الاستعاذة معناها طلب الوقاية والحماية، والاستعاذة بالله عز وجل أن تسأله أنْ يُحَصِّنَك ويحميك مما تخافه وتحذر منه.
الاستعاذة معناها طلب الوقاية والحماية، والاستعاذة بالله عز وجل أن تسأله أنْ يُحَصِّنَك ويحميك مما تخافه وتحذر منه. قال ابن القيم: “اعلم أن لفظ “عاذ” وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والالتجاء. وحقيقة معناها: الهروب مِنْ شيء تخافه إلى مَن يعصمك منه، ولهذا يُسَمَّى المُستعاذ به “مَعَاذا”.. فمعنى أعوذ: ألتجئ وأعتصم وأتحرز”.
وقد أمرنا الله عز وجل بالاستعاذة به في الكثير من آيات القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]. وقال سبحانه: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الاستعاذة بالله عز وجل في مواطن كثيرة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْز وَالْكَسَل، والْجُبْن وَالْهَرَم، والْبُخْل، وأَعُوذ بِك مِنْ عَذَاب الْقَبْر، وَمِنْ فِتْنَة الْمَحْيَا وَالْمَمَات» (رواه البخاري).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (فَقَدْتُ (لم أجد) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاش فَالْتَمَسْتُه (بحثت عنه)، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْه وهو في الْمَسْجِد – وفي رواية وهو ساجِد – وهما مَنْصُوبَتَان وهو يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» (رواه مسلم).
معنى: (اللَّهمَّ أعوذُ برِضاكَ مِن سخَطِك) أي: ألجأُ وأستجيرُ بما تَرضَى به عنِّي ممَّا تَسخَط وتَغضَب به عليَّ، (وبمُعافاتِك مِن عقوبتِك) أي: أَلْجأُ وأستجير بما تَعفُو به عنَّي ممَّا يَقع به عقوبةٌ منك، (وأعوذُ بكَ منك)، أي: وأَلْجأُ وأستجيرُ بكُلِّ صفةٍ مرغوبٍ فيها مِن صفاتِ الله، مِن كلِّ صفةٍ مرهوبٍ منها مِن صِفاتِ الله، (لا أُحصي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثنَيْتَ على نفْسِك) أي: لا أستطيع أن أُوفِّيَكَ الشُّكر والحمد على نِعَمِك وأَفضالِك، وأنتَ يا ربِّ، كما أثنَيْتَ على نفسِك، وهذا اعترافٌ بالعجزِ عن أداءِ شُكرِ النِّعَم.. وفي هذا الحديث النبوي: بيانُ هَدْيِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم واهتمامُه بالصَّلاة لله عز وجل في جَوفِ اللَّيل. وفيه: إثبات صِفَتَي الرِّضا والسَّخَط لله تعالى، والاستعاذةُ بصِفات الله تعالى، فإنَّ الصِّفَةَ المُستعاذ بها والصِّفَة المُستَعاذ منها صِفتان لموصوفٍ واحدٍ وربٍّ واحد.
قال ابن عبد البر: “وأما قوله في هذا الحديث (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك) فهو في معنى قوله: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِك، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك)”.
وقال العيني: “قوله: (وأعوذ بك منك)، أي: أستعيذ بك مِن عَذَابك، أو ألتجئ أليك مِن سَخَطِك”.
وقال ابن القيم في “طريق الهجرتين”: “فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين، وكأن في استعاذته منه جمْعا لما فصَّله في الجملتين قبله، فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة، وهي كمال التوحيد، وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه: إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم، فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه منه إلا هو، فهو الذي يريد به ما يسوؤه، وهو الذي يريد دفعه عنه، فصار سبحانه مستعاذاً به منه باعتبار الإرادتين: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:107]، فهو الذي يمس بالضر، وهو الذي يكشفه، لا إله إلا هو، فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، والملجأ منه إليه، كما أن الاستعاذة منه، فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه، فهو الذي يحركه ويقلبه ويصرفه كيف يشاء”.
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم“: “قال الخطابي: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله عز وجل، استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه”.
وفي شرح العقيدة الطحاوية: “فتأمل ذِكْر استعاذته بصفة الرضا مِنْ صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول: للصفة، والثاني: لأثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إنْ شئتَ أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته”.
وقال ابن باز: “هذا حديث صحيح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه يجوز بل يُشرع التعَوُّذ بصفات الله مِنْ صفات الله، والتعوذ بالله من الله، فهو يتعوذ برضاه من سخطه: (أعوذ برضاك من سخطك) فهذا من باب التعوذ بالصفة من الصفة، والتعوذ بالعفو من العقوبة.. (أعوذ بك منك) يعني: بقوتك وقدرتك على عذابي وعقوبتي، بعدلك وعفوك وفضلك وإحسانك، فيتوسل من صفات العدل وصفات العقوبة بصفات العفو والإحسان والجود والكرم، وكلها صفات لله جل وعلا”.
فائدة:
ـ قال ابن تيمية: “الاستعاذة والاستجارة والاستغاثة: كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة”. وقد دلَّ القرآن الكريم والسنة النبوية، وإجماع العلماء من السلف والخلف، على دعاء الله عز وجل وحده، وتحريم دعاء غير الله، والتصريح بأن من دعا غير الله، أو استغاث أو استعاذ بغير الله ـ فيما لا يقدر عليه إلا الله ـ، فقد وقع في الشرك، سواء كان هذا المدعو والمستغاث والمُسْتعاذ به نبيًّا من الأنبياء، أو وليًّا من الأولياء، فضلا عن غيرهم.
ـ من عقيدة أهل السنة أن أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى يشتركان في جواز الاستعاذة والحلف بهما، وأنه لا يُستعاذ إلا بالله عز وجل أو بصفة من صفاته.
فيُشرع للعبد أن يستعيذ بأسماء الله وصفاته، والاستعاذة بالأسماء مثل: أعوذ بالله، أعوذ بالعزيز بالسميع، قال الله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]، وقال تعالى عن مريم عليها السلام: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم:18]. والاستعاذة بصفات الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك» (رواه مسلم). وقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (رواه أبو داود وصححه الألباني). قال الصنعاني: ” بصفة الرضا من صفة الغضب، أي ألتجئ إلى هذه من هذه”.
وأما الحلف بأسماء الله: كقول المُقْسِم والحالف: أقسم بالله، أقسم بالعزيز الحكيم. والحلف بالصفة: أقسم بعزة الله، أقسم برحمة الله، فالاستعاذة والحلف جائزان بأسماء الله الحسنى وصفاته العُلى. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله، وإلا فليصمت» (رواه البخاري). قال النووي: “وفي هذا الحديث إباحة الحلف بالله تعالى وصفاته كلها وهذا مُجْمَع عليه، وفيه النهي عن الحلف بغير أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته”. وقال القرطبي في “المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم“: “وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فليحلف بالله» لا يُفهم منه قَصْرُ اليمين الجائزة على الحلف بهذا الاسم فقط، بل حكم جميع أسماء الله تعالى حكم هذا الاسم. فلو قال: والعزيز، والعليم، والقادر، والسميع، والبصير، لكانت يمينًا جائزة، وهذا متفق عليه. وكذلك الحكم في الحلف بصفات الله تعالى، كقوله: وعزة الله، وعلمه، وقدرته، وما أشبه ذلك مما يَتَمَحَّضُ فيه الصفة لله، ولا ينبغي أن يختلف في هذا النوع أنها أيمان كالقسم الأول”.
وقال ابن حجر في “فتح الباري”: “وقال ابن هبيرة في كتاب الإجماع: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته، كعزته، وجلاله، وعلمه، وقوته، وقدرته”. وقال ابن عبد البر في “الاستذكار”: “الحلف بصفات الله تعالى جائز، تجب فيها الكفارة”. وقال ابن تيمية في “مجموع الفتاوى“: “وَالِاسْتِغَاثَةُ بِرَحْمَته اسْتِغَاثَة به في الحقِيقَة، كما أَنَّ الِاسْتِعَاذَة بصفاته استعاذة به في الْحَقِيقَة، وَكَمَا أَنَّ الْقَسَمَ بِصِفَاته قَسَمٌ به في الحَقِيقَة”.
وقد بوَّب البخاري في صحيحه فقال: “باب الحلف بعزة الله، وصفاته، وكلماته”. وقال البيهقي في “السنن الكبرى”: “باب ما جاء في الحلف بصفات الله تعالى: كالعزة، والقدرة، والجلال، والكبرياء، والعظمة، والكلام، والسمع، ونحو ذلك”.
الإيمان والعلم بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العُلى، له الكثير من الآثار الطيبة والثمرات العظيمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، قال العِزُّ بن عبد السلام: “اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالا عليّة، وأقوالا سَنية، وأفعالا رضيّة، ومراتب دنيوية، ودرجات أخروية”. وقال ابن القيم في “طريق الهجرتين وباب السعادتين”: “وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلَمَ، كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر، كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله يُنزل العبدَ من نفسه حيث يُنزله العبدُ من نفسه، فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عَجب، وفتحه عجب، صاحبه قد سِيقَتْ له السعادة وهو مستلقٍ على فراشه غَيرَ تعِب”.
Source link