منذ حوالي ساعة
ومع تتابع الأخبار تألمت بشدة من هول ما يحدث في أرض الأقصى، فالمُصابُ عظيم والخَطب جلل، ولكن قوة إرادتهم وسلامة عقيدتهم شدت من أزر نفسي وتعلمت منهم معنى العقيدة السليمة وقوة الإيمان بالله.
بقلم/ فاطمة الأمير
إن ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من محن وابتلاءات تجعل صدر الناظر إليها ينقبض وفؤاده ينفطر، فمنذ أحداث السودان وزلازل سوريا وتركيا وأفغانستان وباكستان، ثم فيضانات ليبيا التى أدمت قلوبنا، نرى مشاهد تنقطع معها الأنفاس وترتج لها القلوب خوفًا، فكل مقطع يُنشر يُذكرنا بأهوال يوم القيامة، فإذا كانت تلك المقاطع التي شاهدناها فعلت بنا ما فعلت من تأثر ومشاعر مختلطة مابين حزن وخوف، فكيف بمن عايشها فعلاً، يا الله اللهم ارحمنا برحمتك.
ظلت أحوال المسلمين في شتى بقاع الأرض تشغلني بضعة أيام، وزاد انشغالي بما يجري في فلسطين الحبيبة، وما تمر به القدس من محن فتمنيت ودعوت الله أن يمن عليهم بالنصر.
ثم أمسكت بهاتفي فإذا بهتافات وتكبيرات وكأنها أيام عيد، لا أعلم ماذا حدث، ظللت أقلب في هاتفي لعلني أجد خبرًا يفرحني مع كل هؤلاء؛ وإذا بالبشرى تأتي وتبكي أعيننا وقلوبنا فرحًا.
إنه طوفان الأقصى، وإذا بالهتافات تعلو، لقد فعلها أهل فلسطين، لقد فعلها أهل فلسطين، وانقلب الحال في أقل من طرفة عين، وبدأت الانتفاضة وبدأت الموازين تأخذ نصابها الصحيح، جنود من السماء والبر والبحر، أسرى من الأعداء، الله أكبر الله أكبر، وكأن الله أراد استجابة دعائي الذي عانق أبواب السماء في لحظات إجابة، فأرسل عليهم من يقهرهم، وأنزل قوة النصر والثأر في قلوب أهل فلسطين، فكان المشهد مصداقًا لقول الله عز وجل:- {﴿ ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ﴾} [المائدة : ٢٣]
ظللت أبكي وأردد الله أكبر، الله أكبر، فهو والله يوم عيد، ولسان حالي يهتف {﴿ قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ ﴾ } [يونس : ٥٨]
وتتوالى الأحداث التي اندلعت بعد طوفان الأقصى، فلم تدم مشاهد الفرحة طويلاً، بل انقلبت إلى مشاهد مؤلمة بعد إغارة العدو، تمنيت لو أن الله يرسل عليه طيرًا أبابيل تكون جنود الله في الأرض تساعد أهل فلسطين الحبيبة، تمنيت لو اجتمعت قوة الأمة الإسلامية لنصرة أهل غزة؛ ولكن هيهات هيهات فالصمت ساد جميع الأمة، إنه شعور مخزِ ومؤلم والله المستعان.
ومع تتابع الأخبار تألمت بشدة من هول ما يحدث في أرض الأقصى، فالمُصابُ عظيم والخَطب جلل، ولكن قوة إرادتهم وسلامة عقيدتهم شدت من أزر نفسي وتعلمت منهم معنى العقيدة السليمة وقوة الإيمان بالله.
كنت أتألم من كثرة الشهداء أطفال ونساء، شيوخ وشباب، فرائحة المسك أطلت وانتشرت من بين كل منزل وحارة، رائحة المسك زينت سماء غزة؛ فرأيت الفرق بين الشهيد والقتيل، سبحان الله هذا موته إلى الجنة وهذا موته إلى النار، رأيت آباء الشهداء فرحين مستبشرين راضين عن أقدار الله، ورأيت الخوف والفزع في قلوب آباء القتلى، شتان بين هذا وذاك.
المواقف والمشاهد تبكينا، وأكفان بيضاء تلتف حول أطفال أبرياء، الكفن يجمع بين عائلة بأكملها، الطبيب الذي يداوي الجرحي يرى طفله شهيدًا من بين الأرواح التي يحاول مداواتها، طفلة بريئة تنادي أين أمي، طفل استيقظ فزعًا على أصوات القذف مرتعشًا من هول ما يرى، رب أسرة يجلس على أنقاض منزله في صمت، لاحول له ولا قوة يحتسب من فقدهم شهداء، أم ثكلى تنادي على وليدها، زوج يحتضن زوجتة محاولاً مداراة حزنه ووجعه ليخفف عنها، شيخًا يفقد اثنان من أبنائه ورغم هذا يسير بين الناس يلقي بضع كلمات تكون عونًا للجميع على الثبات والله شعرت من جمال كلماته وقوتها كأنه أتى من زمن الصحابة فكان يردد ” هذه أرض جهاد، هذه أرض رباط “، المراسل الذي يتلقى خبر فقد جميع عائلته وكلمته التي اهتزت لها جدران قلبي وهو يقول “تنتقمون من أطفال أبرياء (معلش)”، الكثير والكثير مما نرى من خلف الشاشات، مواقف تزلزل قلوبنا ولكنها تعلمنا دروسًا في معنى العقيدة والثبات وقوة الإيمان والصبر وحسن الظن بالله بأن النصر سيتحقق بمشيئة الله.
ولكن والله أشعر بغصة في القلب، أشعر بقلبي يتألم من شدة العجز عن مساعدة المسلمين في غزة، لا أملك لهم إلا الدعاء بدموع تنهمر تناجي الله أن ينصرهم نصرًا كنصر يوم الأحزاب، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أسرع استدارة الزمان، فهذا هو ما عاناه الرسول ﷺ هو وأصحابه في غزوة الخندق من مكائد اليهود، من حصار وجوع وحرب، فربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان ما حصل له ﷺ مصداقاً لقوله سبحانه: { ﴿ وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ ﴾} [البقرة : ١٥٥]نفس الحصار ونفس الهلاك ونفس الأهوال، سبحان الله ومع ذلك نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، فاللهم نصرًا كنصر يوم الأحزاب، اللهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَاب، وَمُجْرِيَ السَّحَاب، وَهَازِمَ الأَحْزَاب، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِم، فلا تَفتروا عن الدّعاء لهم.
وأكثر ما يؤلمني هو هذا الصمت الرهيب ممن يستطيعون المساعدة، ففي حصار شعب أبي طالب، ورغم الجاهلـية قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ: “يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكـى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَـقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعـةُ الظَّالـمةُ” ونحن ماذا فعلنا!
أعلم أن لو شاء الله أن ينصرهم الآن لفعل سبحانه ولا يعجزه شيء، لكن ما يحدث هناك هو ليصطفي الله منهم شهداء، فلا تفزعوا فكلي يقين أنهم هناك إيمانهم بالله كالجبال الراسيات، فرحين بشهدائهم، راضين بابتلائهم، حامدين الله في السراء والضراء، رافعين راية النصر لآخر رمق بداخلهم، لايهمهم من خذلهم لأنهم يحتمون في كنف الملك القوي الجبار.
وتذكروا كم عانى الرسول ﷺ وأصحابه في مواجهة قريش، ونشر الإسلام في شتى بقاع الأرض، تأملوا قول الله عز وجل: {﴿ أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ ﴾}
[البقرة : ٢١٤]
هذه الآية فيها تثبيت وتسلية ووعد، الله عز وجل يخبرنا أنه لابد أن يُمتحن عباده بالسراء والضراء، وكلما صابر وثابر المؤمن على محنته انقلبت المحنة إلى منحة والمشقة إلى راحة، فأعقب كل ذلك نصرًا على الأعداء، فصبرٌ جميل ونصرٌ قريب عاجلاً غير آجلاً.
تأملوها جيدًا ( ألا إن نصر الله قريب) فلا تجزع ولا تترك الدعاء، نحن الآن على أعتاب مرحلة تتشابك فيها القوى بين الحق والباطل، مرحلة ستكون مليئة بالآلام والمشقة، ولكن إياك أن يتداخل الشك والريبة إلى قلبك فهذا هو ما يريده العدو هو أن يتزعزع إيمانك وثقتك بربك، لهذا كن على يقين وثقة أن نصر الله آت لا محالة، وأن مع العسر يسرا، وأن قوة الصدمات التي تواجهها الأمة ما هي إلا لتزكيتها وتربيتها، هكذا تمضي سنة الله تعالى أن لا يتحقق النصر إلا بالتضحية، فمنذ فجر الإسلام والمسلمون في معركة وصراع مع أهل الكفر وها نحن نرى اليوم ثبات أهل الحق والدفاع عن وطنهم بكل عزة وفخر، نرى أهل فلسطين يدفعون الغالي والنفيس من أرواحهم وممتلكاتهم من أجل انتصار العقيدة وانتشار الدين وعودة الأرض لأصحابها، فإن اصابك شيئًا من اليأس اقرأ في كتاب الله وتتبع آيات النصر؛ فمن لا يحتمي اليوم ويحصن نفسه بآيات الله سيكون فريسة سهلة أن يتزعزع الإيمان في قلبه، ولننظر إلى إخواننا في غزة وهم في تلك المحنة كيف تتعامل قلوبهم مع كم الدمار والابتلاءات، كيف يتفاءل الجميع رغم شدة ما يحدث لهم، إنها آيات الله التي تثبت قلوبهم، إنها الثقة بالله أنهم على الحق، ومن عاش متمسكًا بالحق مدافعًا عن دينه ووطنه كتب له النصر لا محالة، فسلامًا عليكم أهل غزة إن نصر الله قريب.
لقد شعرت أن تلك المحنة قد جعلت الكثير من المسلمين يراجعون أنفسهم ويتقربون إلى الله عز وجل، ويتوبون من أي ذنب أو معصية تكاد تكون حائلاً بينهم وبين استجابة دعائهم لإخوانهم في غزة.
ولنتذكر أن ما يحدث الآن في الأرض فهو بسبب كثرة ذنوبنا يقول الله عز وجل:- {﴿ ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ ﴾} [الروم : ٤١]
أما آن الأوان أن نتوب توبة صادقة من كل ذنب ومعصية! فكيف بأيدينا ترفع بالدعاء نبتغي نصرة إخوتنا ونحن غارقون في المعاصي؟
اللهم إنا نتوب إليك توبة صادقة، اللهم انصر إخواننا في غزة.
تمنيت لو أني الآن أطير إلى الأقصى وأصلي فيه ركعتين، وأشارك كل من هناك مشاعرهم أربت على أكتاف النساء والأمهات الثكالى، احتضن الأطفال وازيل كل تلك الدموع وامحو كل تلك الذكريات المؤلمة.
تمنيت لو أني هناك أحارب معهم حتى ننال الشهادة معًا، فتوضأت وصليت ودعوت في سجودي أن يحفظ الله أهل فلسطين، ويثبت أقدامهم، ويذل عدوهم.
فاطمة الأمير.
Source link