في صلاح القلب صلاح الجسد كله بشقيه المادي والروحي، ويفسد الجسد بفساد القلب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
لكل من يريد أن يعود بعد ضياع، ولكل من يريد أن لا يفوته الأوان، وأن لا يتجاوزه القطار، ولكل من يبحث عن السعادة المفقودة، ويريد أن يضع قدمه على أول طريق الهداية بعد رحلة طويلة وشاقة في الضياع بالابتعاد عن طريق الله تعالى، نقول له: (اعتن بقلبك أولًا).
ففي صلاح القلب صلاح الجسد كله بشقيه المادي والروحي، ويفسد الجسد بفساد القلب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[1]، وهذه المضغة العضلية هي مركز العقل والوعي والإدراك والفقه والبصيرة، وهي منبع الرحمة الإنسانية، وهي الموجه الأساس لبقية الجوارح؛ يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وفي القلب قوتان، هما اللتان تديران دفة قيادة الجسد، وتحركان جوارحه، هما قوة العلم والتمييز التي بها يعرف الأشياء على وجهها الصحيح نافعها وضارها، حقها وباطلها، والقوة الثانية هي قوة الإرادة والحب التي بها، وعن طريقها يقرر أين يكون توجه جوارح جسده؛ يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (فلما كان في القلب قوتان قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق، ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل.
وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق، ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه)[2].
والقلب هو محل نظر الله تعالى من البشر، وعلى ضوء ما فيه من خير أو شر سيؤجر الإنسان أو يؤثم، ثم سينجو أو يهلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [3].
ولهذا كان أصل قبول الأعمال هي النوايا، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: « «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» »[4].
ومن جميل القصص التي تؤيد أن البعض ربما جاؤوا بأفعال يظن الناظر لها على أنها من أفعال الخير، وهي ليست كذلك، أن صيادًا كان يصيد الحمام في يوم مُغبر، فكان يمسك بالحمامة ويكسر جناحها، ويضعها في كيس، ومن شدة الغبار كانت عينا الصياد تفيض بالدمع أثناء ما كان يجمع الحمام، فقالت حمامة مكسورة الجناح من داخل الكيس لصاحبتها:
• انظري لهذا الصياد، كم هو رقيق القلب، وطيب النفس، إنه يصيدنا ويبكي علينا!
• قالت لها صديقتها: لا تنظري إلى دموع عينيه، ولكن انظري إلى عمل يده.
والقلب هو محل عرض الفتن، ومكان الاختبار، لذلك فإن التأثير فيه يكون مباشرًا، أما إيجابيًّا أو سلبيًّا، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها، نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشربَ من هواه»[5]، والمرباد هو المتكدر مع اسوداده، والقلب المجخِّي هو المنكوس، وذكر القرآن الكريم أنواعًا كثيرة من القلوب التي تتفرع من هذين النوعين:
فالقلب الأبيض الذي مثل الصفا (وهو الحجر الأملس)؛ أي: قلب أبيض ناعم الملمس قوي لا يعلق فيه شيء من الأوساخ، ولا يتأثر بها، ومن أنواعه:
♦ القلب السليم: وهو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، يوم يعرض الناس على خالقهم، وهو سليم من أمراض القلوب المعروفة، كالحسد والحقد والبغض والكبر والنفاق والشرك، فهو متعلق بالله وحده، وهو قلب المؤمنين الموحدين والشاكرين من البشر؛ يقول تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
♦ القلب المطمئن، وهو القلب الذي يداوم على ذكر الله تعالى حتى يصل إلى حالة الاطمئنان، فتجده إذا عثر قال: بسم الله، وإذا عطس قال: الحمد لله، وإذا رأى ما يسره قال: سبحان الله، وإذا رأى ما يزعجه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا خسر شيئًا يحبه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا رأى ظلمًا قال: الله أكبر، وإذا رأى حرمات الله تنتهك قال: لا إله إلا الله؛ يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
♦ القلب المنيب: قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32-33[، والعرب تقول للمُنيب في ثلاثة مواضع:
• المتقدم، ويعني هنا أنه قلب مُقدِمٌ على الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح بشكل متواصل.
• الراجع، وهو الذي يرجع إلى الله تعالى بشكل مستمر وفي كل شؤونه، مرة بعد مرة.
• المطرُ الجود، والحَسنُ من الربيع.
فكأن القلب المنيب كالربيع المزهر الجميل الذي ينزل فيه الغيث من السماء فتزهر الأرض بالأزهار الملونة المتنوعة والأعشاب التي تصلح أن تكون دواءً للعليل.
♦ القلب الرقيق: ورِقَّة القلب واحدة من أسباب أن يكون صاحبه من أهل الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأهل الجنة ثلاثة؛ ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» [6].
أما القلب الأسود المرباد المُجخِّي كالكوز، فمن أنواعه:
♦ القلب المريض: والقلب المريض هو قلب المنافق، الذي يظهر حب الإيمان، وانتماءه له، وفي حقيقته هو مع أعداء الإيمان، فإن هؤلاء هم المنافقون الذين يقول فيهم الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة: 10].
♦ القلب القاسي: وهو قلب الفاسق الذي يستمتع بمخالفة الشريعة وعدم الانصياع لأحكامها؛ قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، وهذا القلب ربما وصل به الحال بسبب طول الأمد وحب الدنيا والملذات؛ حتى يصبح أشد قسوة من الحجارة؛ قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 7].
♦ القلب الزائغ: وهو قلب الذي يريد أن يؤجج الفتن لمصالح شخصية أو فئوية، فيترك النصوص المحكمة القطعية، ويبحث ويجادل في النصوص القرآنية، أو من حديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تحمل أوجه عدة؛ يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
♦ القلب الأغلف: وهو قلب الماكر الكذاب عديم الإيمان، الذي يحاول أن يبرر نكرانه للحقائق الإيمانية العقائدية بحجة أن قلبه عليه (غشاوة) أو (غلاف)، فلا يستطيع أن يفهم ما يُقال (بزعمه)؛ قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، وهم أنفسهم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5 ].
♦ القلب المقفل: وهو قلب الذي لا يتدبر آيات القرآن ولا يقف عند إعجازها الواضح الصريح، فلا يرق لها ولا يتفكر بما فيها من علم وخير؛ يقول تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
♦ القلب المختوم: وهو قلب ميت ميؤوس منه، من كثرة ما عشعش فيه من الكفر والنفاق والشرك والملذات، فليس فيه ذرة من خير يرجى معها إعادة حياته؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [البقرة: 7].
وبعد أن عرفنا أنواع القلوب، فهل تستطيع أن تحدد بجرأة أيًّا منها هو قلبك؟
ثم بعد العلم بأهمية القلب، يجب علينا أن نقوم بتعهُّده ورعايته والاهتمام به على أتم الوجوه وأكملها، فهو منبع الرحمة التي يعطف بها بعضنا على بعض، ونعيش حياتنا بها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة» [7].
ورعاية القلب تأتي أولًا بما يبعث فيه الحياة، وأول شيء يبعث فيه الروح ويجعله قلبًا مطمئنًا منيبًا، هو إيمان مطلق بالله تعالى، فالقلب المؤمن قلب تدب فيه الحياة، ثم بالعلم وأقصد العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، ثم بتعاهد القلب بالقرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين، ثم بالحسنات اللواتي يملأن القلب نورًا.
ونظام الحسنات في الإسلام أرقى وأكمل ما رأينا من الأنظمة على الأطلاق، فإنه يمنح الحسنات حتى على النوايا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل قال: ( «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» )[8].
فإذا استطاع أحدنا أن يتعاهد قلبه بهذه الأشياء، فيصل معه إلى النقاء والانشراح، فإنه سيكون بوصلة جوارح الجسد، يؤشر الصحيح فيرتاح له ويهش، ويؤشر الإثم والشر فيحيك فيه ويتضايق.
[1] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه.
[2] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن قيم الجوزية، ج1، ص24.
[3] صحيح مسلم – كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم ظلم المسلم.
[4] صحيح البخاري– كتاب الإيمان- باب: ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة.
[5] صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً.
[6] صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
[7] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.
[8] صحيح البخاري 6491.
Source link