النماذج العمرانية المتقابلة.. من سدوم لوط -عليه السلام- إلى سدوم المعاصرة

سيدة محمود محمد

مجلة البيان

تُعدّ  هذه الدراسة واحدةً من محاولات توضيح أبدية الجدل بين الحق والباطل، وتُقدّم نموذجًا يصوّر جدلية الصراع بين نهجين: الفطرة الإنسانية السوية، والفطرة المنتكسة المنحرفة. في الجانب الغريزي في العمران الإنساني. ورغم ما قد يبدو في الظاهر من أن الباطل قد علا؛ فإن السُّنَّة الإلهية الثابتة التي لا تُحابي أحدًا في صعود الأمم وهبوطها، تؤكّد أن النصر في النهاية إنما هو للاستجابة لأوامر الله -تعالى-. وأقصد بالسُّنَّة الإلهية في هذه الدراسة المفهوم كناظم لشبكة علاقات الإنسان بكلّ أنساقه مع خالقه، ومع كافة المخلوقات، بما فيها علاقاته البينية، على نحو لا زماني ولا مكاني طيلة أمَد خلافته في الأرض[1].

وتتمحور الدراسة حول محورين؛ يتناول الأول: الخريطة القرآنية لجدلية الصراع بين سبيلي تلبية نداء الغريزة في سدوم التاريخ ليصير نموذجًا لا زمانيًّا ولا مكانيًّا لمن يمارس تلك الفاحشة، وتثنّي بإطلالة سريعة على نموذج سدوم الضالّ المعاصر.

أولًا: الخريطة القرآنية لجدلية الصراع بين سبيلي تلبية نداء الغريزة:

ينسج النص القرآني نسيجًا تفصيليًّا لجدلية الصراع بين سبيلين لتلبية نداء الغريزة. وتتجسّد معالم الجدلية بين هذين النهجين على النحو التالي:

النهج الأول: النهج الرشيد في إشباع الغرائز كما وضَّحه نبيُّ الله لوط -عليه السلام-:

١ – وحدانية الله وتقواه:

لم تختلف دعوته عن باقي دعوة الأنبياء قبله، فقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده وتقواه، أكثر من مرة (سورة الشعراء: الآيات من161 وحتى 163)، وعدم الإشراك به، وطاعة الرُّسل وعدم تكذيبهم. فهذا هو المفتاح للتحلّي بكافة الفضائل والبُعد عن الرذائل.

٢ – العقيدة يتبعها سلوك رشيد:

لا يتوقف بلاغ لوط -عليه السلام- عند حدّ ترسيخ العقيدة، وإنما تنعكس هذه العقيدة في سلوكيات عملية راشدة ببُعْديها؛ التخلّي والتحلّي:

التخلّي عن المعاصي، وخاصةً ما يفعلونهُ من الفواحش، وأشدها خبثًا إتيان الذكور من العالمين، وقطع الطريق، والصد عن سبيل الله. والتحلّي بتقوى الله وخشيته. واحترام حرية ابن السبيل وعدم انتهاك حقّه في أخذ واجب الضيافة بأمان. وتوجيه الرغبة الجنسية باتجاه الفطرة السليمة.

٣ – لين القول مع المخالف، وترك الحرية كاملة له للفعل الإنساني مع تحمُّل تبعته:

فهو يذكّرهم بتقوى الله؛ للدلالة على أنه ليس لعصبية جاهلية منه. وبيَّن لهم برفقٍ ولين، وصدقٍ وأمانة، بأن استمرار النوع البشري رهين بنقاء الفطرة، فالنساء أطهر لهم، وقد عبَّر عنهن ببناته؛ فالنبي كأب لأُمته. وهو يستحضر أُخوّته لهم، لا بوصفه هو لنفسه بذلك، بل بوصف الله -تعالى- له به. والأخ لا يُؤمِن إلا إذا أحبَّ لإخوانه ما يُحِب لنفسه.

٤ – إذا بُليتم فاستتروا:

بمفهوم المخالفة، يُفهَم من تقبيح النص القرآني لفعل أهل القرية المنكَر علانيةً في ناديهم، واستبشارهم وتجمهرهم لتحصيل هذا المنكر بالاعتداء على ضيوف لوط -عليه السلام-؛ أنَّ الفطرة السليمة تخجل من اطّلاع الناس حين تلبية نداء الغريزة. حين تكون طبيعية، بل حين تكون شرعية. وبعض أنواع الحيوان يتخفَّى بها كذلك! لذا مخالفة ذلك تُمثّل حالة من الارتكاس معدومة النظير.

٥ – السُّنَّة الكونية:

التي تتجلى في قوله -تعالى-:  {{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِـمِينَ بِبَعِيدٍ} } [هود: 83]؛ ليس الرمي بالحجارة ببعيد مِنَ الظَّالِمِينَ اِلْفَاعِلِينَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، مهما جمَّل هؤلاء الظالمون هذا الفعل الشنيع بمسميات؛ فالتحذير والتهديد بسوء العاقبة ينتظرهم.

النهج الثاني: النهج الضالّ في إشباع الغرائز كما وضّحه قوم نبي الله لوط -عليه السلام-:

١ – طغيان الهوى وسَكْرة العقل وانتكاس الفطرة:

يتجلى ذلك في ذهاب عقولهم وانسدادها لغلبة دواعي الهوى، ليس فقط بعلاقات غير شرعية، بل انتكاس الفطرة ذاتها؛ فثمة نواميس حاكِمَة للكون كله، ومنها الناموس الذي يحكم الحياة. والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها؛ لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تُهَيَّأْ لاستقبالها وإحيائها. بدلاً من الذهاب بها إلى التربة المستعدَّة لتلقّيها وإنمائها. ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفورًا فطريًّا -لا أخلاقيًّا فحسب- من هذه الفاحشة.

٢ – حرية المشيئة المطلقة لفئة دون فئة:

لا يُسلّم أصحاب هذا النهج بأن ثمة إرادة تعلو إرادتهم في الوجود. هم لا يعترفون بحرية لغيرهم، إلا في سياق حريتهم هم. فالحرية لهم هم في فِعْل الفاحشة، ومَن يرفضها لا حريةَ له. فالقرية قريتهم، يتصرفون فيها وفي أهلها كما يشاءون، مَن يعارضهم تُصادَر حريته، وتنتفي الشرعية عن أقواله وأفعاله، وليست للمخالف أيّ حُرمة. بل حاولوا إكراه لوط على أن تُفعَل الفاحشة في بيته، وليس عليه أن يتصدَّى لها.

٣ – قطع الطريق على الأبرياء:

هم في سَكْرتهم يعمهون، يتعرّضون للمارّين على قُرَاهم، ليأخذوا ما يختارونه. وقطع السبيل فساد في ذاته، وهو أفسد في هذا المقصد. حيث إكراه الآخرين واغتصاب حقهم في الطهر والعفاف ونقاء الفطرة (العنكبوت: 29). كما يتجلى في الاستفهام الإنكاري الذي وجَّهوه لنبي الله  {{أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِين}} [الحجر:70]؛ أي ألم نَنْهَك عن حماية الناس أو عن إجارتهم، وأن عليك أن تُخلّي بيننا وبين عاداتنا حتى لا يطمع المارّون في حمايتك[2]. وهكذا صار المعروف منكرًا!

٤ – العلانية الفاضحة:

مَن غلبه هواه ووقع في معصية فإنه مأمور شرعًا أن يستتر بسِتْر الله ولا يفضح نفسه؛ حتى لا يستمرئ المعصية أو يشجّع عليها ضعاف النفوس. أما علانية ومجاهرة قوم لوط -عليه السلام- في طلب هذا المنكر، فإنه منكر فوق المنكر ذاته؛ لأنه زيادة في الفساد والإفساد، ومُعِين على شيوعها بين الناس.

٥ – عموم البلوى:

لم تكن الفواحش قصرًا على فئة، بل وُصفت القرية بكاملها بالقرية التي كانت تعمل الخبائث (الأنبياء: 84)؛ حيث كان دَيْدن القوم فِعْل الفاحشة جهارًا في ناديهم، وتَمالؤ القوم وقطعهم الطريق والسعي كجماعة نحو فعل الفاحشة بضيوف لوط -عليه السلام-.

٦ – انقلاب الموازين:

 إذ يطلب الشواذ إخراج الأسوياء من ديارهم، وكانت جريمتهم أنهم قوم يتطهّرون (الأعراف: 82)، ورغم أنهم المعتدون (الشعراء: 166)؛ فإنهم يتَّهمون نبي الله بالعُدوان في سُلوكه، وقرّروا نَفْيهُ وطردهُ من البلاد.

٧ – الإفساد المُركّب:

وصف القرآن الكريم قوم لوط الذين ارتكبوا الفواحش بأوصاف لم تجتمع في غيرهم من الأمم السالفة: الإسراف في الفحش (الأعراف: 81)؛ الإجرام (الأعراف: 84)؛ الظلم (هود: 83)؛ تكذيب الرسل (الشعراء: 160)؛ العدوان  (الشعراء: 166)؛ الجهل (النمل: 55)؛ الإفساد (العنكبوت: 30)؛ والسوء والفسق (الأنبياء 84). فَفِعْل الفاحشة وإتيان الذكور من العالمين إسرافٌ في الفحش، وعدوانٌ على النوع البشري واستمرار النسل، وإفسادٌ في الأرض وظلمٌ للنفس وللنوع وللآخرين الذين يجبرونهم على هذا المسلك الذي تأباه الفطرة السوية، وفسقٌ وخروجٌ عن كل ما يُمليه العقل والشرع والفطرة.

لذا كانت سوء العاقبة على المستوى الفئوي والمستوى الجماعي. فالفئة التي أرادت ارتكاب الفاحشة { {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ}} [القمر: 37]، وعلى المستوى الجمعي كانت العُقوبةُ والعذاب عليهم مُساويًا لجُرمهم، فقد غيّروا الفطرة، وقلبوا الحقائق، وعبدوا غير الله -تعالى-، وجاهروا افتخارًا وتيهًا بالفسق والفاحشة، فكانت عقوبتهم هي انقلاب القرية عليهم، وإهلاكهم. كما استوجب هذا الإفساد المركب تعدُّد صُوَر الهلاك: مطر السوء، وجعل عالي القرية سافلها، والصيحة.

ثانيًا: نموذج سدوم الضال المعاصر:

 ينبغي لفهم هذا النموذج الوعي برؤيته الكلية، ومرجعية العليا التي يتحدّد في إطارها «المعروف» الذي يُدافع عنه، ويُرفَع مِن شأن مَن يعزّزه ويبشّر به، و«المنكر» الذي يسعون لمحاربته حربًا لا هوادة فيها، والإنكار على مَن يسخر منه.

١ – الرؤية الكلية لهذا النموذج:

أسَّس هذا النموذج رؤيته للعلاقة بين البشر والكون على أن إرادة الإنسان لا تعلوها إرادة. وأن الحياة ما هي إلا الحياة الدنيا وما يهلكهم إلا الدهر، وماهم بمبعوثين. لذا لا يبقى للإنسان منظور لهذه الدنيا غير المتعة والاغتراف من الملذات كما يشاء. وقد استتبع ذلك مناهضة الأديان السماوية حتى المحرف منها، وعدم الاعتراف بتشريع مُنَزَّل ثابت، فالإنسان إِلَهُ نفسه يُشرِّع ما يشاء، وبطبيعة الحال سوف تتَّسم هذه التشريعات بالنسبية والتأرجح والانطلاق دومًا من الواقع والمطالبة بتقنين أوضاعه، وليس انطلاقًا من معايرة الواقع المعاش بالواقع الممكن كما حدده الشرع، والارتفاع بالأول إلى مستوى الثاني. كذلك استتبع الكدح لطمس الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

٢ – معالم ظاهرة الشذوذ في سدوم المعاصرة:

١ – محاولة التأريخ للشذوذ لإثبات أنه جزء من حياة البشر منذ بدء الخليقة:

يحاول الشواذ على كافة أطيافهم إثبات -عبر المصادر التاريخية- فرضية تتشابك عناصرها. فحواها:

أن ممارسة الشذوذ عُرفت منذ العصور القديمة، بل شاع هذا الفعل في المجتمعات سواء وثنية أو دينية، وأنها لم تكن فقط تلقى القبول، بل التمجيد. وأنها غريزة طبيعية، وفقط قيود المجتمع هي التي أدَّت إلى وَصْمها ورهابها، وعلى أهل قرى سدوم المعاصرة السعي لكسر هذا الرهاب.

 يقول أحد منظّريهم: «الجاذبية الجنسية بين أفراد من نفس الجنس هي أمر غريزي. ويمكن بسهولة إثبات سخافة الادعاء بأن المثلية الجنسية تتعارض مع «الطبيعة البشرية» من خلال الإشارة إلى مجموعة واسعة من المواقف تجاه الرغبة الجنسية تجاه أفراد من نفس الجنس في المجتمعات البشرية على مر التاريخ. فعلى النقيض من رهاب المثلية الحديث ما بعد المسيحية نجد مواقف وممارسات اليونان القديمة، وخاصة أثينا. هناك، لم تكن العلاقات الجنسية بين الرجال أمرًا مقبولاً فحسب، بل وأمرًا ممتدحًا»[3].

ويقول عَلَم آخر مِن أعلام سدوم العصر: «إن ميدان علاقات الحب الذكورية كان حرًّا في العصر اليوناني القديم أكثر بكثير مما كان عليه في المجتمعات الأوروبية الحديثة»[4].

ويمكن ببساطة دَحْض هذه الافتراضات؛ فوجود الشيء ليس معناه تقبله، أو شيوعه، أو مشروعيته.

لم يكن المجتمع الإغريقي بكامله غارقًا في الشذوذ والإباحية الجنسية كما صوَّر شواذ العصر. بل كان أيضًا ثمة شكل من أشكال الصرامة الأخلاقية في هذا المجتمع، وتمجيد للفضيلة، وضبط النفس والعفة والإخلاص الزوجي. ويسوق ميشال فوكو خطابًا لـ(نيكوكليس) يبين فيه كل الأهمية الأخلاقية والسياسية في أنه لم تربطه منذ زواجه أيّ علاقة جنسية بأيّ شخص آخر غير زوجته، وأن أرسطو في مدينته المثالية يَعتبر علاقة الزوج بامرأة أخرى أو علاقة الزوجة برجل آخر فعلاً مخلّاً بالشرف.[5] وفي النص المعروف بقسم أبو قراط، يلتزم الطبيب في كل بيت يدخله بأن يمتنع عن ممارسة الجنس مع أي شخص: امرأة، رجل حر، أو عبد[6].

بل يقول فوكو ذاته: «إن صورة العلاقة بين أفراد ينتمون إلى نفس الجنس بالهالة المنفرة التي تحيط بها، قد تجذرت بعمق في الأدب اليوناني – الروماني خلال المرحلة الإمبراطورية». ويناقض نفسه صراحة في المقاطع التي يستشهد بها محاولًا إثبات تقبُّل المجتمع الإغريقي للشذوذ. فذات الفقرات تشير إلى استنكار المجتمع «ينظر سينيك الإغريقي الخطيب المفوّه باشمئزاز كبير يقول: إن الولع الموبوء بالغناء والرقص يملأ نفوس المتأنثين، فتمويج الشعر وجعل الصوت رقيقًا لمماثلة الأصوات النسوية… هم بذا يعتدون على حياء الآخرين وغير مهتمين بحيائهم».[7]

كذلك تلازم مع تشنيعه على مدى التاريخ عدم مشروعيته، فقد كان يُعاقب مرتكبه بعقوبات متعدِّدة؛ منها مصادرة الأملاك والقتل والإعدام، واستئصال أجهزته التناسلية[8]. وقد اعترف فوكو بذلك قائلًا: «إن الممارسات الشاذة تاريخيًّا تعرَّضت لآليات قمع -من منظوره- متنوعة في كل المجتمعات»[9]. وهذا يدل دلالة بالغة على الرفض المجتمعي لتلك الممارسات وليس قبولها أو تمجيدها.

٢ – استمرارية رفض «أولو بقية» من المجتمع الإنساني للشذوذ حتى وقت قريب (النصف الثاني من القرن العشرين):

حتى أوائل النصف الثاني من القرن العشرين كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترفض دخول الشواذ أراضيها، برغم أنهم شخصيات بارزة في مجتمعاتهم. فقد رفضت إعطاء تأشيرة دخول للأديب الفرنسي (جان جينيه) في نوفمبر 1965م؛ بسبب شذوذه الجنسي، وكرَّرت رفضها إعطاءه تأشيرة لدخول أراضيها عام 1975م.[10]

 وفرنسا ذاتها كان الشذوذ مُجرَّمًا فيها حتى نهاية القرن الثامن عشر. حتى ألغت الجمعية الفرنسية تجريمه عام 1791م، وتم تصدير القانون النابليوني إلى هولندا وألمانيا أثناء الغزو النابوليوني. وفي عام 1861م أُلغي في بريطانيا القانون القديم الذي جعل «الإعدام» عقوبة الشذوذ، وخَفَّف القانون الجديد الذي يحظر «الفاحشة الفادحة» بين الذكور العقوبة القصوى إلى السجن المؤبد. وبعد توحيد ألمانيا في عام 1871م، كان القانون البروسي يعاقب بالسجن لمدة لا تزيد على خمس سنوات المضاجعة غير الطبيعية بين الذكور.[11]

وعرفت «الموسوعة السوفييتية العظمى» عام 1936م المثلية بأنها «انحراف جنسي» يُعتَبر «مخزيًا»، ويمثل جريمة «جنائية». وكان القانون يعاقب بالأشغال الشَّاقَّة لفترة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات أي رجل يُدَان بممارسة الجنس مع رجل آخر.[12] إذن حتى بعد إلغاء عقوبة الإعدام وتخفيف العقوبة (إما المؤبد، أو عدد من السنوات) ظل الشذوذ تاريخيًّا مُجَرَّمًا يَفتقد المشروعية القانونية.

٣ – الثورات وتفجُّر بركان الانحلال:

ثمة ثورتان كان لهما أكبر الأثر في تبرير الشذوذ ورفع الحظر عنه في نهاية المطاف. الثورة البلشفية، والثورة الجنسية. وقد وُصفت الأخيرة بالثورة لتحديها كافة المؤسسات والقِيَم بمختلف مرجعياتها؛ حيث ساد النصف الأول من القرن العشرين ظاهرة طغيان التفكير في شؤون الجنس، وكان لفلسفة هربرت ماركيوز دور كبير في الإباحية الجنسية بكافة صورها، بدعوى أن التحرُّر الجنسي عنصر متمّم لعملية التحرر الاجتماعي، أي صارت الإباحية فلسفة وسلوكًا![13]

ونتيجة للثورة البلشفية؛ أصبحت الاشتراكية أقرب إلى احتضان التحرر الجنسي، بما في ذلك تحرر المثليين. فالماركسية تعتبر مؤسسة الأسرة والزواج الطبيعي مؤسسة رأسمالية يجب القضاء عليها. وبعد الثورة مباشرة، تم إضفاء الصبغة الشرعية على العلاقات الطوعية المثلية للأشخاص البالغين من العمر 14 عامًا فأكثر.

وكان لكتاب ويليام رايش تلميذ فرويد «الثورة الجنسية» الصادر عام 1936م أكبر الأثر في رفع كارت الإرهاب أمام الدولة التي تَرفض الشذوذ باتهامها بأنها استبدادية فيقول: «إن اضطهاد الميول الجنسية غير الطبيعية، مثل المثلية الجنسية؛ عمل الدولة الاستبدادية التي تقمع النشاط الجنسي لمواطنيها».[14]

٤ – استراتيجية أهل سدوم المعاصِرَة لتطبيع المجتمعات مع الشذوذ:

ثمة استراتيجيات عديدة سواء خبيثة (ناعمة) أو قسرية (خشنة) لتركيع المجتمعات وجعلها تتقبل الشذوذ وتعتبره طبيعيًّا حتى تُرفَع عنه وصمة العار. ولن يتسع المجال لذكرها جميعًا لضيق الحيّز المتاح، ومِن ثَم سوف أقتصر على استراتيجية واحدة ذات شقين:

• التنظير له وتحويل الثوابت إلى متغيرات عبر المنهج التشكيكي:

بدلًا من الحتمية البيولوجية التي جُبلت عليها المجتمعات التي تُحدّد للإنسان هويته ذكرًا أو أنثى، تصدرت الأعمال الأدبية للشواذ[15] الساحة لتُشكّك في هذه الحتمية وتَعتبرها هراء وأنماطًا تقليدية. على رأسهم في الأدب الإنكليزي إي إم فورستر، وأوسكار وايلد، ودابليوم أودين، وفي الأدب الفرنسي جان جينيه، وأندريه جيد، ومارسيل بروست، وتوماس مان، وميشال فوكو. ويُصدّر الأخير آخر كتاب له بمقولة: «إن الحديث عن الجنسانية يتضمن أن نتحرر من خطٍّ للتفكير كان شائعًا: جعل الجنسانية ثابتة، وعلينا افتراض أنها كانت تتجسّد في أشكال فريدة تاريخيًّا»[16]؛ ليمضي بالكتاب محاولًا إقناع القارئ بهذه الفرضية!

وفي تحقيق أجرته مجلة «Elle» الفرنسية في عدد أبريل 1993م كان موضوعه «أيّ الممارسات الجنسية تُفضّل؟» تقول الصحيفة: لم نسأل ما إذا كانت العلاقة مع الشريك أم العشيق أم بائع البيتزا. فالأداة أصبحت قابلة للتغيير، وغير عابئة بمقام الشريك. والمقصود بتنوع خيارات الأداة -على حد النص الوارد- تحديدًا الخيار الجنسي المثلي.[17] وهكذا تدريجيًّا صار يُمهّد لنظرة المجتمع للشاذ على أنه ليس منحرفًا، بل إنه ليس في اتفاق مع الثقافة أو الأعراف العامة لمجتمعه، وبدء استعمال وصف المثلية الجنسية بدلًا من الشذوذ الجنسي! ولن يقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث تم حذف مصطلح المثلية الجنسية من دليل الأمراض ليوضع مكانه «اضطراب في التوجه الجنسي» إلى «تنوع طبيعي للاتجاه الجنسي»[18]؛ كما سيرد ذِكره.

• الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)

تعتبر هذه الجمعية المحضن الرئيس للتطبيع مع الشذوذ. في تقرير صادر لها بعنوان «الاستجابات العلاجية المناسبة للتوجه الجنسي»[19]؛ قد يتصور البعض أنها تبحث عن علاج للشذوذ، لكنْ مَن يطّلع على التقرير يجد أنها تعالج المجتمع كي يتقبل الشذوذ! فبرأيها «وصمة العار الجنسية، التي تتجلى تمييزًا موجهًا ضد الميول والهويات الجنسية غير المغايرة للجنس، هي مصدر رئيسي للتوتر بالنسبة للأقليات الجنسية», وقد أنشأت الجمعية في فبراير 2007م فرقة العمل المعنية بالاستجابات العلاجية المناسبة للتوجه الجنسي للقيام بمهام أبرزها: ما أطلقت عليه التدخلات العلاجية الإيجابية للأطفال والمراهقين والبالغين الذين يُظهرون رغبةً في تغيير إما ميولهم الجنسية أو تعبيرهم السلوكي عن ميولهم الجنسية، أو كليهما. وتقديم علاج قسري مصمّم لتغيير التوجه الجنسي أو التعبير السلوكي عن التوجه الجنسي. أيضًا التعليم والتدريب والبحث من أجل هذه التدخلات العلاجية. وقد وصل الفريق إلى (ما زعموا) أنه حقائق علمية إلى:

 تعد التوجهات الجنسية من نفس الجنس متغيرات طبيعية وإيجابية للنشاط الجنسي البشري. أو بعبارة أخرى: لا تشير إلى اضطرابات عقلية أو اضطرابات في النمو.

 يُشكّل الرجال المثليون والمثليات ومزدوجو الميل الجنسي علاقات وعائلات مستقرة وملتزمة تكافئ العلاقات والعائلات بين الجنسين في النواحي الأساسية.

الخاتمة:

يمكن استشراف بَوار وخسران أيّ نموذج يأخذ بنهج عمراني مغاير لدين الله، سواء في سدوم التاريخ أو سدوم المعاصرة. فسُنَّة الله -عز وجل- أن يُهلك القرى التي تُفْسِد في الأرض حتى وإن حقَّقت في ظاهر الأمر عمرانًا استدراجيًّا؛ فالمآل هو مآل بيت العنكبوت.

لذا يجب على الأمة الخاتمة الشاهدة أن تكون للمجتمع الإنساني بمثابة «أولو بقية»؛ تأخذ بالأسباب بتوجيه إلهي، دون أن تَكترث لقوة خشنة أو ناعمة، ليتحقق لها النجاة، حينها سوف تنجو وينجو الجميع.

 

 

[1] لمزيد من التفاصيل حول مفهوم السُّنَّة الإلهية، انظر: السيد عمر، «البيان القرآني لمفهوم السُّنة الإلهية»، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1439هـ – 2019م.

[2] محمد الطاهر بن عاشور، «تفسير التحرير والتنوير»، تونس: الدار التونسية للنشر، الجزء 14، ص67.

[3]    Thomas Harrison,» Socialism and Homosexuality»,Winter 2009 (New Politics Vol. XII No. 2, Whole Number 46)in:

Socialism and Homosexuality – New Politics

[4]  ميشال فوكو، «تاريخ الجنسانية»، ترجمة محمد هشام، الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2004م، الجزء الثاني، ص20، 21.

[5] ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره، ص19.

[6] المرجع السابق، ص46.

[7] المرجع السابق، ص20.

[8] لمعرفة نماذج تم تطبيق هذه العقوبات عليها، انظر: أسامة صاحب منعم، وائل جبارة جودة، «فيليب الرابع وسياسته تجاه البابوية 1295- 1314م»، جامعة بابل، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، أبريل 2018م، ص84.

[9]  ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره، ص6.

[10] رمسيس عوض، «رباعيات الشذوذ والإبداع»، القاهرة: سينا للنشر، 1998م، ص16، 17.

[11]   op. cit,inSocialism and Homosexuality – New Politics.

 [12] See  ibid.

[13]  لمزيد من التفاصيل، انظر: هربرت ماركيوز، «نحو ثورة جديد»، ترجمة عبد اللطيف شرارة، بيروت: دار العودة، 1971م.

 [14]  The Sexual Revolution, Wikipedia,  Wilhelm Reich.

[15]  للاطلاع على نماذج كاملة لهذه الأعمال الأدبية، انظر: رمسيس عوض، مرجع سبق ذكره.

[16]  ميشال فوكو، مرجع سبق ذكره، ص6.

[17]  جاك أندرييه، «النزوع الجنسي الأنثوي»، ترجمة إسكندر مصعب، بيروت: مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،1430هـ – 2009م، ص12.

[18] بريمة علي، «تطور ظاهرة الجنسية المثلية في المجتمعات الإنسانية»، جامعة باجي مختار عنابة (الجزائر) مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، المجلد 8، عدد4، 2020م، ص82.

 [19]  https://www.apa.org/pi/lgbt/resources/sexual-orientation

 

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *