“لقد شكلت القضية الفلسطينية حاجزاً صلباً حمى وحفظ شعوب المنطقة من الذوبان في الحضارة الغربية، وعندما رأت الغرب يبذل المال والسلاح ليقيم الكيان الصهيوني، أدركت أنه العدو التاريخي وأنه النقيض الحضاري، فأصبح الانتماء إلى الذات الحضارية يقود بالضرورة إلى رفض التغريب”.
يقول سبحانه في مطلع سورة الإسراء : ( {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ). ( [الإسراء:1] ).
هذه الرحلة الأرضية انطلقت من مسجد إلى مسجد، والتسمية للمسجدين هي تسمية ربانية، ما يعني وجود تطابق بين الاسم والمسمى، وأن هذا الاسم هو في الحقيقة صفة وخاصية للمسمى. المسجد الحرام، يحرم فيه القتال، وهو حرم آمن من زاوية التشريع ومن زاوية الموقع، فالناس من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام التزموا غالباً، برعاية حرمة هذا المسجد، حتى كان الواحد منهم يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يمسه بأذى ولا يذعره. ومن جهة أخرى فإن الله تعالى قد جعل هذا المسجد في شبه الجزيرة العربية، في منطقة لم تكن عبر التاريخ هدفاً للغزاة، ولا مطمعاً للمستعمرين.
هذا بالنسبة للمسجد الحرام، أما المسجد الأقصى، فاللافت أنه لم يُجعل حرماً كالمسجد الحرام في مكة التي حرمها إبراهيم عليه السلام، ولا كالمسجد النبوي في المدينة التي حرمها محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك يؤكد العلماء أنه لا يصح وصف المسجد الأقصى بأنه (حرم)، كأن يقال: إنه( ثالث الحرمين)، أو يطلق عليه اسم( الحرم القدسي)، فضلاً عن أن واقع المسجد الأقصى وتاريخه، يؤكدان أنه ليس بحرم. وهذا يعيدنا إلى ما بدأنا به من العلاقة بين اسم المسجد وحاله، ولماذا تسميته بالمسجد الأقصى؟! ربما يساعدنا في تقريب الصورة قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ” «عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» “.
الذئب المقصود هنا هو الشيطان، الذي يتفرد بالقاصي البعيد عن حماية، كما يستغل الذئب الحقيقي فرصة انفراد شاة عن القطيع.( مع اعتقادنا أن سبب تسميته بهذا الاسم هو بعده عن المسجد الحرام) فهل يريد القرآن أن يقول لنا :إن المسجد الأقصى مقارنة بالمسجد الحرام هو الأبعد عن وصف الحرمة والحماية، والمعرض على الدوام لخطر الشياطين، واستهداف الذئاب، وهذا ما يتضح من واقع المسجد الأقصى وتاريخه، حيث إنه في أرض ذات موقع استراتيجي، ولذلك فقد كانت فلسطين على الدوام مطمعاً وهدفاً للغزاة والمستعمرين، فضلاً عن أن أهل الكتاب يتذرعون بعلاقة عدد من الأنبياء السابقين بالأقصى وفلسطين، ليغلّفوا أطماعهم بدوافع دينية. وهذا يعيدنا إلى افتتاح الآية بقوله تعالى:( سبحان) أي تنزه عن النقص وثبت له الكمال، إذ خلق الشيء ونقيضه، فجعل أحد المسجدين حرماً آمناً، وقدّر أن يكون المسجد الثاني مهدداً بل ومستباحاً في أوقات كثيرة، كما خلق الموت والحياة، والخير والشر.
و(سبحان) الله أيضاً حيث قدر أن يكون المسجد الأقصى مهدداً، ليس عن عجز ولا ضعف ـ سبحانه ـ بل عن حكم عظيمة، وآيات باهرة ( لنريه من آياتنا)، وهذه الآيات المقصودة تتعلق بالرحلة الأرضية( الإسراء) إضافة إلى آيات الجزء السماوي من الرحلة (المعراج). وليس كون المسجد الأقصى في دائرة الاستهداف والتهديد بالذي يقلل من أهميته، بل إنه والحالة هذه، مصدر بركة وخير مستقر ينبثق وينطلق منه ليعم الأرض المحيطة به:( المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وهذه البركة ليست لأهل تلك الأرض وحدهم بل إنها تشمل العالمين:( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين).[ سورة الأنبياء:71].
وقد أفاض الأستاذ بسام جرار في الحديث عن مظاهر وشواهد بركة وقدسية هذه الأرض المحيطة بالأقصى للعالمين، ضمن كتابه(من أسرار الأسماء في القرآن الكريم)، حيث إنها الأرض التي لا يعمر فيها ظالم، ففيها كانت نهاية الدولة الرومانية الشرقية في معركة اليرموك، وكذا نهاية البطش المغولي في عين جالوت، وتحطمت أحلام نابليون على أسوار عكا، وفيها سينتهي الإفساد اليهودي المعاصر الذي تحدثت عنه آيات الإسراء والذي يأخذ أبعاداً عالمية، وستكون فيها نهاية المسيح الدجال، ونهاية يأجوج ومأجوج.
ويذكر الأستاذ بسام جرار كيف أن حطين كانت نقطة تحول هامة في تاريخ الأوروبيين حيث تأثروا تأثراً بالغاً بفكر وأخلاق الشرق الإسلامي، فكانت هزيمتهم من أهم مقدمات النهضة الغربية، وكذلك شكلت عين جالوت منعطفاً حاداً حول المغول من أمة مفسدة سافكة للدماء إلى أمة متحضرة أقامت العدل على أسس الإسلام.
وأضاف:”لقد شكلت القضية الفلسطينية حاجزاً صلباً حمى وحفظ شعوب المنطقة من الذوبان في الحضارة الغربية، وقد وقع ذلك في الوقت الذي كان فيه الإنسان في العالم العربي والإسلامي يعاني من الأمية والتخلف، فعندما شعرت الشعوب العربية والإسلامية بعداوة الغرب الشرسة، وعندما رأت هذه الغرب يبذل المال والسلاح والخبرات ليقيم الكيان الصهيوني على تراب الأرض المباركة، أدركت أنه العدو التاريخي وأنه النقيض الحضاري، فأصبح الانتماء إلى الذات الحضارية يقود بالضرورة إلى رفض التغريب”.
إن الله تعالى يستدرج الطغاة المفسدين إلى الأرض المقدسة المباركة، ليجعل نهايتهم فيها ويريح البشرية من شرورهم، وفي الوقت ذاته يستنهض الأمة الإسلامية كي ترجع إلى دينها وتتوحد لرد العدوان وتحرير المقدسات واستئناف الدور الحضاري وإقامة الخلافة في الأرض.
_______________________________________________________
- الكاتب: طارق حميدة
Source link