ما أحوج المسلمين اليوم إلى التأملِ في قول النبي ﷺ ذاك للأنصار في غزوة حنين، والنظرِ فيما أصاب المسلمين في بداية هذه الغزوة من انتكاسة كادت تعيد حزب مكة وحلفاءه الرجعيين إلى سطوتهم، ولكن الله سلم ولطف.
«أفلا ترضون – يا معشر الأنصار – أن يذهبَ النَّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم» ؟.
كان هذا التوجيه النبوي الشريف منه صلى الله عليه وسلم إلى معاشر الأنصار وهم القوة الضاربة التي آوت الإسلام وحمته ومكَّنته من تأسيس دولة استطاعت في زمن وجيز أن تسود القبائل العربية وتحيِّد خطرها، وأن تتغلغل في وسط هذا الجو المعادي لتحكمه بالعدل والرحمة، وتتمكن بعد ذلك من فتح معقل الشرك والوثنية في غزوة الفتح المبين بعد سنوات من الصراع والمقاومة وإنشاء التحالفات المريبة التي كان الهدف منها استئصالَ الإسلام ووَأْد دولته في مهدها، لأن الوثنية المقيتة خبرت وعلمت أن الإسلام ودولته ليست قوة عسكرية فحسب، بل الأخطر من ذلك هو المبادئ التحررية التي تجرف في طريقها كلَّ طموحات الحلف الوثني الذي يروم إبقاء الناس على الطبقية المقيتة التي كرَّست الفوارق الاجتماعية بين السادة والعبيد؛ فجاءت دولة الإسلام لتجرف كلَّ هذا النظام العتيق المتخلف ولتكون النور الذي تنعتق به الإنسانية من هذا التحالف بين الجبت والطاغوت، بين رأس المال وتجَّار الدين المزيف.
والإسلام إنما انتصر في هذه المعركة العنيفة رغم التشويه والتضليل؛ بالحفاظ على صفاء مبادئه وعدم التنازل في أي محطة من محطات الصراع؛ فلم يحاول الإسلام التحالف مع الحالة الوثنية القائمة وإرضاءها بتقديم بعض التنازلات؛ وإنما حافظ على جوهره ونهجه السلمي الذي اكتسب به زخماً وكوَّن به مناصرين في أوساط الحلف الوثني الذي انهدت دعائمه عروة عروة من الداخل.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى التأملِ في قول النبي صلى الله عليه وسلم ذاك للأنصار في غزوة حنين، والنظرِ فيما أصاب المسلمين في بداية هذه الغزوة من انتكاسة كادت تعيد حزب مكة وحلفاءه الرجعيين إلى سطوتهم، ولكن الله سلم ولطف.
ما أشبه ما يعانيه الصف الإسلامي اليوم من كدمات وتقهقر جراء الإعجاب بالكثرة والاعتداد بالقوة والشوكة بما وقع في عزوة حنين وقد وصفه القرآن الكريم بدقة بقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] «قال ابن جريج عن مجاهد: هذه أول آية نزلت من سورة (براءة).
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إيَّاهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعَددهم ولا بعُددهم، ونبَّههم على أن النصر من عنده، سواء قلَّ الجمع أو كثر، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولَّوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم … فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين»[1].
بَيْد أنَّ هذا النصر (فتح مكة) كان له ردُّ فعل معاكس لدى القبائل الكبيرة القريبة من مكة، وفي مقدمتها (هوازن) و (ثقيف) وتعدُّ الطائف قصبتها، وهي أكبر المدن في الجزيرة بعد مكة والمدينة.
اجتمع رؤساء هذه القبائل على (مالك بن عوف) سيد (هوازن)، وأجمعوا أمرهم على المسير لقتال المسلمين قبل أن تتوطَّد دعائم الفتح، وقبل أن يتحرَّكوا لاستئصال ما بقي من معالم الوثنية.
وكان (مالك بن عوف) شجاعاً مقداماً، إلا أنَّه سقيم الرأي سيِّئ المشورة. فأمر قومه وهم خارجون للغزو أن يأخذوا معهم نساءهم وأموالهم وذراريهم؛ ليشعرَ كل رجل وهو يقاتل أن ثروته وحرمته وراءه، فلا يفرَّ عنها[2].
فنحن نرى أن الصف المناوئ لمنهج الإسلام خرج بكل قوَّته ليُهلك في طريقه الأخضر واليابس. في حين نجد أنَّ السهولة التي فتحت بها مكة أعطت إحساساً لجمهور المؤمنين أنَّ الجاهلية تلفظ أنفاسها الأخيرة فلن تبديَ مقاومة تذكر، وظنَّ حدثاء العهد بالإسلام أنَّ شيئاً ما لن يقف في طريقه، كلُّ ذلك جعل الجيش يزحف للقاء المشركين وهو غير مكترث لما سوف يواجه؛ ذلك أنَّ المسلمين بلغوا اثني عشر ألفاً بمن انضمَّ إليهم من أهل مكة[3].
فظنت رايات التوحيد أنها لن تنتكس اليوم من قلة لِـمَا رأت من اجتماع الناس وتحقيق ائتلاف قوي بعد الفتح العظيم جمع بين من بقي على شركه من أهل مكة والطلقاء الذين هم السواد الأعظم من الحلف القديم الذين التحقوا بالإسلام بعد أن هزمهم فكرياً وسياسياً وعسكرياً فلم يجدوا بُدّاً من الانحناء له رغم ما تكنه أنفسهم له من الحقد والعداوة لأنه أنهى سلطانهم وأحلامهم الوثنية ونشر العدالة والرحمة والمساواة، وهذا ما سنلحظه بعد ظهور البوادر الأول للهزيمة وما تلفظت به أفواه هؤلاء ليتضح ما تُكِنُّه قلوبهم من حقد دفين لا يحتاج إلا لمن يؤججه فينفضُّ هؤلاء عن حلفهم الإستراتجي مع الدولة الفتية، وهذا ما نراه من تعبيرات زعماء مكة بعدما أحيا حلف هوازن وثقيف إمكانية هزيمة الإسلام وأهله؛ فقد نظر زعماء مكة إلى الجيش المولِّي نظرة تشفٍّ وفرح. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ، وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الهَزِيمَةَ، تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ. وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ – قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ – وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مُشْرِكٌ فِي المدَّةِ الَّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اُسْكُتْ فَضَّ الله فَاك، فواللَّهُ لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ[4].
إن الذي تولَّى كبر هذه المهزلة الشائنة هم الطلقاء من أهل مكة ورَعاع البدو. ووقف النبي صلى الله عليه وسلم ساكن الجأش، يدير الرأي في خطة ينقذ بها سمعة الإسلام ومستقبله، وقد أحاط به لفيف من المهاجرين الأولين ومن أهل بيته. فأمر العبَّاس بن عبد المطلب – وكان جهير الصوت – أن ينادي: يا معشر الأنصار! يا أصحاب البيعة يوم الحديبية!
لقد هداه الحقُّ أن يهتف بأصحاب العقائد، ورجال الفداء عند الصدام فهم وحدَهم الذين تنجح بهم الرسالات وتفرَّج بهم الكروب.
أما أولئك الحراص على الدنيا، السعاة وراء المغانم، فما يقوم بهم أمر، أو تثبت بهم قدم[5].
فالنصر لا يقوم إلا بالفئة الصلبة التي تؤمن بالفكرة وتدافع عنها دون وَجَل أو طمع أو خوف، فالمتشبثون بالمبدأ هم العماد الذين أغفلهم المسلمون، فأصبح الهمُّ هو الاستقطاب بدل الجودة والتربية التي كانت عماد الاختيار في أي منصب؛ فلذلك بعد أن ترجل الإسلام عن السلطة انفض عنه هؤلاء المصلحيون ولم يبقَ في نهاية المطاف إلا أبناؤه البررة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
وهذا عين ما وقع في غزوة حنين؛ فعلى أبناء المشروع الإصلاحي الاتعاظ والاعتبار وأن يرجعوا إلى تكوين الفئة الصلبة التي تحمي المشروع بدل التطبيع مع الفساد والمفسدين؛ فلن ينتصر المشروع الإصلاحي إلا برجاله ونسائه وفي كل محنة نعمة فهذه فرصة عظيمة لإعادة قراءة الواقع السياسي والتخطيط لانتصارات مجيدة تكون لإعلاء الدين وخدمة الوطن والمواطنين.
الثبات والنصر:
وفي ضجة الفزع الذي ساد المعركة أولاً، عَلَت صيحات العباس رضي الله عنه، ووصلت إلى آذان الرجال المشدوهين لِـمَا وقع، فأخـذوا يكافحون ليبلغوا مصدر الصوت. واجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الرجال الذين دعاهم، وهم يصيحون: لبيك لبيك! وكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته يقول: «أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطَّلب». ويدعو «اللهم نزِّل نصرك». والمهاجرون والأنصار قد التحموا مع رجال (هوازن) و (ثقيف).
قال العباس: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: «الآن حمي الوطيس»، ثم أخذ حَصيَّات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا وربِّ محمد»[6].
ولم يطل الوقت حتى كان رجال (ثقيف) ومن معهم يوغلون مولِّين الأدبار في وادي حنين، ورجع الطلقاء والأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هم يرون الأسرى مكتفين!
وفي هذه المعركة نزل قول الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْـمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 – 26][7].
تأليف قلوب المخالفين أساسٌ لتوطيد معالم الدين:
بعد الانتصار ورأب الصدع ولجم المخالفين نبتدئ معركة جديدة وهي معركة إشباع البطون وتحقيق أمنيات المخالفين وصبر أصحاب الهمم، وربما أغفل أصحاب المشروع الإصلاحي هذه النقطة وأعطوا – لإرضاء المخالفين فكرياً – التنازل تلو التنازل عن الحقوق الإسلامية وتنفيذ برنامج اقتصادي متقشف جوَّع الناس وقضى على آمالهم في الحياة الكريمة، وهو ما جعل المخالفين يضخِّمون الأخطاء الكارثية للتدبير التوافقي ويلقون بكل إصلاح في غياهب النسيان بعد أن صوروا أهله أعداء للفقراء والبؤساء.
وهذا درس آخر نستقيده من غزوة حنين فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم للفئة الهشَّة من ضعفاء النفوس إعطاء من لا يخشى الفقر وهو ما أوجد في نفوس الأنصار شيئاً! ومباشرة بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عالج الأمر في اجتماع طارئ رغم ظروف الحرب؛ فلم يعطل النبي صلى الله عليه وسلم المؤسسات بذريعة الحرب ولم يعلن حالة الطوارئ وتكميم الأفواه؛ بل اجتمع بالأنصار رضي الله عنهم في ساحة الوغى وأرضى خواطرهم فانقلبوا إلى أهليهم راضين مرضيين.
شرع صلى الله عليه وسلم يُسكت المتطلِّعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، وبدأ بقسمة المال، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي، بل أول من حظي بالأنصبة الجزلة. وأقبل رؤساء القبائل وأولو النَّهمة يتسابقون إلى أخذ ما يمكن أخذه. وشاع في الناس أنَّ محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. فازدحموا عليه يبغون المزيد من المال، وأكبَّ عليه الأعراب، يقولون: يا رسول الله! اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه، فقال: «أيُّها الناس، ردُّوا عليَّ ردائي، فوالذي نفسي بيده! لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نَعماً لقسَّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً».
وهؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء، ما أغنوا عن الإسلام شيئاً في مأزقه الأولى، بل كانوا هم العقبة الصلدة التي اعترضت مسيله، حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين في ثواب الآخرة المؤْثِرِين ما عند الله.
ولكنَّهم اليوم – بعدما أعلنوا إسلامهم – يبغون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتح عليهم خزائن الدنيا؛ فحلف لهم أنه ما يستبقي منها شيئاً لشخصه، ولو امتلك ملء هذه الأودية مالاً لوزَّعه عليهم.
والحق أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وَسِع بحلمه وكرمه مسالك بيِّنة للطيش والجشع في سبيل تألُّف هؤلاء الناس، وتحبيبهم بالإسلام. وشاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يلطف معهم، وينسى ماضيهم تكرماً وتأليفاً[8].
وهذه السياسة البعيدة لم تُفهَم أول الأمر، بل أُطلقَت ألسنة شتى بالاعتراض، فهناك مؤمنون ظنُّوا هذا الحرمان ضرباً من الإعراض عنهم والإهمال لأمرهم.
روى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: «إنِّي أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم: عمرو بن تغلب». قال عمرو: فما أحبُّ أنَّ لي بكلمة رسول الله حُمْرَ النعم.
فكانت هذه التزكية تطييباً لخاطر الرجل أرجح لديه من أثمن الأموال. وكان الأنصار ممن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة[9]. فقد حُرموا جميعاً أعطية حُنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة، فطاروا يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تبدَّل الفرار انتصاراً، وها هم أولاء يرون أيدي الفارين تعود ملأى. أمَّا هم فلم يُمنَحوا شيئاً قط!
فتكلم في ذلك سعد رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلَّالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم» ؟» قالوا: بلى! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا تجيبون يا معشر الأنصار»؟.
قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المنُّ لله ورسوله.
قال: «والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمنَّاك، ومخذولاً فنصرناك…».
فقالوا: المنُّ لله ورسوله.
فقال: «أوجِدْتُم في نفوسكم – يا معشر الأنصار – في لَعاعَة من الدنيا تألَّفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون – يا معشر الأنصار – أن يذهب النَّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم» ؟
«فو الذي نفسي بيده، لو أنَّ الناس سلكوا شِعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكتُ شِعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربّاً، ورسوله قسماً، ثم انصرف وتفرقوا.
والأنصار – في تاريخ الدعوات – مثال فريد للرجال الذين تقوم بهم الرسالات العظمى؛ حتى إذا استوت على سوقها، وتجاوزت أيام محنتها ومؤنتها، وتدلَّت ثمارها وحلا جناها، جاءت أيدٍ غير أيديهم، فقطفت ما تشتهي، ولم تكتفِ بذلك! بل لطمت أيديَ الغارسين حتى لا تلقط من الثمار الساقطة قليلاً ولا كثيراً.
ولا نقول ذلك تعليقاً على توزيع الغنائم في هذا المقام، فقد اتضح وجه الرشد في هذه القسمة الحصيفة؛ ولكنَّا نذكِّر في مناقب الأنصار، وافتراض ترفُّعهم عن الدنيا في سبيل الدين، وتأليف الناس عليه، أنَّ شؤون الحكم ابتعدت عنهم، واحتازها غيرهم وهم لها أَكْفَاء.
ولا ريبة في أنَّ أولئك المتجرِّدين لله سوف يلقَون جزاءهم الأوفى، وأنَّ شأن الدنيا أَنْزَلُ قدْراً من أنْ يأسى عليه رجل العقيدة[10].
ويمكن أن نستخلص من ذلك أن الزعمات الإصلاحية لا بد لها ألا تُغْفِل قواعدها الجماهرية الصلبة في خضم معترك التدبير اليومي لشؤون الدولة والمجتمع؛ وهذا ما سطره النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار رضي الله عنهم؛ فبمجرد علمه بما تُكِنه نفوسهم سارع إلى تطويق الأمر باجتماع طارئ أعاد فيه الثقة لهذه الجماهير التي بدلت وضحَّت ثم وجدت نفسها – حسب اعتقادها – بعيدةً عن المغانم فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى عودتهم بأثمن الأشياء وأغلاها وهذا ما سطره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟».
وهذا ما فشلت فيه الحركة الإصلاحية في تدبيرها للشأن العام في العديد من الدول؛ فلم تحافظ على الأنصار الحقيقين لها بل تنازلت عن كثير من المبادئ في سبيل إرضاء المخالفين فأهلكوا في طريقهم الحرث والنسل ومارسوا كل خطيئة كالتطبيع وتقننين المخدرات والتنازل عن ثوابت الدين فعادوا بخفَّي حُنين؛ فلاهم حافظوا على المبادئ ولا هم أصلحوا الدولة.
[1] تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420هـ – 1999م: 4/125.
[2] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص388.
[3] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص389.
[4] السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، ط: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية 1375هـ – 1955م: 2/ 444.
[5] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص390.
[6] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص390 – 391.
[7] المصدر السابق، ص391.
[8] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص393.
[9] المصدر السابق: ص:394
[10] فقه السيرة، محمد الغزالي، ص395 – 396.
_________________________________________________________
الكاتب: د. يوسف الحسين إفيكيز
Source link