وظهور الكفار على المؤمنين أحيانًا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أُحُدٍ، فإن تابوا انتصروا على الكفار، وكانت العاقبة لهم، كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار…
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعد:
فإن محنتنا العظمى في قضيتنا الإسلامية الكبرى في (الأرض المباركة) اليوم إنما هي على الحقيقة فرع عن أصل، وعَرَضٌ عن داء، وثمرة ونتيجة لمقدمات وأسباب.
كيف ذلك؟
دونكم وحيَ الله الْمُحْكَمَ:
عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِك الأممُ أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السَّيلِ، ولينزِعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت»؛ (إسناده صحيح، أخرجه أبو داود (4297)).
وعن ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورَضِيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم»؛ (إسناده صحيح، أخرجه أبو داود (3462)).
فمحنتنا إذًا في الأرض المباركة المقدسة هي فرع عن أصل محنتنا الكبرى في الأمة؛ في تركنا لديننا الحق، والمخالفة لشرع ربنا بألوان المنكرات التي تعُجُّ بها بلاد المسلمين اليوم، إلا من رحم الله؛ وليفتش كل واحد منا في نفسه، ولينظر فيمن حوله، يجد هذا واقعًا مرًّا كالعلقم أو أشد، وكأنما هي الشمس في نَحْرِ الظهيرة.
والله يقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وهي عَرَضٌ عن داء الأمة العُضال في حب الدنيا، وكراهية الموت الباعث على التكالُب على لُعاعة الدنيا الوضيعة، وشهواتها المحرَّمة، وعلى ترك شعيرة الجهاد في سبيل الله جل وعلا.
والله يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].
وهي ثمرة ونتيجة في شأن الوهن والذل الجاثم على قلب الأمة الآن؛ لمقدمات وأسباب، نحن من وراءها، ونحن القائمون بها، بما كسبتم أيدينا، مما يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعفو عن كثير سبحانه.
والله يقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وحتى تعود لنا أرضنا المقدسة، وحتى نعود لها بإذن الله، وهو وعد الله الصادق لهذه الأمة، ولن يخلف الله وعده؛ فإن علينا لزامًا أن نعلن الأوبة والتوبة لله جل وعلا، وأن نرجع لديننا، وأن نغيِّرَ ما بأنفسنا، ومفتاح ذلك كله، وقاعدته، وأساسه: تحقيق العبودية، في تحقيق التوحيد، والبراءة من الشرك وأهله، وتأمل رحمك الله هذا السرَّ البديع في آيات الأسراء، آيةً تلو آية:
في قوله تعالى، في مقام الإسراء من مكة إلى المدينة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وتأمل هذا -يا رعاك الله – في الآيتين اللتين بعدها: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 2، 3].
وتأمل هذا في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5]، وفي قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
ترى الآيات جميعًا قد اتحدت في ذلك المعنى الجامع الكبير العظيم: تحقيق العبودية.
وتأمله، وقلِّبِ النظر فيه مليًّا؛ في قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وتأمله في قول الله عز وجل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14]، وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173]، وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى مخبرًا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة… وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة”؛ [تفسير ابن كثير 5/ 384].
وتأمله في الهُوِيَّة الكاشفة عن الجندي المقاتل في المعركة التأريخية المقدسة ضد يهودٍ أخزاهم الله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلمُ، يا عبدَالله، هذا يهوديٌّ خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغَرْقَدَ؛ فإنه من شجر اليهود»؛ (أخرجه مسلم (2922)).
وأختِم مقالي هذا بعدد من التقريرات النفيسة المحكمة النافعة جدًّا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في بيان العلاقة الوطيدة بين واقع العبودية في دنيا المسلمين وحالهم، علوًّا، أو هوانًا:
يقول رحمه الله: “وظهور الكفار على المؤمنين أحيانًا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أُحُدٍ، فإن تابوا انتصروا على الكفار، وكانت العاقبة لهم، كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار، وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها، فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه، نصرهم الله، وأظهرهم على المخالفين له، فإذا ضيَّعوا عهوده ظهر أولئك عليهم، فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودًا وعدمًا من غير سبب يزاحم ذلك، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا من غير مزاحمة وصف آخر مُوجِبٍ للعلم بأن المدار علة للدائر”؛ [الجواب الصحيح 6/ 415].
ويقول رحمه الله في وصف إحدى المراحل التأريخية التي مرت بها الأمة: “فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول، سُلِّطت عليهم الأعداء؛ فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرةً بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شيء، إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أُخِذت مصر من بني عبيد، أخذها صلاح الدين يوسف… وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذٍ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائتي سنة”؛ [مجموع الفتاوى 13/ 178].
ويقول رحمه الله: “فإذا ترك العباد الذي أُمِروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عمارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذل، وقَهْرِ العدوِّ لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذٍ عن العمل بالدين، بل وعن عمارة الدنيا، وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه”؛ [قاعدة في الانغماس في العدو، وهل يباح؟ ص: 64].
ولقد أدرك هرقل الروم، ملك بني الأصفر، هذه الحقيقةَ، ووعاها حقَّ وعيها؛ بحكم خبرته بالنُّبوَّات القديمة، وسنن الله جل وعلا الثابتة المحكمة فيها؛ فمتى ندرك نحن المسلمين هذه الحقيقة؟
((وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعَفاف، فإن كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قدمي هاتين))؛ (أخرجه البخاري (7)).
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
______________________________________________________
الكاتب: النميري بن محمد الصبار
Source link