فمن لم يتألم للشر ولا يفرح للخير إذا رآه، فهو ميت في صورة حي، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “ميت الأحياء من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه”.
العاقل الحصيف الذي يعرف مواضع قوته وضعفه، فيعرف طريق صلاح نفسه وزيادة إيمانه، والإنسان متقلب بين قوة الإيمان وضعفه، فمن كان له من داخله باعث للتوبة إذا ذُكِّر بربه وآياته فليحمد الله.
عباد الله، يمر بقلوبنا حالات يقوى داعي الخير فيها، فيندم الإنسان على عصيانه وتفريطه، ويجل قلبه، ويقشعر بدنه، وتدمع عينه، فيخبت القلب لربه، وتلك حياة القلب، قال الله جل جلاله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
يقول ابن القيم رحمه الله: فبالحياة -أي حياة القلوب– تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح، فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات؛ ا هـ، رحمه الله.
فمن لم يتألم للشر ولا يفرح للخير إذا رآه، فهو ميت في صورة حي، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ميت الأحياء من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه.
عبد الله، قف هنيهةً وتذكَّر موقفًا وجل فيه قلبك، وذرفت عينك، تَذَكَّرْه وعِشْ تفاصيله، ثم سَلْ نفسَك: هل استفدت منه، فتغير حالك وقويت علاقتك بربك، أم أن الأمر غير ذلك!
أخي، كم مرة عزمت فيها على التوبة بعد سماع آيات القرآن وتردد المواعظ على الآذان، أو كم من موقف راجعت فيه حساباتك فعزمت وقررت ثم عدت كما كنت؟! كلنا ذاك الرجل إلا من رحم الله، فكيف نستثمر حياة قلوبنا ولحظة يقظتها؟ لنفوز مع مَنْ فاز، فنؤوب إلى ربنا، ونعود بالنية الصادقة والإصرار والعزيمة على استغلال الفرصة معتمدين بذلك على ربنا تبارك وتعالى، آخذين الأمر بشدة وحرص وقوة {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، فيقظة القلب وحياته هي رسالة الله لك لترجع إليه، وحقيق بدعوة الله أن تُجاب.
لنتذكر حلم الله على العاصين حين عصوه وجهروا بعصيانهم وفاخروا، ثم تذكر نعمة الله عليك حين أحيا قلبك، ورد عليك صواب رأيك، فاشكر الله الذي أحيا قلبك بالاستقامة على صراطه وتتبع رضوانه.
يا أخي، ألا يكفي أن الله يحب منك أن تعود إليه؟! ألا يكفي أن تعلم أن الله يحب منك أن تعود إليه وتتقرب منه فيغفر لك ويدنيك؟! فتكون لله وليًّا، فيحبك الله وينصرك ويؤيدك، وعلى طريق الخير يدلك ويعينك ويثبتك، فيذيقك حلاوة الإيمان، فلا تبغِ عنها بعد ذلك بديلًا.
تأمَّل معي في قصة سحرة فرعون، كانت أغلى أمنياتهم القرب من فرعون ونيل الأعطيات، والقرب من أصحاب الهيئات، فلما رأوا آيات ربهم أطاعوه وعزموا وسجدوا بين يديه، فقَرَّبهم ربُّهم وأدناهم ورضي عنهم وأدخلهم الجنة.
يا أخي، يا من يريد استثمار حياة قلبه، توجَّه إلى ربك، وتضرَّع بين يديه، وسَلْهُ الثبات على الأمر، فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، إذا رأى منك المجاهدة بعد المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
يا باغي صلاح قلبه واستثمار يقظته وحياته الصبر والمصابرة وتكرار المحاولة بعد الإخفاق مرة بعد أخرى، وحذار حذار من اليأس والقنوط من التوبة وتصحيح المسار، فهي بغية الشيطان أن يقنطك من رحمة الله جَلَّ وعلا.
وأضع بين مسامعك وملء فؤادك حديث أبي هريرة الذي فيه بلسم كل من حاول ثم رجع ثم حاول ثم رجع، فصلى الله على رسول الله الذي لم يترك شيئًا إلا دَلَّنا عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَن ربِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا، فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ -لاحظ حفاوة ربك حين تؤوب إليه- قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ».
التوبة وظيفة العمر وربنا ما سمى نفسه توَّابًا رحيمًا إلا لأنه كثير التوبة والمغفرة، يتجاوز عن عباده، ويقبل توبتهم؛ بل ويفرح بها، فلا تمل من قرع باب السماء، واستغفر ربك، واطلب رحمته، واسأله عونه سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
يا باغي صلاح قلبه وحياته، عليك بكتاب ربك قراءةً وتدبرًا وعملًا، يا أيها المؤمنون، ما لنا عن كتاب الله معرضون؟! {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
أقبل على كتاب ربك قراءةً وتدبرًا وعملًا، استمع لمواعظه وهداياته، وسمِّع نفسك المواعظ، واحرص على مجالس الذكر في بيوت الله أو ما تيسَّر من وسائل التواصل، فالمواعظ سياط القلوب، هي التي تذكر العبد وترجعه إلى ربِّه، وتعرف على نفسك، فكل واحد منا له باب يصلح قلبه فاطرقه، إن كان تلاوة فافعل، وإن كان سماعًا لآيات القرآن من قارئ تحب سماع قراءته فافعل، المهم أن ينصلح حال قلبك.
تعرف على نفسك وانظر فيما يؤثر فيها فالزمه، واعلم أن فائدة سماع المواعظ العمل بها؛ لأنها المثبتة بعد الله جل وعلا، قال الله جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 – 68].
وقال الله جل جلاله في أوصاف أهل الإيمان- سلك الله بي وبكم سبيلهم-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
يا أخي، أهمس في أُذُنك: استثمر في قلبك، كلما رأيت في قلبك حياةً ترجم هذه الحياة بعبادة لم تكن تفعلها وداوم عليها، حتى إذا سألتك نفسك: ماذا استفدت من خطبة الجمعة من سماع آيات القرآن، تقول: استحدثت عبادة ما كنت أفعلها.
قرر أي عبادة كانت، إن كانت حزبًا من كتاب الله جل وعلا ولو وجهًا واحدًا وحافظ عليه تكن استثمرت حياة قلبك، أو استغفارًا أو صلاة على المصطفى عليه الصلاة والسلام، المهم أن تداوم عليها، فخيرُ الأعمال وأحَبُّها إلى الله أدومُها وإنْ قلَّ.
واحرص على خبيئة من عمل صالح، عمل بينك وبين الله جل وعلا، لا يطَّلِع عليه أحد، قال عليه الصلاة والسلام: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ» ، والمداومة هي سبيل الصالحين، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يوصيه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل» فما ترك قيام الليل حتى مات.
يا مريد صلاح قلبه واستثمار حياته، أتقن عبادتك وأدِّها كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن الوقوف بين يدي الله، واسأله الهداية والثبات، فكل خير من الله جل جلاله.
يا مريد صلاح قلبه وما أحضركم إلى بيت الله إلا أنكم تريدون صلاح قلوبكم، أركان الفلاح في سورة العصر، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 – 3].
الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، فالبيئة البيئة والجليس الجليس، لها بالغ الأثر على ثبات العبد على الصراط المستقيم، هذا أمر مفصلي يجب أن تتخذ فيه القرارات الحاسمة الصارمة، الذي لا يقربك إلى الله لا تفرح بمجالسته، فالصحابة الكرام حين عجزوا عن إقامة الإسلام في مكة هاجروا إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة مرة أخرى؛ بل نبيك صلى الله عليه وسلم غادر مكة أحبَّ البقاع إليه؛ طلبًا لإقامة الدين في المدينة.
الجليس له بالغ الأثر على جليسه، ففتش في جلسائك، فتش فيمن تجالس وتخالط، تعرف نفسك واهتماماتك، وكلكم يعرف قصة من قتل تسعة وتسعين نفسًا، سأل راهبًا: أله توبة؟ قال: لا، فأكمل به المائة، ثم سأل عالمًا فأرشده العالم، قال: انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء.
يا أخي، أريدك أن تعيش معي هذه اللحظات الحاسمة لتعلم خطر الجليس، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟! فلم يزل رسولنا صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على مِلَّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك» ، فنهى النبي عن الاستغفار له.
يا الله خسر الآخرة وصحبة ابن أخيه! يا للجليس من أثر على مجالسه! يا أخي، تأمل في جليسك، في أسرتك وزميلك، في عملك وصاحبك، في حياتك وحتى جهاز جوَّالك، من تتابعهم عبر وسائل التواصل، كل أولئك لهم أثر عليك، فمن جالس من يُقرِّبه إلى ربِّه ويُرغِّبه فيما عنده صلح حاله وقرب من ربه، والعكس بالعكس.
بالله عليك من تتابعه في وسائل التواصل ما حاله؟ أولئك جلساؤك فقرب إلى نفسك من يقربك إلى ربك، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك.
وتذكر وهي شبهة يلقيها الشيطان على من أراد ترك رفقة السوء، تذكر يا من خفت من ترك جلسائك أن في الله جل وعلا عوضًا عن كل مفقود.
يا مريد صلاح قلبه، البيئة الصالحة نعمة وأي نعمة، إن وجدتها فالزمها، وإن لم تجدها فابحث عنها في مسجدك وعملك، أو في أي بيئة كانت، إن لم تجدها فابحث عن الصحبة الصالحة في البيئات الافتراضية في وسائل التواصل فيمن تتابع عبر وسائل التواصل في مجموعات تدلك على الخير، وابتعد كل البعد عن كل مجموعة لا تقربك إلى ربك تبارك وتعالى.
غيِّر جلساءك بالقراءة في سير السلف الصالح رحمهم الله، يا من أراد حفز همته لعمل صالح، أكثِر القراءة في فضائله، فيا من أراد صلاة الفجر في جماعة، ينبغي عليك أن تقرأ في فضل صلاة الفجر، وأدم القراءة فيها، يا من قصَّر في الذكر بعد الصلاة، اقرأ في فضائل الذكر بعد الصلاة مرةً بعد أخرى، يا من فرَّط في صلة الأرحام، اقرأ في فضل صلة الأرحام، يا من فرط في كلام الله جل وعلا، يلزمك أن تقرأ في فضل قراءة القرآن مرةً بعد أخرى حتى تحب ذلك العمل.
وإذا أردت أن تعرف خطورة الجليس فاسمع قصة عقبة بن أبي معيط، كان من عادته إذا قدم من سفر يصنع طعامًا، فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم ذات يوم من سفر، فصنع طعامًا، فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرب الطعام، قال رسول الله: «ما أنا بآكلٍ طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله».
فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه، وكان عقبة صديقًا لأُبَيِّ بن خلف، فلما أخبر أبيّ بن خلف قال له: يا عقبة صبأتَ؟ قال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه، فكانت نهاية عقبة أن قُتل يوم بدر، وفي عقبة وأبي يوم أحد نزل قول الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29].
تنبَّه ولنتنبه جميعًا قبل أن نقول كما قالوا.
اللهم أعنا على ما يرضيك، واغفر لنا يا رحمن يا رحيم.
_________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
Source link