الذي لا بد أن يشغل بالك عند إشراقة كل شمس هو أن تتساءل بحرقة: كيف أُصلِح نفسي وأهذِّبها، وأرتقي بها، وأصنع شيئًا جديدًا لها هذا اليوم؟
1- الهم الأول:
ليكن همُّك في كل يومٍ تُشرق فيه شمسه ثلاثة، وكل ما سواها تَبَع لها.
الهم الأول: كيف تصلح عبادتك؟
وتعالَ معي لتنظر إلى قيمة هذا الهم.
إن الهم بإصلاح العبادة يعني التجرد الخالص لله فيها، والارتقاء بها إلى درجات المتقين كي تكون مقبولة، فالله إنما يتقبل من المتقين لا سواهم، وهناك فرق بين أداء العبادة وبين إصلاحها؛ فبعض الناس يفكر في العبادة من حيث العموم، فيعتبرها ثقلًا على ظهره، فهو يفكر بالخلاص منها عند دخولها، والأصل أن تفكر في قيمة إصلاحها وإتقانها عند البدء فيها؛ كي تسلمها كاملة مكملة، وأجمل ما يمكن أن تستحضره قبل البدء في عبادة الصلاة – مثلًا – أن تصليها وكأنها آخر صلاة، بهذا المفهوم يمكن إتقانها، وخُذْ قاعدة من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؛ حيث يقول: «صلِّ صلاة مودَّع».
وتأمل كيف لو أن إنسانًا صلى وهو يعلم أنها الأخيرة في حياته، كيف سيُقبل على مولاه فيها؟
هل سينشغل عنه في توجُّهِهِ؟
هل سيفكر في الدنيا والعقار والمال والزوجة والولد؟
صلاح العبادة يعني أن يومك هذا سيمضي بسلام، فلن تشعر فيه بقلق، ولن يداهمك اكتئاب، ولن يسيطر عليك خوف، فأنت في ذمة الله وعنايته، وحفظه وأمانه، وانظر في المقابل إلى من يشكو القلق والتوتر والضعف، وتكالب الهموم على رأسه، والشكوى كلما رآك أو تحدثت معه، ستجد الأصل ذاك الخلل الذي تسرب إلى صلاته، وكلنا ذلك المقصِّر.
بصلاتك المتقَنة ثِقْ كل الثقة بصلاح حياتك، فمن صلحت صلاته، صلحت حياته، ووالله ما رأيت في حياتي رجلًا متقنًا لصلاته يشكو من بعثرة أموره، والخوف من مستقبله، إذًا مدار الأمر كله وصلاح الحال أجمعه يدور على إتقان الصلاة؛ لأنها بوابة العبور إلى التوفيق والفتح، والسكينة والرضا، وهي أصل الصلة بالله، فمن كانت صلته بالله قوية، هيأ الله له الأسباب، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة.
ثم إن الفلاح مرتبط بها في الدارين؛ كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]، فإن كنت تريد أصل الفلاح وغايته ومنتهاه، ففي هذه الصلاة الخاشعة التي تقدمها بين يدي مولاك.
ولا أقصد بالخشوع عصر العينين بالدمع، لكن حضور القلب وإلقاء السمع.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «يا بلال، أرِحْنا بالصلاة»، والمعنى: أقم الصلاة لنرتاح ونطمئن، ونسعد ونبتهج، أما الشقي الذي حُرم السعادة فيقول: أرحنا منها.
((وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ صلى))؛ أي إذا وقع له ما يؤلمه أو يضايقه أو يفزعه، قام إلى الصلاة؟
يصلي لينشرح صدره، وتطيب نفسه، ويذهب همه وغمه وكدره، فكانت الصلاة أجمل وسيلة عملية عبادية لجلب السعادة، وانشراح الصدر.
والصلاة تمدك بأعظم طاقة روحية، ونشاط نفسي، ويزداد تأثيرها كلما ازدادت الصلة فيها بالله تعالى.
يقول واحد من علماء النفس الغربيين (توماس هايسلوب):
إن الصلاة أهم أداة عُرفت حتى الآن لبثِّ الطمأنينة في النفوس، وبث الهدوء في الأعصاب”.
إن في كل واحد منا جزءًا لا يلتئم إلا باتصاله بالله، فإذا حصل الاتصال بالله التأمت أجزاؤه، ووجد سكينة وأنسًا، وتمتع بصفاء روحي واطمئنان قلبي لا يجده في غير اتصاله بمولاه.
وأهمية إصلاح العبادة – الصلاة وسائر العبادات – يكمن في أنها أساس سعادتك، فلا سعادة بدونها في يومك، وهي ذخرك غدًا بين يدي الله، وزادك في الخلود الأبدي، وما هذه الدنيا إلا ساعة، ولك أن تسأل أهل الثمانين ومن جاوزها كلهم، سيخبرونك أنهم وُلدوا بالأمس، ولم يكن هذا العمر الذي تراه طويلًا سوى لحظات.
2 – الهم الثاني:
الهم الثاني الذي لا بد أن يشغل بالك عند إشراقة كل شمس هو أن تتساءل بحرقة: كيف أُصلِح نفسي وأهذِّبها، وأرتقي بها، وأصنع شيئًا جديدًا لها هذا اليوم؟ السعيد في يومه هو من سعى لإصلاح نفسه كل يوم، وما أجمل قول ابن قدامة المقدسي (ت: 620ه) تلميذ عبدالقادر الجيلاني، وصاحب العمدة والمقنع والكافي والمغني، وأستاذ أساتذة الشام، وكبير فقهاء زمنه؛ إذ يقول في عبارة بليغة تُكتب بماء الذهب: “إياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتغل بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة؛ كالحرص والحسد، والرياء والعجب، قبل إصلاح ظاهرك، فإن لم تتفرغ من ذلك، فلا تشتغل بفروض الكفايات، فإن في الخلق كثيرين يقومون بذلك، فإن مهلك نفسه في طلب صلاح غيره سفيهٌ، ومثله مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه وهو يذُب الذباب عن غيره”!
إنها وصية إمام عالم خبير بالتربية والسلوك، قضى عمره في الطلب والتعليم والإصلاح، وهي خلاصة ما فهمه في تربية النفس والارتقاء بها.
فمن المهم أن تلتفت إلى نفسك مربيًا ومعلمًا، ومزكيًا ومهذبًا، قبل الانشغال بالآخرين ونصحهم، والترقي بهم في مدارج الصلاح، فإصلاح نفسك البوابة الرئيسة والوحيدة التي منها تنطلق في فضاء العمل التربوي والريادي، وإن البدء بإصلاح الناس قبل النفس سفه، كما يراه ابن قدامة خبير العلم والتعليم والتغيير والتجديد.
إن بعض الناس لا يفكر أبدًا بإصلاح نفسه، فيقتات كل يوم على أخطاء الآخرين وعيوبهم، وينسى نفسه فيهلك؛ ولذا فإن أطول قَسَمٍ أقسم به ملكُ الملوك عز وجل في كتابه العظيم على أن الذين يزكون أنفسهم هم المفلحون، وأن المفرطين في حق أنفسهم خائبون؛ قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
إن إصلاح الذات وتربيتها والارتقاء بها سيكفيك مؤونة الاهتمام بمسألة القدوة مع أولادك وأهلك، وطلابك ومجتمعك؛ إذ يرى الأهل والمجتمع وكل من حولك اهتمامك بنفسك، وإصلاحك لذاتك، فيكون هذا بحدِّ ذاته مؤثرًا للغاية، فالاقتداء بالمربي في سلوكه وهمته واهتماماته يمثل أكبر تأثير حقيقي في شخصية المقتدي، وهو يفوق تأثره بالدروس والتلقين والتنظير أضعافًا، وشواهد تراجِم الأئمة وأهل العلم والمصلحين والمجددين في كل زمان ومكان تدل على هذا، فقد كان شغلهم بأنفسهم بغرض إصلاحها وتهذيبها، وتنميتها والارتقاء بها يعتبر لديهم هو الهم الأول من هموم التربية، ورأس الهرم في عمليات التهذيب والتغيير وإصلاح المجتمع، ومن المؤكد واليقين أن تأثير هؤلاء فيمن حولهم متين صلب؛ لأن الله يضع لهم بركة في التأثير فيمن حولهم.
تأمل تجد المنهج القرآني يركز على التغيير الذاتي أولًا؛ ليحصل الإصلاح الجذري؛ فيقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]؛ أي إن التغيير منك يبدأ، وعليك يقف، ومن جهل نفسه، وعجز عن إصلاحها، فهو لِما سواها أجهل وأعجز، ومن عرف كيف يتحكم في ذاته، صار قادرًا على التأثير في سلوك الآخرين، وكل مشروع إصلاحي لم ينطلق أولًا من إصلاح الذات فاشل.
عند إشراقة كل شمس فكِّر في همِّ الارتقاء، لا تقف؛ فالشمس لا تتوقف في المسير، والعمر يمضي كمرِّ السحاب، من المهم جدًّا أن تفحص إيمانك كل يوم، ومن المهم جدًّا أن تنظر هل أنت ناجح مع عائلتك وأهلك، وفي وظيفتك وعملك؟ وهل أنت فرد صالح في مجتمعك؟
اسأل نفسك: ما الذي ينقصك؟ وعالج هذا النقص.
لقد تعلم أبو يوسف – التلميذ الأبرز لأبي حنيفة – مسألة في المواريث وهو يجود بنفسه؛ لأنه كان يرى من الخسارة أن يموت وهو جاهل بها، وابن الجوزي حفِظ القراءات العشر وهو في الثمانين، وبدأ الكسائي بتعلم العربية وهو في الأربعين، ما فاتك شيء، فابدأ الآن في تلافي قصورك وانطلق.
إن مفهوم النجاح للأفراد والمجتمعات يقوم على العودة إلى الذات وإصلاحها وتكميلها، والمجتمع الصالح يبدأ بإنسان صالح؛ فهذا إبراهيم عليه السلام لم يصل إلى مرتبة الإمامة إلا بعد أن اعتكف على إصلاح نفسه؛ كما قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، لقد كان ابتلاء الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أن أوحى إليه بالشرائع والأعمال، فلما أتمها إبراهيم على أحسن وجه؛ كما قال الله تعالى في وصفه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] – جعله الله تعالى إمامًا للعالمين إلى يوم القيامة.
إننا لو بحثنا عن السبب فيما يعانيه عالم اليوم من مرضٍ وفوضى، لوجدناه يعود أولًا وآخرًا إلى رغبة الناس في إصلاح غيرهم، من دون أن يفكروا في إصلاح أنفسهم.
ومسكينٌ مَن ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقدِم مفلسًا، مع قوة الحجة عليه.
إن من يريدون زعامة العالم الدينية والتربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لا بد – قبل التفكير في زعامة العالم – من التفكير بخلق أفراد صالحين، فالجسم لا يكون صحيحًا إلا إذا كان كل عضو من أعضائه صحيحًا، والمجتمع الصالح السويِّ المتكاتف الناجح لا يقوم إلا بأفراد صالحين.
يقول علي رضي الله عنه: “من نصَّب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته، قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم”.
إن الفرد إذا استقام، استقام المجتمع، وهل غير الأفراد مَن يشكلون المجتمع؟
أصلح من نفسك كل يوم علميًّا، ولا تغرب شمس يومك قبل أن تستفيد شيئًا جديدًا، فإن العلماء هم أرفع الناس درجة يوم القيامة.
أصلح من نفسك مهنيًّا، فكفى بالمرء إثمًا أن يضيع مَن يَعُول، واليد العليا خير من اليد السفلى، وإن قامت الساعة وأنت في حقلك بيدك فسيلة فاغرسها.
أصلح من نفسك كل يوم أخلاقيًّا؛ ففي كل يوم ألزِمْ نفسك عدم الغضب، والرضا بالقدر، والتواضع لكل أحد، واعلم أن الحلم بالتحلُّم، والعلم بالتعلم، واعلم أن طبيعة إصلاح نفسك والارتقاء بها في جميع مناشط الحياة يحتاج منك إرادة لا تستكين، ومجاهدة لا تقف، وطول نفس لا ينقطع.
3 – الهم الثالث والأخير:
الهم الثالث الذي لا بد أن يشغل بالك هو هم منفعة الناس، وإدخال السرور عليهم، فأنت تسأل نفسك كل يوم تشرق عليك فيه شمسه: ما الذي سأقدمه للناس؟ وبِمَ سأنفعهم في يومي هذا؟
من خلال قراءتي للسيرة النبوية وجدتُ أعظم وصفٍ وُصف به خلق النبي صلى الله عليه وسلم هو وصف خديجة؛ فقد استدلت على أن ما حصل في غار حراء لا يمكن أن يكون شرًّا، مسترشدة بإحسانه صلى الله عليه وسلم، ونفعه الغير، فقد رجع إليها من الغار يرجف من شدة البرد يقول: «زملوني زملوني»، فدثرته حتى ذهب عنه الروع، ثم أخبرها أنه خشِيَ على نفسه، فقالت له تلك الكلمات الخالدة: ((كلا، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ فوالله إنك لتصِل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقرِي الضيف))، وهي كلها منافع كان يقدمها للناس، والشيء الذي يلفت نظرك أن هذه الصفات نفسها وُصف بها الصديق رضي الله عنه؛ فقد وصفه بذلك رجل من المشركين وليس من المسلمين؛ إذ شهد له بأخلاق مثل أخلاق صاحبه؛ ففي صحيح البخاري: ((لما خرج أبو بكر مهاجرًا قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِماد، لقيه ابن الدَّغِنة، وهو سيد القَارَة، قال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال أبو بكر: أخرجني قومي من هذا البلد، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبدَ ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج – لماذا؟ – فإنك تكسب المعدوم، وتصِل الرحم، وتحمِل الكَلَّ، وتَقرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق)).
ألا تعجب كيف وصف ابن الدغنة أبا بكر بالصفات التي وصفت بها خديجة النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنها صفات مشتركة في العظماء، فلا يمكن أن يصل إلى سُلَّم العظمة من لم تتحقق فيه هذه الصفات، وكما أن الفَلَاح مربوط بالخشوع في الصلاة وهو الهم الأول، وبتزكية النفس وهو الهم الثاني والارتقاء بها، فهو أيضًا مربوط بالهم الثالث؛ إذ يقول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال عن أصفيائه وأنبيائه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73]، فنجاحك – إذًا – مربوط بفعل الخير ونفع الناس؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى، وإني لأرجو ألَّا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد بعض الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني ويُخرِج عني الأذى.
ولك أن تتأمل في سيرة علي بن الحسين رحمه الله تجد ما يلفت نظرك من أنه كان يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام، فلما مات فقدوا ذلك، لقد كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل.
إن نفع الناس نعيم معجَّل، فهو سرور يغشى الروح فتسعد، فمن أعظم من أسباب السعادة وانشراح الصدر الإحسانُ إلى الناس، ونفعهم بالبدن والمال والجاه، والكلمة الطيبة، والتعاطف بالمشاعر، والمحسن هو أعظم الناس سعادة، وغير المحسن تجده كئيبًا ضيقًا، أتعس الناس وأنكدهم، وفي نفع الناس تخليد الأجور مع طِيب الذكر والمآثر؛ يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]؛ وقد قال الشاعر:
فمن عاش حتى ينفع الناس علمه *** فلا زال ممتدًّا له العيش والعمرُ
وما الخُلْدُ إلا للذين إذا انتهــــــت *** حياتهم بالخير دام بها الذكــــــرُ
وقد فسَّر مجاهد قول الله حكاية عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} [مريم: 31]؛ أي: نافعًا للناس.
شدني كلام نفيس لابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي؛ إذ يقول: “وقد دلَّ العقل، والنقل، والفطرة، وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومِلَلِها ونِحَلها على أن التقرب إلى رب العالمين، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استُجلبت نِعَمُ الله تعالى، واستُدْفعت نِقَمُه بمثل طاعته، والإحسان إلى خلقه”.
إن كل واحد في كل يوم يقوم الصباح من النوم عليه ثلاثمائة وستون صدقة مقابل ثلاثمائة وستين مفصل من مفاصله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بقوله: «كل سُلامَى من الناس عليه صدقة»؛ فكل معروف تقدمه صدقة حتى الابتسامة، ولك أن تعلم أن من أسباب خيرية هذه الأمة على ما سواها من الأمم أنها أنفع الأمم لغيرها؛ فإن هذه الأمة تنفع غيرها بأشياء كثيرة، على رأسها هدايةُ الأمم الأخرى إلى الإسلام، ومن أعظم العبادات المتعدية نفعًا إن لم تكن أعظمها على الإطلاق تعليم الناس علم الدين والشريعة، فمن علِم علمًا، كان له أجر مَن عمِل به لا ينقص من أجر العامل، وفي الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه، ومعلم الناس الخير كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فقبِلت الماء، وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأهل السماوات وأهل الأرض يستغفرون لمعلم الناس الخير»، وألهم الله تعالى أنواعَ الحيوان الكبير والصغير، من النملة إلى الحوت الاستغفارَ للعالم فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرَضين، حتى النملة في جُحرها، وحتى الحوت، لَيصلون على معلم الناس الخير».
وقد فقِه هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية، فرغم كثرة مؤلفاته؛ إذ يعد من أكثر المصنفين في تاريخنا الإسلامي – فإنه كان أيضًا آية في خدمة الناس ونفعهم، حتى قال عنه ابن القيم: “كان شيخ الإسلام يسعى سعيًا شديدًا لقضاء حوائج الناس”.
ولك أن تقرأ حديثًا عظيمًا يأخذ بلُبِّك؛ فعند الطبراني جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: «أحب الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجة، أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرًا»، وتطبيقًا عمليًّا لهذا الحديث؛ فقد رُويَ أن ابن عباس رضي الله عنه كان معتكفًا في المسجد النبوي، فجاءه رجل يستعين به على حاجة له، فخرج معه، فقالوا له: كيف تخرج من المعتكف؟ فقال: “لأن أخرج في حاجة أخي خير لي من أن أعتكف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا”.
وسُئل الإمام مالك: “أي الأعمال تحب؟ فقال: إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أفرج كربات المسلمين”.
فإذا أردت الوصول إلى مرتبة أهل الفلاح، فليكن همُّك نفع الخلق، حتى ولو بالكلمة الطيبة، فكِّر في نصحهم وهدايتهم، وإغاثتهم وإنقاذهم، واعلم أن مردَّ كل همٍّ نافع إلى هذه الهموم الثلاثة؛ وهي أصل الفلاح لمن تدبر وتأمل.
__________________________________________________
الكاتب: عامر الخميسي
Source link