أقف وإياكم بعض الوقفات مع بعض الآيات من سورة النحل؛ هذه السورة العجيبة تضمنت أغلب معاني آياتها معنًى جوهريًّا، وهو نِعَمُ الله العظيمة علينا، وكيف نستشعرها، وكيف نحافظ عليها، وخطر المعاصي عليها…
فأقف وإياكم بعض الوقفات مع بعض الآيات من سورة النحل؛ هذه السورة العجيبة تضمنت أغلب معاني آياتها معنًى جوهريًّا، وهو نِعَمُ الله العظيمة علينا، وكيف نستشعرها، وكيف نحافظ عليها، وخطر المعاصي عليها، ولعلنا نقف مع بعض تلك الآيات، ولعلكم تعيدون قراءتها بتمعُّنٍ واستحضار لتلك المعاني السامية في آياتها العظيمة؛ لتجدوا تلك المعاني السامية، وتدركوها بقلوبكم قبل أسماعكم وأبصاركم.
بدأت هذه السورة باستعراض نِعَمِ الله تعالى؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، ثم تطرق لنعمته علينا بخلق الأنعام التي هي مصدر الأكل والدفء، والْمَرْكب والجمال، وتحمل أثقالكم في السفر إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وهذا من رحمته ورأفته بنا جل وعلا، وبين نعمة الخيل والبغال والحمير في ركوبها، وكونها زينة ومالًا محترمًا إلى عهد قريب، ثم قال: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]؛ أي: ويخلق لكم من وسائل الركوب ما لا علم لكم بها، وهو ما نراه في زماننا الحديث من وسائل النقل جوًّا وبرًّا وبحرًا، ولولا فضلُ الله على خلقه بتيسير العلم لهم، لَما وصلوا إلى هذا الحد في الرقي والحضارة؛ {عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].
ثم بيَّن سبحانه فضله على خلقه بإنزال المطر الذي هو مصدر الشراب والزراعة والرِّيِّ، وكيف أنه سبحانه أنبت لنا الزرع والزيتون، والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات، وما ذرأ وخلق في الأرض مختلفًا ألوانه من دواب وثمار ومعادن، هي آيات وعِظات، لقوم يذكرون.
ذكَّرنا سبحانه بتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والأنهار والسبل، لأجلك أيها الإنسان، في حياتك ومعيشتك، ورزقك وسفرك؛ كي تهتدي بها، فهي آيات لقوم يعقلون.
ذكَّرنا سبحانه بالبحر؛ هذا المخلوق العظيم العجيب، وما يحويه من نِعَمٍ عظيمة؛ فهو مصدر للرزق باستخراج اللحم الطري الشهي، والزينة كاللؤلؤ والمرجان، وهو نعمة لنا في شق السفن والبواخر عُباب هذه البحار والمحيطات، تذهب وتجيء محمَّلة بالناس والعدد والنعائم، لتنقل لنا ملايين الأطنان التي تعجز عن نقلها بقية وسائل النقل في البر والجو.
ثم قال الله بعد هذه الآيات:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، مهما حاولتم حصر نعم الله، فلن تستطيعوا؛ لكثرتها وتنوعها في أنفسكم، وفي حياتكم، وعلى هذه الأرض من حولكم، وختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]؛ غفور لكم، رحيم بكم؛ حيث يتجاوز عن تقصيركم في شكرها، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ومعصيتكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة.
ثم تطرقت الآيات إلى خطر الشرك وإضلال الناس، وتحمُّل أوزارهم يوم القيامة، وأن ذلك سبب لزوال النعم، وحلول العذاب والنقم، وأن مصيرهم جهنم، فلبئس مثوى المتكبرين.
إذا كنت في نعمة فارْعَهـــــــا ** فإن الذنوبَ تُزيل النِّعَـــم
وحُطْها بطاعة رب العبـــــــاد ** فربُّ العباد سريع النِّقـــم
وإياك والظلمَ مهما استطعت ** فظُلمُ العباد شديد الوَخَم
ثم بيَّن الله حال عباده المتقين الذين أحسنوا في هذه الحياة، بأن لهم الجنات، ولنعم دار المتقين، الذين صبروا في هذه الحياة، وعلى ربهم يتوكلون.
ثم قال جل شأنه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]؛ الصحة، والهداية، والرزق كلها من الله، فإذا نزل البلاء والسقم والقحط، لجأنا جميعًا إلى الله، فهو من يكشف البلوى، ويسمع الشكوى، ويجيب دعوة المضطرين سبحانه.
لكن المصيبة عند بعض البشر أنه يجحد نعمة الله، إذا انكشفت الغمة، {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 54، 55]، يجحدون نعمة الله عليهم يومَ أن كشف الضر والبلاء عنهم، لكن تمتعوا بدنياكم والْهُووا بنعم الله عليكم؛ فإن مصيرها إلى الزوال، وسوف تعلمون عاقبة كفركم وطغيانكم وعصيانكم.
ثم بيَّن سبحانه نعمته على الناس بِحِلْمِهِ عليهم، وعدم مؤاخذتهم، وأنه يُمْهِل الناس، ولا يؤاخذهم بظلمهم، لكنه سيجازيهم بأفعالهم يوم القيامة؛ فقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]؛ أي: لأهلكهم على بَكْرَةِ أبيهم، لكنه يُبقيهم ويؤخرهم إلى الأجل المعلوم للحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ثم فصَّل سبحانه نعمة الأنعام، وأنه يُسقينا مما في بطونها ذلك اللبنَ الخالص اللذيذ السائغ للشرب، وكيف أخرجه من بين الفَرْثِ والدم، ليكون ناصعَ البياض، غذاءً للناس.
وبيَّن نعمته على الناس بأن أَوْحَى للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا، ومما يبنيه الناس لها لتنتج لهم الغذاء والدواء؛ {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69].
ومن نعم الله علينا أن الله خلقنا ثم يتوفانا، فالإنسان عندما يبلغ مرحلة عمرية معينة، ويُرَدُّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم شيئًا، يصبح عالة على الناس؛ بسبب ضعفه ونسيانه، فيصبح الموت نعمة من الله عليه؛ حتى لا تزيد آلامه وأحزانه، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70].
وفي آية أخرى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]؛ فمنكم الغني، ومنكم الفقير، وقد يكون غنيًّا، لكنه محروم من العافية أو الأبناء أو راحة البال، وقد يكون فقيرًا محرومًا من المال، لكنه معافى البدن، مرزوق بالعيال وراحة البال، وكلٌّ في هذه الدنيا يسعى لرزقه الذي قدَّره الله، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها.
ثم بيَّن الله تعالى لنا نعمة الزواج وأثره في راحة النفس، وحصول الأبناء والأحفاد، وما جعل بينهم من مودة ورحمة.
ثم قال بعدها: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، ولعلي أستحضر مع خاتمة هذه الآية ما نراه في واقعنا اليوم من تفكك أسري، وكثرة الطلاق والخلع، وما يصحب ذلك من ضياع الأبناء والبنات، كيف بدَّل البعض نعمة الله – وهي الزواج والسكن، والرحمة والمودة – جحودًا، واستسلم لأهل الباطل والأهواء الذين ضيَّعوا عليهم دينهم وأخلاقهم، ولا سيما في جانب النساء بطلب الخلع والطلاق لأسباب تافهة، والله المستعان.
ذكر سبحانه بعدها بآيات نعمةَ الله علينا بالعقل والإدراك والعلم، بعد أن أخْرَجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، فجعل لنا السمع والأبصار والقلوب؛ لنعِيَ ونتعلم ونعمر الدنيا، ولكي نشكره سبحانه على هذه النِّعَمِ.
ذكر سبحانه نعمة السكن في البيوت، وما تهيأ فيها من الفُرُش والأثاث من أصواف الأنعام، وجلودها، ووبرها، وشعرها، وجعل لكم ملابس من القطن والصوف وغيرها، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد، وسرابيل من الحديد تقيكم الطعن والأذى، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].
ثم قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]، وكفران النعم وجحودها ومعصية الله بها من أعظم أسباب الكفران.
ذكر سبحانه أن متاع الدنيا فانٍ، وما عند الله يبقى؛ فقال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]؛ فحُطام الدنيا وأموالها لا تساوي ما عند الله من النعيم المقيم في الآخرة؛ ولذا من حُرِمَ في الدنيا من متاعها، فصَبَرَ، فالجزاء العظيم في الآخرة، و {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] براحة البال في الدنيا، والرضا بقضاء الله، ويوم القيامة يجزيهم ربهم أحسن الجزاء والنعيم.
ففي أواخر هذه السورة العظيمة سورة النحل ضرب الله لنا مثلًا عظيمًا مخيفًا؛ فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]؛ والقرية تعبير عن المكان والجماعة، أنعم الله عليها بالأمن والطمأنينة، والرزق الرغيد الذي لم تتعب فيه، بل يأتيها هنيئًا سهلًا من كل جهة، فماذا صنع أهلها: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]؛ لم تكفر بالله، وإنما جحدوا نعم الله عليهم بالذنوب والمعاصي والمنكرات، والإسراف والتبذير والبذخ، وحرمان الفقراء والمساكين من حقوقهم من الزكاة والصدقة، ولم يشكروه بالطاعة والإنفاق في وجوه البر والإحسان، فماذا كانت العاقبة؟ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] بما صنعوه من كُفْرٍ بالنعمة، لم يَبْتَلِهم الله بالجوع فقط، بل بالجوع والخوف كما هو حاصل في بعض بُلدان العالم، التي كانت في نِعَمٍ وبذخ، فأصبحوا مشردين فقراء جائعين، نسأل الله العفو والعافية.
ثم قال بعدها: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]؛ كلوا الحلال الطيب، وابتعدوا عن الحرام الخبيث، واعترفوا بنعم الله عليكم، واشكروه قولا وعملًا، إن كنتم حقًّا منقادين لأوامر الله، سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له، واحذروا مما تصفه ألسنتكم بالحلال والحرام، دون الرجوع للكتاب والسنة؛ لتفتروا على الله الكذب، كمن يُفْتي بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما حلَّل الله تبعًا لهواه دون دليل صحيح؛ فهؤلاء المفترون لا يفلحون يوم القيامة.
ثم ختم الله تعالى السورة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
جعلني الله وإياكم منهم أجمعين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
_______________________________________________
الكاتب: متعب بن علي الأسمري
Source link