منذ حوالي ساعة
تتبّع الموقف الحقيقي لحزب الله من مجريات الصراع في غزة، وإمكانيات المشاركة في أتونها قريباً، أي قبل تدمير غزة تماماً وتهجير أهلها، يأخذنا إلى دوائر تفكير وتحليل مختلفة، تتعلّق بمصلحة الحزب وإيران الآن وغداً، في أيّ قرار يجري التحضير له
لماذا لا يدخل حزب الله، الإيراني المنشأ والتمويل والتجهيز في معركة غزة؟ وأين صواريخه الدقيقة التوجيه، وأين مسيّراته المتطوّرة والمزوّدة بخبرات إيرانية متراكمة، وأين خطط اقتحام الجليل في شمال فلسطين المحتلة، وهو السيناريو الذي بدأ الحزب يروّج له بعد حرب تموز عام 2006، كبديل من حرب الصواريخ التي دمّرت الضاحية الجنوبية في ذلك العام؟
هذه الأسئلة تتردّد على ألسنة اللبنانيين منذ اللحظات الأولى لعملية 7 أكتوبر الباهرة في غلاف غزة، وهم في ذلك على فئات مختلفة أشدّ الاختلاف؛ فمنهم المؤيدون المتحمّسون للحزب، ويطالبون “السيّد” أي أمين عام الحزب حسن نصر الله بتدمير إسرائيل، لثقتهم العالية بقدرات الحزب، و”محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة. ومنهم المؤيدون والمتحمّسون لحماس وللشعب الفلسطيني، ويطالبون الحزب بدخول المعركة إلى جانب قطاع غزة، للتخفيف عن المقاتلين والمدنيين، وتشتيت الجهد الحربي الإسرائيلي بين جبهتين. ومنهم الكارهون للحزب، بسبب مغامراته العسكرية خارج لبنان، لا سيما في سوريا واليمن، وبسبب هيمنته على القرار اللبناني في الداخل، ويسألون عن سبب تلكؤ الحزب عن الوفاء بتعهّداته بتحرير فلسطين، ليس لأنهم يريدون منه دخول الحرب وتحمّل تكاليفها مرة أخرى، في أسوأ أزمة اقتصادية يمرّ بها لبنان منذ عام 2019، بل لأنهم بذلك يكشفون زيف الشعارات، من وجهة نظرهم.
يبدو التدخل العسكري الإيراني، ولا سيما عبر حزب الله، متوقعاً بشدّة في لحظة محدّدة، قد تكون إشارة نذير من حماس في غزة عن سوء الأوضاع العسكرية هناك، فلن يتدخل الحزب إلا مضطراً
لكن تتبّع الموقف الحقيقي لحزب الله من مجريات الصراع في غزة، وإمكانيات المشاركة في أتونها قريباً، أي قبل تدمير غزة تماماً وتهجير أهلها، يأخذنا إلى دوائر تفكير وتحليل مختلفة، تتعلّق بمصلحة الحزب وإيران الآن وغداً، في أيّ قرار يجري التحضير له، سواء أكان الاكتفاء بالدعم التقني والمعلوماتي، وهو ما يقدّمه الحزب حالياً لحركة حماس، من جملة الدعم السابق على “طوفان الأقصى”، وما زال مستمراً، أو الانخراط بالمعركة كطرف ثالث، قد يعقّد مجرى الأحداث بالنسبة إسرائيل وداعميها في الغرب إلى حدٍّ كبير، لكنه يفتح الباب أمام صراع إقليمي واسع من حيث الظاهر، وهو صراع عالمي من حيث الباطن. وستكون المقاربة من نواحٍ مختلفة لكن متكاملة.
أولاً، البُعد الاستراتيجي:
إنّ عملية “طوفان الأقصى” من الإتقان والجرأة والإثخان في العدو، ما يجعلها خطيرة جداً على فكرة “إسرائيل” وقدرتها على الصمود، وهو ما يلخّصها عبارة “التهديد الوجودي لإسرائيل”، فتداعت القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، لمنحها الإسناد الكافي كي لا تقع. وبعكس الدعاية الإسرائيلية، التي تقارن بين ما حدث للمستوطنيين “المدنيين” وهم كلهم جنود عاملون، أو احتياطيون، وما وقع لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، أو “الهولوكوست”، فإن أشدّ ما أخاف إسرائيل، هو إذلال جيشها بهذه الطريقة، وهو الذي أُخذ على حين غرّة، فقُبض على الجنود والضباط وهم في مهاجعهم، وقُتلوا جماعات وفرادى، في مشهدية لم يسبق أن وقع فيها، أيّ جيش متطوّر كالجيش الإسرائيلي. والأنكى من ذلك، أنّ حماس نشرت المشاهد في أولى لحظات الهجوم، ما ضاعف من آثارها إلى حدّ نشر الرعب الشامل، في إسرائيل وحلفائها. والسؤال المنطقي المطروح: هل نسّقت حماس مع حزب الله لفتح جبهتي الشمال والجنوب معاً أم لا؟ إن كان الجواب بالإيجاب، فلماذا تلكأ الحزب؟ وإن كان بالسلب، فلماذا انفردت حماس بالمعركة والردّ القاسي إسرائيلياً متوقّع بلا شك؟ الجواب الحقيقي قد لا يظهر إلا لاحقاً بعد انجلاء وعثاء المعركة.
لكن استمرار الضبط الإيراني عن الالتحاق بالمعركة، سيكون له آثار ضارّة جداً على الموقع الاستراتيجي لـ”محور المقاومة”. فسقوط غزة، سيعني تلقائياً تضييق الخناق على حزب الله في سوريا ولبنان، وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا والعراق واليمن، وذلك في أدنى التوقعات.
وقد يكون المخطّط له أكبر من ذلك بكثير. لذلك، يبدو التدخل العسكري الإيراني، ولا سيما عبر حزب الله، متوقعاً بشدّة في لحظة محدّدة، قد تكون إشارة نذير من حماس في غزة عن سوء الأوضاع العسكرية هناك، فلن يتدخل الحزب إلا مضطراً، لما لذلك من تداعيات مدمّرة على لبنان.
ثانياً، البُعد السياسي:
ثمّة وجهة نظر أخرى، تقول إن إيران ووكلاءها في المنطقة، لن تدخل الحرب في غزة، لأسباب تعبوية محض؛ فحركة حماس هي التي قرّرت توقيت المعركة، على الرغم من الدور الإيراني المؤكّد في التخطيط والتدريب والتجهيز ومن سنوات عدة. وحزب الله، لم يكن جاهزاً تعبوياً لخوض المعركة إلى جانب حماس. وهو بذلك أضاع فرصة ذهبية، كما يقال. فلحظة الضياع الإسرائيلي في الساعات الأولى من يوم 7 أكتوبر، انقضت إثر الاستنفار الإسرائيلي واستدعاء قوات الاحتياط، فقد الحزب عنصر المباغتة، وهو كان العنصر الأمضى في نجاح “طوفان الأقصى”. وبإزاء هذا الواقع الميداني البالغ التعقيد، فإنه يمكن الإفادة من حالة الانكفاء الإيراني عن المشاركة في الحرب، لحصد المكاسب السياسية، وهو لسان حال الدول الغربية التي تخشى توسيع الصراع، وتريد حصره في قطاع غزة، كي يتسنّى لإسرائيل تحقيق النصر على حماس. لكن في معركة مصيرية، كالتي تدور رحاها في غزة، لن تعوّض خسائرها الاستراتيجية، أيّ مكاسب سياسية تكتيكية، سواء في لبنان أو المنطقة، مثل تأييد مرشح حزب الله لرئاسة الجمهورية، سليمان فرنجية، مع تعزيز قبضة الحزب على مفاصل الدولة اللبنانية، من خلال حزمة التعيينات الإدارية في المواقع الحسّاسة، مثل حاكمية المصرف المركزي، وقيادة الجيش والأجهزة الأمنية، فضلاً عن وصول رئيس حكومة موالٍ للحزب، أكثر من الرئيس الحالي نجيب ميقاتي. والأهم، تسهيل استخراج النفط والغاز من الحقول البحرية المحدّدة عقب ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، العام الماضي. قد تكون المكاسب السياسية الأوّلية مُغرية للوهلة الأولى، لكنها في المديين المتوسط والبعيد، ستكون كارثية، لا سيما في المجال الأيديولوجي.
لا يمكن لحزب الله أن يتخلّى استراتيجياً ولا سياسياً عن فلسطين، لأنه بذلك، يتلقى أسوأ خسارة أيديولوجية، تنعكس بالضرورة على مجمل النواحي. من هنا، يبدو الحزب ملزماً بالتدخل
ثالثاً، البُعد الأيديولوجي:
يعوّل حزب الله ومن خلفه إيران، على البُعد الأيديولوجي للصراع مع إسرائيل، بل في النزاعات التي جرت وقائعها على مدى عقدين، في بعض دول المنطقة، من العراق إلى اليمن، مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين. أما قضية فلسطين، فهي حجر الزاوية في الخطاب الأيديولوجي، لتبرير كافة السياسات والتحرّكات، وذلك بغضّ النظر عن كون فلسطين هي الغاية أم الوسيلة، لإنجاز مضامين الفكر الشيعي المهدوي. فإذا فقدت إيران ووكلاؤها هذه الورقة البالغة الأهمية، فسوف تنهار تلقائياً، منظومة الخطاب الأيديولوجي، وسيترتّب على ذلك، فقدان الوهج والتأثير في العالم الإسلامي السني بأكثريته الساحقة، بل انقلاب الرأي العام بحدّة، فيما لو تخلّت طهران عن نجدة غزة، في أصعب الظروف وأشدّها. بعبارة موجزة، لا يمكن لحزب الله أن يتخلّى استراتيجياً ولا سياسياً عن فلسطين، لأنه بذلك، يتلقى أسوأ خسارة أيديولوجية، تنعكس بالضرورة على مجمل النواحي. من هنا، يبدو الحزب ملزماً بالتدخل، في لحظة مؤاتية، يدرسها بدقة، وعند اتضاح الضرورة، مع فشل كل الجهود والضغوط العربية والإقليمية والدولية، الرسمية والشعبية في وقف عملية إبادة غزة والقضاء على حماس. أما التداعيات فستكون هائلة، على لبنان والمنطقة، مع مسارعة أميركا وحلفائها، لردع أيّ توسيع للمعركة. حين ينطلق الصاروخ الأول إلى قلب إسرائيل، من لبنان، فسنكون أمام مرحلة جديدة من الصراع، لا تشبه كل ما جرى حتى اللحظة.
___________________________________________
الكاتب: د. هشام عليوان
Source link