذلك له صلى الله عليه وآله وسلم بين أُمَّتِهِ: أنه كغيره من الأنبياء مات ولم يُورِّث مالًا، بل ورَّث علمًا ودينًا قويمًا.

 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخَذَ بحظٍّ وافر»[10].

 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نُورَث، ما تركنا صدقة»[11].

 

ومن الخصائص كذلك له صلى الله عليه وآله وسلم بين أُمَّتِهِ: أن زوجاته أمهات المؤمنين، توقيرًا وتعظيمًا، وإجلالًا وتشريفًا، وتحريمًا للزواج بهن بعد رسول الله؛ قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].

 

وقال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]؛ لأن زوجاته في الدنيا هن زوجاته في الآخرة.

 

فهذه – معشر المسلمين – بعض خصائص نبينا الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، فلنعرف بها عِظَمَ قدرِه، وعلوَّ منزلته، وليكن ذلك داعيًا لنا إلى زيادة محبته وتعظيمه – في حدود شرعه – والسير على منواله قولًا وعملًا، وظاهرًا وباطنًا.

 

فيا بشرى من عمل بهذا ومات عليه؛ قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

 

فقد ذكر بعض أهل العلم أن الكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخَلْقِ، وكمال الخُلُقِ، وفضائل الأقوال، وفضائل الأعمال.

 

وهذه الكمالات الأربعة قد اجتمعت في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أحسنَ اجتماع وأوفاه، وأحسنه وأسْمَاه.

 

أما كمال خَلْقِه عليه الصلاة والسلام، فقد كان أحسن الناس وأحلاهم، وأجملهم وأبهاهم، واقرؤوا ما قالت أمَّ معبد الخزاعية رضي الله عنها في وصفه؛ فلقد وصفت وجهه، ومَنْطقَه، وشَعْره، وقامته، وهيبته، فكان مما قالت عنه: إنه “ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، وسيم قسيم… إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلَّم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حُلْو المنطق، فضل، لا نَزْر ولا هَذَر، كأن منطقه خرزاتٌ نُظِمْنَ يتحدَّرْنَ… غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا”.

 

واقرؤوا كذلك وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نعته عليه الصلاة والسلام؛ فقد وصف اعتدال قامته، وحسن جسمه، ووجهه وكفيه وقدميه، وجمال لون بشرته، وأهداب عينيه وكتفيه.

 

وقد عرِق عليه الصلاة والسلام مرةً وهو عند عائشة رضي الله عنها يخصِف نعلًا، وهي تغزِل غزلًا، فجعلت تبرقُ أساريرُ وجهه، فلما رأته بُهِتَتْ وقالت: والله لو رآك أبو كبير الهذلي، لَعَلِمَ أنك أحقُّ بشعره من غيرك:

وإذا نظرت إلى أسِرَّةِ وجهِهِ = بَرَقَتْ كبرقِ العارض الْمُتَهلِّل[12]

 

ومن كمال خلقه صلى الله عليه وسلم: كمال الهيبة التي تبدو عليه، فمن نظر إليه هابه وعظمه، وأجلَّه وفخَّمه، دون أن يكون ذلك منه عن كبرٍ وتعاظم.

 

ومن كمال خُلُقه صلى الله عليه وسلم: طلاقته الموجِبة لمحبته، وعدم الملل من مجالسته، فقد كان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء، وشُرْبِ الماء البارد على الظمأ.

 

عباد الله، أمَّا كمال رسول الله في أخلاقه، فقد أثنى الله تعالى عليه في القرآن بذلك في آيات؛ منها: هذه الآية البليغة الفذة: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

 

وقد كان عليه الصلاة والسلام أجمعَ الناس لمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب؛ فكان أزهد الناس في الدنيا، ولو شاءها لأتاه منها ما يريد.

 

وكان عليه الصلاة والسلام أثْبَتَ الناس قلبًا، وأصبرهم على المكاره نفسًا، رغم شدتها، وامتداد مدتها.

وكان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس تواضعًا، مع علوِّ مكانته، وسموِّ منزلته.

 

وكان عليه الصلاة والسلام أوفاهم عهدًا، وأكرمَهم رِفْدًا، وآمنَهم أمانة، وأعظمهم عقلًا ورزانة، وأكملهم حِلْمًا ووقارًا.

عليه صلاة الله ما لاح بـــــارقٌ   **   وجادت بغيثِ الخير ساجمة السحبِ

فقد كان فيَّاض الفضائل جمَّها   **   تظل عليه الدهرَ وافرةَ السكْــــــــــبِ

 

وأما فضائل أقواله، فأي الناس مثله في فصاحته وبلاغته، وجوامع كلمه، وحسن خطابه، وجميل جوابه؟

وأي الناس مثله في حكمته البالغة، وعلومه النافعة المتكاثرة، وحفظه أخبار الأنبياء وأحوال الأمم، وهو أُمِيٌّ لم يقرأ ولم يكتب؟

 

وأيهم مثله فيما قاله في محاسن الأخلاق، وفضائل الآداب، وما نهى عنه من مساوئها ودناياها؟

 

وأما صدق أقواله، فذاك ما عُرِفَ به قبل بعثته وبعدها، فهو محفوظ اللسان عن كل دَنِيَّة، مصون القول عن كل رَزِيَّة، شهِد له بذلك أعداؤه، قبل أن يشهد له أودَّاؤه.

 

وأما فضائل أعماله، فمن كان أحسن منه سيرة، وأنقى سريرة، وأحسن معاشرة وخلطة؟ لقد مَلَكَ القلوب بمحاسن أفعاله، واستولى على محبة النفوس باستقامة أعماله.

 

كان عليه الصلاة والسلام متوسطًا فيما يعمل ويَدَعُ، لا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط.

 

عامَلَ أهله وأقاربه وأصحابه خيرَ معاملة وأحسنها، وعامل أعداءه بما يستوجبه الحزم والعدل، والعفو في موضع العزِّ، وتألَّف من توسَّم فيه الخير بالمنِّ والفضل.

 

ومدَّ يده بالسخاء من غير إمساك، وأنفق من غير إقتار ولا إهلاك.

 

فما أعظم كماله في خَلْقِه، وأحسن خِلاله في خُلُقه، وأجمل هَدْيِهِ في عمله، وأسَدَّ ما يجيء من قوله!

صلى عليه عدد الأنفــــاس  **  وسلَّم الرحمن باري النــــــــاس

مطهِّر الخَلْقِ من الأدنـــاس  **  منزَّه الفعل من الأرجـــــــــاس

مَن مثله في الاقتدا للنـاس  **  وسيرة نقيَّة من بــــــــــــــاس

صلوا عليه معشر الأخيـــار  **  وسلِّموا في الليل والنهـــــــــار

فنورها يجلي دُجى الأكدار  **  يا سعد من صلى على المختار

 

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

 


[1] ألقيت في مسجد الشوكاني في: 30/ 2/ 1445هـ، 15/ 9/ 2023م.

[2] متفق عليه.

[3] متفق عليه.

[4] بداية السول في تفضيل الرسول (38).

[5] بداية السول في تفضيل الرسول (35).

[6] رواه مسلم.

[7] تفسير الطبري (17/ 526).

[8] رواه النسائي في الكبرى، وابن أبي شيبة، والحاكم، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ”، ووافقه الذهبي.

[9] متفق عليه.

[10] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وهو صحيح.

[11] متفق عليه.

[12] شرف المصطفى، للنيسابوري (2/ 104).

_______________________________________________________
الكاتب: عبدالله بن عبده نعمان العواضي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *