لقد أظلكم شهر شعبان، ولما كان شهر شعبان كالمقدمة لرمضان، ولا بد في المقدمة من التهيئة، شُرع فيه من القربات ما يهيئ القلوب لرمضان؛ ليحصل التأهب وترويض النفوس على طاعة الرحمن…
لقد أظلكم شهر شعبان، هذا الشهر الذي أحاطه الله تعالى بشهرين عظيمين؛ هما شهر رجب الحرام، وشهر رمضان المبارك، ولقد حفل هذا الشهر بأحداثٍ ووقائعَ عظيمة؛ منها: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، في السنة الثانية من الهجرة، وفي السنة ذاتها من شعبان فُرض صيام شهر رمضان.
وسُمِّيَ بشعبان؛ لأن العرب كانوا يتشعبون فيه؛ أي: يتفرقون لطلب المياه، وقيل: لتشعبهم في غارات الحرب بعد خروجهم من شهر رجب الحرام، وقيل: لأنه شهر شعب؛ أي: ظهر بين شهري رجب ورمضان.
فهو شهر تشعُّب الخيرات، وكان صلى الله عليه وسلم يُكْثِر فيه من الصيام؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهرًا قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان))؛ (رواه مسلم)، وهذا يدل على شدة محافظته على الصوم في شعبان، والمقصود صيام أكثر الشهر لا كله؛ قال الحافظ في الفتح (4 /214): “كان صيامه في شعبان تطوعًا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان”، وفي حديث أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله! لَمْ أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (أخرجه النسائي وأبو داود).
وحلول شهر شعبان يذكِّر مَنْ عليه قضاء من رمضان الفائت في المبادرة إلى صيامه، قبل حلول شهر رمضان؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان))؛ (رواه البخاري)، فبادروا بإبراء ذممكم مما شغلها من حق الله عليكم من الصوم المفروض: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
واعلموا – رحمكم الله – أن شعبان مقدمة لشهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن؛ فهو ميدان للتمرن والاستعداد، لحلول شهر الإيمان، فشعبان مع رمضان بمثابة السنن الرواتب مع الصلوات المفروضة، فهو كالتمرين على الصيام رمضان؛ لتخفيف مشقته وكُلْفته، وتذوق حلاوته ولذته، فيدخل المرء في صوم رمضان بنشاطه وقوته.
ولما كان شهر شعبان كالمقدمة لرمضان، ولا بد في المقدمة من التهيئة، شُرع فيه من القربات ما يهيئ القلوب لرمضان؛ ليحصل التأهب وترويض النفوس على طاعة الرحمن؛ ولهذا كان السلف يجدُّون في شعبان؛ فيكثرون من تلاوة القرآن، وكان عمرو بن قيس: ” إذا دخل شعبان أغلق تجارته، وتفرغ لقراءة القرآن”، وكان يقول: “طوبى لمن أصلح نفسه قبل رمضان”، وكانوا يقولون إذا دخل شعبان: “هذا شهر القرَّاء”.
واعلموا -وفقكم الله- أن من البدع المحدثة الاحتفالَ بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليلتها بالقيام وببعض الأدعية والأذكار، ولم يثبت ذلك كله في حديث عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم، إنما جاء في أحاديث ضعيفة أو موضوعة مكذوبة؛ كما قاله ابن رجب وغيره من العلماء، بخلاف من كان له عادة من قيام، أو صيام؛ فلْيَصُمْ ولْيَقُمْ، ولا شيء عليه.
ومن البدع المحدثة تبادل رسائل طلب العفو والمسامحة في ليلة النصف من شعبان، ولا يصح في ذلك شيء، ومغفرة الله بابها مفتوح، والشريعة جاءت بالعفو عن الناس ومسامحتهم في كل الأزمان
فاتقوا الله عباد الله، وسيروا على هَدْيِ نبيكم الموصل إلى طريق الجنان، واجتنبوا طرق الغواية والبدع والضلال الموصلة إلى دار البوار.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله – حق التقوى، وهيئوا أنفسكم لرمضان؛ بالتوبة النصوح، وإصلاح القلوب، وإزالة ما علق بها من الذنوب والآثام؛ وتعلموا ما لا بد من أحكام الصيام والقيام، حتى تعبدوا ربكم على بصيرة، واحمدوا الله أن بلغكم شهر رمضان، فكم غيَّب الموت من صاحب، ووارى الثرى من حبيب! فبادروا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
Source link