تحسس الجمال في صنعة الرحمن

منذ حوالي ساعة

لقد خلق الله تعالى الأرض والسماء، وخلق فيهما من الجمال ما يعجز الإنسان عن إحصائه، وما يعجز اللسان عن وصفه، وقد أودع الله أسرارَه في الطبيعة؛ بحيث تخرج في أجمل صورة وأبهاها، وهذا الجمال الخلَّاب دليل على وجوده سبحانه وتعالى، وعلى قدرته المتناهية على الخلق والإبداع،

لقد خلق الله تعالى الأرض والسماء، وخلق فيهما من الجمال ما يعجز الإنسان عن إحصائه، وما يعجز اللسان عن وصفه، وقد أودع الله أسرارَه في الطبيعة؛ بحيث تخرج في أجمل صورة وأبهاها، وهذا الجمال الخلَّاب دليل على وجوده سبحانه وتعالى، وعلى قدرته المتناهية على الخلق والإبداع، ولم يخلقِ المولى سبحانه وتعالى هذا الجمالَ اعتباطًا، بل خَلَقَهُ بهدف وعن وقصد وغاية؛ ألا وهي أن يتأمل فيه الناس، ويروا قدرته المتناهية في خلقه، وقد أمَرَنا بالنظر إلى ملكوته حتى نحصِّل هذا الإيمان؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، فهلمَّ بنا نستجيب لكلام ربنا، ونحاول معًا التأمل في خلق الله، ونتحسَّس الجمال فيه؛ فذلك يُبهر الإنسان ويجعله يسلِّم لله، كما أنه يُدخِل البهجة والسعادة في قلوب الناس.

 

وفي الطبيعة الخلَّابة من الجمال ما لا يُحصَى ولا يُعَدُّ، فها هي السماء الصافية تسحِر الأرض ومن عليها بلونها الأزرق السماوي، الذي يكسوها جمالًا وبهاءَ طَلْعَة؛ تعيد بها الابتسامة للكآبى وتمسح دموع الحزانى والمظلومين، فها هي تُعطيهم الأمل بأن ما فوقها ملء بالبِشْرِ والرحمة والخير، وأن خالقها موجود، وأنه يسمع ويرى، وأنه سيُنصفنا ويُغنينا، ويرزقنا ويعطينا؛ قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].

 

والمجرَّات الكونية تدور في أفلاكها بانتظام دون قائد ولا مدير، وتتخللها النجوم اللامعة منتظمة في أبراجها ذات الأشكال الهندسية الرائعة، وكأنها الدُّرُّ المنثور تُزيِّن عنق الكون بجمالها، وفي منتصفها يتربَّع القمر المنير وكأنه سيد النجوم وراعيها؛ قال تعالى:  {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}  [يس: 39].

 

وتشرق عليها كل صباح أشعة الشمس الساطعة، فتلوِّن الكون بأنوارها، وتملأ بسحرها الآفاق، وكأنها تنفُض الغبار الذي خلَّفه الليل من على أحشاء الطبيعة، فتعود جميلة نشِطَة ونظيفة، تملأ بعطر نفحاتها الكونَ، وكأنها الأمُّ للأرض ومن عليها، أتَتْ بحنانها لترعى صغارها وتُذهِب عنهم الأذى؛ قال تعالى:  {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}  [نوح: 16].

 

وحلَّقت فوق السماء أسرابُ الطيور مصطفَّة وكأنها عِقْدٌ رصين، تُمْسِكها قدرة الله في السماء فلا تقع ولا يختل توازنها، وتدور وتنحني وتتباهى بصفوفها الاستعراضية، وكأنها تدرَّبت عليها لشهور وسنين، ولكنها لم تفعل، فهي فطرة الله التي فطرها عليها، فلا تحتاج معها لتدريب ولا تحضير؛ قال تعالى:  {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}  [الملك: 19].

 

وفي أرجاء السماء تتناثر قطع السحاب الأبيض والرمادي، وبينهما درجات من الألوان المتداخلة، وتخرج من بين تُرَّهاتها أسواط من أشعة الشمس، وتتبعثر بين طيَّاتها لآلئ ضوئية، وكل هذا ينسجم مع بعضه ليرسم لوحة فنية جميلة، ثم تهُبُّ الرياح فتدفعها وتسوقها كقطيع هيِّنٍ مطيع لها، وتُرسيها في بلد كتب الله له الرحمة، فتتساقط الأمطار بعد يوم حارٍّ بقطرات الرحمة للخليقة، فترجع الأرض مخضرَّة، وتعيد لها نضارتها وبريقها، وتُسقى الحيوانات والنباتات العطشى ماءَها العذب، فتعود للحياة وفرحتها، ويرقص الكون احتفالًا بقدومها، وفرحًا بما جلبته لهم من خير ربها؛ قال تعالى:  {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}  [الأعراف: 57].

 

وتصبح الأرض بعدها مخضرة يانعة، كَسَتْها الحشائش ثوبًا قشيبًا، وزينتها الأزهار الملونة بألوان الطيف، وأضْفَتْ عليها لمسات الفنان الأخيرة التي يُضيفها للوحته بعد الانتهاء منها، فتُضاعِف من جمالها وتُبْرز محاسنها.

 

والورود تتفتح بألوانها الجميلة وروائحها العطرة وأوراقها الملونة، إن تحسَّستَها بأناملك شعرت وكأنك تلمِس ثوبًا مخمليًّا ناعمًا، فيأخذك سحرها إلى عالم آخر وكأنها نزلت من السماء.

 

والأشجار تتباهى بقِوامها الرفيع، وأوراقها الخضراء ذات التصاميم الرائعة، وبعضها يلتفُّ حول بعض وكأنها تعانق الطبيعة بحبها وحنانها، وتملأ الكون خيرًا بثمارها ذات الألوان الزاهية، والمذاق الحلو؛ قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25 – 32].

 

وترى الجبال شامخة بقِمَمِها العالية تكمل اللوحة الجميلة باختلاف ألوانها، وتباين أحجامها وأطوالها وصخورها، وأحيانًا يغطي الجليد قممها، وكأنه ثوب أبيض زاهٍ كثوب العروس، فيشعر من يراه بالأفراح الْمِلاح، وهي تسير بهدوء وهيبة ووقار كسَيرِ السحاب، وكأنها تُلْهِم البشرية أن بعلوِّ الهمة ومواصلة السير تُكتسب المعالي؛ قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].

 

وتنبثق منها الشلالات التي تنهمر منها أعذبُ المياه، في لوحة فنية طبيعية خلَّابة تخطَف القلوب والأنظار بألوانها الفضية، وخطوطها الْمُنْسَدِلة المتناسقة، تراها قد حفرت طريقها بين الجبال، مبرهنة على قوتها وصمودها، وملهمة للبشرية أن العزم والإصرار هو طريق النجاح والوصول.

 

والأمواج تتلاطم على ضفاف السواحل والمحيطات، وقد شبَّهها الله تعالى بالجبال لأشكالها الهرمية المدبَّبة، ومن يتأملها يجدها تقوم بحركات بهلوانية سريعة وذكية، يصعب على الإنسان حتى إحصاؤها وتداركها، ثم بعد تلك الهندسة الحركية لا تزال تحافظ على جمالها ورقتها؛ قال تعالى:  {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}  [هود: 42].

 

والأنهار تنهمر بمائها العذب الذي تنشر به من خير الله على الإنسان والحيوان، يصاحبها خريرُ المياه الذي يُرخي الأعصاب، ويجعل السامع وكأنه في عالم آخر ملء بالسلام والاسترخاء والطمأنينة، وتجود بالأسماك الشهية والحيوانات المائية المتنوعة، وتهدينا محارُها اللؤلؤَ المكنون من بطونها المتَّسخة، فسبحان من يُخرِج الجميل من القبيح، والحي من الميت! وسبحان من أودع الأسرار في الأنهار لتُتحفنا بكنوزها وجمالها!

 

والحيوانات ينافس بعضها بعضًا في الجمال واتساق الألوان، وإبداع الخِلْقة، ففي الطيور ترى الببغاوات الملونة والطاووس بكبريائه يجرُّ ذيله، والغزلان برقَّتِها وخفَّتها، والفراشات بألوانها الزاهية تتنقل بين الأزهار لتمتص الرحيق، والنمور بألوان جلودها الخلَّابة، والأسود بهيبتها وشراستها، والزرافات بأعناقها الطويلة الشامخة، وثيابها الملونة المرقَّعة، والقطط برقتها وجمالها تأسِر القلوب، والأسماك الملونة بأسرابها الذكية، وغيرها الكثير.

 

وأجمل ما خلق الله من مخلوقات على الأرض هو الإنسان، ذلك المخلوق الذي يُدهِش المتأمل بكل ما فيه؛ فهو آية في الجمال والتصوير، تُرِيك قدرة الصانع وإبداعه، وحسن تدبيره، ومُحيَّاه أجمل ما فيه، تُزيِّنه المقلتان والأنف والفم، وغطَّى رأسه بشعر كثيف، كأنه تاج من اللؤلؤ والمرجان يزيده تميزًا وجمالًا، ومُحيَّا الصغار آية في البراءة والإبداع، وكذا تُرى الوسامة والجمال في وجوه النساء والرجال والولدان، وقد أُمِدَّ كلٌّ منهم بجسم متناسق الأعضاء في أحسن تقويم وأبدعه، يعمل بانتظام كمصنع متكامل يقوم بكل شيء، دون أن يزعج صاحبه أو يطلب عونه؛ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

 

ولا ننسى تحسُّسَ الجمال في آيات القرآن؛ فالمستمع لآياته يلتمس فيها توازنها وتناسقها، وجميل أوزانها وأصواتها ومعانيها، فجمالها آية بيِّنة تُثْبِت إعجاز القرآن، وأنه منزَّل من عند الله تعالى، ولنسمع قول الوليد بن المغيرة عنه كأكبر شهادة له؛ في قوله: “إن له لَحلاوةً، وإن عليه لَطلاوةً، وإن أعلاه لَمُثْمِر، وإن أسفله لَمُغْدِق، وإنه لَيعلو ولا يُعلى عليه، وما يقول هذا بَشَرٌ”[1].

 

ومظاهر الجمال في هذا الكون لا يمكن حصرها، وهي علامة على قدرة الله الفائقة، وحسن صنعته، وحبه للجمال والإبداع؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال» [2]، والله يحبنا أن نرى هذا الجمال ونستشعره؛ لأنه آية على قدرته، ومَجْلَبة لتقوية الإيمان به والتسليم له، فهذا خلق الله الذي أتقن كل شيء صنعًا، فتبارك الله أحسن الخالقين.

 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


[1] تفسير القرطبي، المدثر، 18.

[2] رواه مسلم (91).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *