عند نهاية كل سنة ميلادية يكثر اللغط في مسألة أعياد الكفار، وحكم مشاركتهم فيها أو الإهداء لهم بمناسبتها أو تهنئتهم بها، وذلك لأن الاحتفال برأس السنة الميلادية صار عرفا بشريا في الأرض، تحتفل به كل الأمم الوثنية والكتابية في الجملة إما احتفالا رسميا أو شعبيا..
عند نهاية كل سنة ميلادية يكثر اللغط في مسألة أعياد الكفار، وحكم مشاركتهم فيها أو الإهداء لهم بمناسبتها أو تهنئتهم بها، وذلك لأن الاحتفال برأس السنة الميلادية صار عرفا بشريا في الأرض، تحتفل به كل الأمم الوثنية والكتابية في الجملة إما احتفالا رسميا أو شعبيا، وتبع المسلمون النصارى في الاحتفال به في أغلب الدول الإسلامية؛ ولذا صار الاحتفال برأس السنة شعيرة ظاهرة في البشر هي من أبين الشعائر وأظهرها وأكثرها صخبا في الأرض.
ويمكن تقسيـم من يدعون إلى مشاركة الكفار في أعيادهم إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أهل الأهواء من النخب العلمانية، ومن يقترب منها من التيارات التنويرية، وهؤلاء لا تعنيهم النصوص الشرعية بقدر ما يعنيهم قربهم من الكفار المتغلبين، ورضاهم عنهم، ولسان حالهم: “في كل سنة نُحرج مع الآخر بسبب فتاوى تمنع من الاحتفال برأس السنة، أو تهنئتهم بها، ونتهم بأننا ظلاميون متشددون”.
القسم الثاني: الجهلة من المسلمين الذين يقادون للمشاركة في أعياد الكفار أو التهنئة بها بأقوال من يجيزها ممن أخطأ في هذه المسألة.
القسم الثالث: أصحاب الحرج، وهم ذوو ديانة وخوف من الله تعالى وحرص على الشريعة، ويعلمون الحكم الشرعي في تحريم المشاركة في أعياد الكفار أو تهنئتهم بها، ولكنهم ابتلوا بمخالطة الكفار إما بالهجرة إليهم أو الإقامة الطويلة للعمل أو الدراسة في تمثيل دبلوماسي أو ابتعاث أو نحوه. وكانوا يشاركون في أعياد الكفار من باب المجاملة، وفي نفوسهم حرج منها، ويتلمسون مخارج لها، حتى طالب بعضهم العلماء بإعادة النظر في هذه المسألة والتخفيف فيها لعموم البلوى بها.
وبعضهم حاول أن يفرق بين الأعياد الدينية والدنيوية في الحكم، ويدرج عيد رأس السنة في الدنيوية، وهي خطوة لإباحته. وسمعت مرة داعية سئل في فضائية عن المشاركة في أعياد رأس السنة، فقال: “محرم ولكن الإنسان قد يقع في حرج فالله غفور رحيم، والإنسان يستغفر ويتوب ويكفر بالأعمال الصالحة”. وكأنه يقول شارك فيها لكن امح أثر سيئاتها بحسنات.
وهذا يكشف لنا حجم الإرهاب الغربي، حين يفرض أعياده على العالم بقوة الإعلام، وتسييس الفكر والثقافة، ويجعلها مناسبة يجب على كل البشر الاحتفال بها، ويقوم الليبرالي العربي بمهمة جندي المارينز المخلص لفرض ذلك على المسلمين.
لن أناقش في مقالتي هذه حرمة المشاركة في أعياد الكفار؛ لأنه يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة، ولا الأدلة على ذلك، فيجدها من يريدها في مظانها، ولكنني سأناقش قضيتين:
القضية الأولى: الأعياد غير الدينية.
القضية الثانية: حجة المسلم في عدم المشاركة في أعيادهم.
أما القضية الأولى، فإني قرأت لبعضهم التفريق بين الأعياد الدينية التي لها أصل ديني وشعاراتها دينية كعيد الكريسماس، وبين الأعياد المحدثة التي يظهر من حالها أنها من قبيل العادات لا العبادات كعيد رأس السنة. ويطالب أصحاب هذا الاتجاه بالتخفيف في الأعياد غير الدينية، والتسامح في التهنئة بها ومشاركتهم فيها؛ لرفع الحرج عن المسلمين المقيمين في الغرب.
والجواب عن ذلك من أوجه:
الوجه الأول: أن هذا تصور خطأ في مسألة الأعياد؛ فإن الأعياد عبادات وشعائر سواء كانت أصولها دينية أم كانت من قبيل العادات، فحكمها جميعا التحريم، وإن كان ما له أصل ديني أشد حرمة؛ لما فيه من شعائر تكون عادة أكثر من الأعياد المحدثة، وكلما كان العيد المحرم أكثر شعائر كان تحريمه أشد، كما أن العيد الشرعي كلما كان أكثر شعائر كان أفضل؛ لما فيه من زيادة التعبد؛ ولذا كان عيد الأضحى أفضل العيدين؛ لأنه أكثر في الشعائر من عيد الفطر.
فالعيد شعيرة وعبادة، بغض النظر عن أصله؛ فالمشاركة فيه مشاركة في عبادة كفرية، والتهنئة به تهنئة بشيء من الكفر، وهنا يظهر تناقض من يتساهلون بهذا الأمر من دعاة المسلمين؛ إذ كيف يدعون الكافر إلى الإسلام ثم يهنئونه بشيء من شعائر الكفر؟! وسبب هذا التناقض هو الجهل بحقيقة العيد.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد الأنصار يلعبون في يومي النيروز والمهرجان ويتخذونهما عيدا، لم يستفصل لمن كان هذان العيدان؟ ومن يحتفل بهما؟ وهل أصلهما ديني أم هما من العادات؟ بل بادر عليه الصلاة والسلام إلى منعهما بقوله: «كان لكم يومان تلعبون فيهما، و قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر، و يوم الأضحى» (رواه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم: 2021).
والباء في (بهما) هي باء الترك، والإبدال يقتضي إلغاءهما والاكتفاء بالعيدين الشرعيين؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل.
وفي حديث آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل قوم عيدا» (متفق عليه).
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الاقتضاء(1/501): “هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما أن الله سبحانه لما قال:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [البقرة: 48]، أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، وذلك أن اللام تورث الاختصاص، فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد؛ كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه، كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم. وكذلك أيضا، على هذا: لا ندعهم يشركوننا في عيدنا” اهـ.
الوجه الثاني: أن التساهل في مشاركة الكفار في أعيادهم غير الدينية، يقود إلى التساهل في أعيادهم الدينية، وموافقتهم في شعائرهم الكفرية. هذا من باب التنزل، وإلا فإن كل عيد يتخذه قوم فهو دين لهم.
ولو أن ملاحدة الأرض جعلوا لهم عيدا يجتمعون فيه ويحتفلون؛ لكان ذلك العيد من دينهم، ولو كانوا ينكرون الأديان ويحاربونها؛ فإن إنكار الدين دين، ولن يخلو عبد من دين يدين به، ومنهج ينتهجه، فإن الله تعالى خلق البشر عبيدا، واستنكاف بعضهم من العبودية وإنكارهم لها لا يخرجهم عنها.
الوجه الثالث: أن غالب -إن لم يكن كل- أعياد النصارى لها أصول دينية، بل أصولها دينية وثنية؛ فإن الرومان لما دخلوا النصرانية في عهد قسطنطين دخلوها وهم أقوياء، فأدخل الرومان كثيرا من شعائرهم الوثنية في الدين النصراني، وجاملهم الرهبان في ذلك لقوتهم وقوة قسطنطين، فأبقوا أعياد الرومان ولكنهم ألصقوها بالمسيح عليه السلام، وغيروا أسماءها من الوثنية إلى أسماء تناسب النصرانية.
ولهذا الفعل نظير في تاريخ الإسلام، فإن التتار لما وطئوا بلاد المسلمين ثم دخلوا في الإسلام دخلوه وهم أقوياء، فلم يخضعوا للإسلام بالكامل بل حكموا الياسق بدل الشريعة، ولم يناسبهم مذهب أهل السنة والجماعة لأنه يطالبهم بالانخلاع من دينهم بالكامل، والدخول في كل الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، فانتحلوا المذاهب الباطنية كالإمامية والإسماعلية والنصيرية؛ لأنها تناسبهم، ولا تطالبهم بالانخلاع الكامل من دينهم، بل تمزج شعائرهم بالشعائر الباطنية. وهذا عين ما فعله الرهبان مع الرومان لما تنصروا.
فعيد رأس السنة الميلادية هو في الأصل عيد (البسترينة)، وهو اسم لآلهة القوة عند الرومان واليونان، أو اسم هدية تقدم لها، فلما دخل الرومان في النصرانية، وكانوا يحتفلون بهذا العيد الوثني، نقله الرهبان مجاملة لهم إلى النصرانية، وجعلوه في أول الأمر عيد الختانة، أي بمناسبة ختن المسيح عليه السلام. ولأن النصارى غيروا سنة الرسل في الاختتان بفعل بولس اليهودي لم يكن مناسبا أن يبقى عيد البسترينة عيدًا للختانة، فجعلوه رأس السنة الميلادية.
وحينئذ أصبح القول بالتفريق بين عيدهم الديني وغير الديني لا قيمة له، مع أن الحكم في كليهما واحد وهو تحريم المشاركة فيها أو التهنئة بها.
أما القضية الثانية، وهي حجة المسلم في عدم المشاركة في أعيادهم، ورفع الحرج عنه؛ فإن أقوى حجة يحاجج بها النصارى المسلمين هي أن النصارى يقولون -ويؤيدهم في حجتهم هذه، ويروجها الليبراليون العرب-: “نحن نحتفل معكم بأعيادكم، ونهدي لكم فيها، ونهنئكم بها، وأنتم في أعيادنا لا تفعلون ذلك مما يدل على تعصبكم وتشددكم”.
فيجاب عن ذلك -وهو جواب عام في كل شيء مثله، مثل مصافحة المرأة ونحوها- فيقال: “أنت أيها الغربي تحاكمني إلى دينك وفكرك، سواء كان فكرك دينيا أم علمانيا، فدينك وفكرك لا يمنعانك من مشاركتي في عيدي أو تهنئتي به، وديني يمنعني من ذلك، فأنت تصادر ديني لصالح دينك وفكرك، وهذا إرهاب”.
ولهذا نظائر كثيرة، لا يعترض عليها الغربي منها: لو أن مسلما دعا غربيا على وليمة وضع له فيها لحم جمل، والغربيون لا يعرفون لحم الإبل، ولا يأكلونه لأنه ليس بأرضهم. فأكل الغربي ما قدم له المسلم، ثم زار المسلم الغربي في بلده فقدم له الغربي لحم خنزير، والمسلم لا يعرفه وليس بأرضه، ولكنه محرم عليه. هل يصح أن يقول الغربي: كما أكلت أنا لحم جملك فعليك أن تأكل لحم خنزيري؟ وهل يوافقه مسلم على ذلك ويجامله فيه؟ أو يتهم بالتعصب لأن الغربي أكل عنده لحم الجمل، وهو لم يأكل عند الغربي لحم الخنزير؟! لن يفعل المسلم ذلك، ولن يلومه الغربي في امتناعه عن أكله… لماذا؟!
لأن الغربي هنا يعلم المانع الذي منع المسلم من عدم أكل الخنزير، وهو التحريم الشرعي.
ومسألة الأعياد مثل هذه تماما، لكن لأن الغربي لا يفهم سبب امتناع المسلم عنها يلومه عليها، والمسلم لا يبين للغربي سبب امتناعه عن المشاركة في أعياد الكفار أو تهنئتهم بها، بل يستحي أو يختفي.
وهنا يجب على المسلم أن يبين أن المانع من ذلك هو دينه، بدليل أنه يهدي للغربي في غير العيد ويقبل هديته، ويحضر وليمته في غير العيد ويدعوه إلى وليمته، ويهنئه بمولد جديد أو ترقية في العمل أو نحو ذلك، ولو كان متعصبا ما فعل ذلك مطلقا لا في العيد ولا في غيره.
ولو انتشر الوعي بين الغربيين، وعرفوا سبب امتناع المسلمين عن المشاركة في أعيادهم وتهنئتهم بها؛ لعذرهم الغربيون، وارتفع الحرج عن المسلمين كما في الخمر والخنزير، حتى إن الغربي بسبب وعيه بهما لا يقدم الخمر والخنزير للمسلم، وفي المطاعم إذا طلب المسلم طعاما وفيه شيء من خنزير يخبره عامل المطعم بذلك قبل تقديمه له لعلمه أن دينه يحرم عليه ذلك.
فالمسألة مسألة وعي وتعليم… ولكن المصيبة كل المصيبة أن المتساهلين في مسألة أعياد الكفار يفسدون على المسلمين في الغرب من جهة انتهاكهم لهذى الحمى الشرعي العظيم (حمى الأعياد)، ومن جهة إيجاد حرج عند المسلمين المتمسكين بدينهم في بلاد الغرب، بتساهلهم قولا وعملا في تهنئة الكفار بأعيادهم ومشاركتهم فيها.
ولو فرضنا أن مسألة المشاركة في أعياد الكفار أو تهنئتهم بها محل خلاف -وهي محل إجماع لا شك فيه- لكان من الأليق لهؤلاء المتساهلين، وقد اختاروا الجواز أن يقفوا مع إخوانهم المتحرزين منها، فيخبروا الغربيين أن امتناعهم عن المشاركة في أعياد الكفار والتهنئة بها ليس عن تعصب وتشدد، وإنما هو دين يدينون الله تعالى به، فعلى الغربيين أن يعذروهم في ذلك، ويحترموا خيارهم، ولكنهم يفعلون العكس فينتهكون شريعة الله تعالى بإباحة ما حرم منهـا، ويردون الإجماع، ويحرجون إخوانهم إرضاء للغرب الذي لن يرضى عنهم مهما فعلوا.
Source link