على الرغم من أن محكمة العدل الدولية لا تمتلك أدوات تنفيذية لتنفيذ مقرراتها عمليا، إلا أن قراراتها ذات أهمية كبيرة ليس على الصعيد القانوني فقط، بل أيضا على الصعيد الأخلاقي السياسي؛ لأنه يضفي موقفا أخلاقيا قانونيا على فعل ما، أو ينزع عنه هاتين الصفتين، وهذا أمر مهم خصوصا في الدول الديمقراطية ـ الليبرالية – حيث المعايير الإنسانية مثل حقوق الإنسان والحريات والعنف والقتل تلعب دورا هاما في رسم السياسات.
ومن هنا، فإن قرار المحكمة – في حال اتخذ – بأن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة له أهمية كبرى؛ لأنه يلحق ضررا بسمعة جيش الاحتلال عالميا كما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية؛ ولأنه سيفتح الباب أمام المحكمة الجنائية الدولية للنظر في اتخاذ خطوات ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين.
كما أن أهمية القرار لا تقتصر على وقف هذه الإبادة فحسب، بل الأهم أنه يثبت قانونيا أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، ما يعني إعادة فتح ملف السلوك الإسرائيلي تجاه مجمل فلسطين أمام المجتمع الدولي.
وقد يشكل قرار المحكمة في حال أثبت الإبادة الجماعية قاعدة لفرض عقوبات على إسرائيل وعلى شركات إسرائيلية.
هل علينا التذكير بالرأي الاستشاري الذي أصدرته المحكمة عام 2004 بشأن الجدار الذي بنته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، إذ قامت العديد من الدول والشركات بتقييد تجارتها بمواد البناء مع إسرائيل بعد أن قررت العدل الدولية أن الجدار غير قانوني؟.
وفي حال رفضت المحكمة اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، فإنها على الأقل ستطالب بوقف فوري للحرب وبإدخال المساعدات، وفي هذه الحالة ثمة اعتراف قانوني بأن إسرائيل انتهكت القوانين الدولية، وهذا أمر له أهميته في المحاكم الدولية بخلاف مجلس الأمن؛ حيث الاعتبارات السياسية هي الحاكمة.
ليس معروفا إلى الآن في أي مسار ستذهب المحكمة الدولية في ظل الضغوط الغربية، خصوصا الأمريكية عليها لمنعها من اتهام إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية من جهة، وفي ظل ضغط مجموعة كبيرة من الدول التي تضغط باتجاه إدانة إسرائيل من جهة أخرى.
المسألة عمليا تتعلق بما إذا كانت المحكمة ستكتفي بتحديد ما إذا كان هناك خطر حصول ضرر لا يمكن تعويضه للحقوق الواردة في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ولا سيما حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال تهدد وجودهم كمجموعة.
وبحسب خبراء قانونيين، لن تصدر المحكمة قرارا نهائيا بشأن اتهامات الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب أفريقيا إلى إسرائيل حتى يتم عقد جلسة للبحث في القضية بشكل كامل على أساس موضوعي وهو أمر من المرجح أن يستغرق سنوات.
في البداية سيتم التداول فقط بشأن ما إذا كان يمكن منح موافقة على اتخاذ التدابير الطارئة وغالبا يعلن قضاة محكمة العدل الدولية مثل هذه التدابير، والتي تتكون عموما من مطالبة دولة بالامتناع عن أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع القانوني.
في الملف المكون من 84 صفحة، تقول جنوب إفريقيا: إن قتل إسرائيل للفلسطينيين في غزة والتسبب في أذى نفسي وجسدي جسيم لهم وتهيئة ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديا، يعد إبادة جماعية لهم.
كما أن إسرائيل تتقاعس عن توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة خلال الحرب الدائرة مع حركة حماس منذ ثلاثة أشهر، فضلا عن حملة القصف المستمرة التي دمرت جزءا كبيرا من القطاع، وأجبرت حوالي 1.9 مليون فلسطيني على النزوح، وأسفرت عن مقتل أكثر من 23 ألف شخص -حتى كتابة هاذ المقال – وفقا لمسؤولي قطاع الصحة في غزة.
في المقابل، ترفض إسرائيل هذه التهم، متذرعة بأن حربها هي دفاع عن النفس بعد الهجوم الذي نفذته “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي، كما أن إسرائيل لن تكتفي بذلك، بل تحاول نزع الاختصاص من المحكمة في هذه المسألة متذرعة بأن جنوب إفريقيا ليست طرفا في الصراع.
هذه المسألة أدركتها جنوب إفريقيا، ولذلك قدمت طلبها إلى محكمة العدل الدولية بناء على اعتبارين:
الأول، أن المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية تخول محكمة العدل الدولية حل النزاعات، كما حدث عام 2020 حين أصدرت المحكمة قرارا بوقف العدوان في قضية الإبادة الجماعية للروهينغا، وعام 2022 في قضية العدوان الروسي على أوكرانيا.
الثاني، أن إسرائيل وقعت على ميثاق منع إبادة شعب، وعلى هذا التوقيع يتم إجراء هذه المحاكمة.
مهما يكن القرار الذي ستتخذه المحكمة، إدانة إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية أم لا، أو إصدار تدابير مؤقتة مثل مطالبة إسرائيل العمل حسب قوانين الحرب، وضمان إدخال المساعدات الإنسانية، والتحقيق في التصريحات الشاذة لبعض مسؤوليها، فإن رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل خطوة مهمة على مستوى الرأي العام الدولي، لا سيما في ظل استياء شعبي غربي من السلوك الحربي الإسرائيلي.
_________________________________________
- الكاتب: حسين عبد العزيز(المركز الفلسطيني للإعلام)
Source link