مهمة الإنسان في الحياة إعمار الارض وهذا لن يتحقق إلا بالعمل من أجل بلوغ هذا الهدف، ومن هنا كان اهتمام الإسلام بالعمل اهتماما بالغًا فالإسلام يربط بين العمل والإيمان بشكل مستمر…
نظرًا لانتشار ظاهرة الإهمال في مجتمعاتنا الإسلامية في كل نواحي الحياة مما ادى الى تأثير هذه الظاهرة بالسلب على الفرد والمجتمع وكان آخر هده المظاهر تأثيرًا على المجتمع موت أكثر من خمسن طفلاً تحت عجلات قطار نظرًا لانتشار الإهمال بينا مما دفعنا إلى الحديث المستفيض عن هذه الظاهرة وموقف الإسلام منها ومحاولة طرح حلول لها فنقول؛ وبالله التوفيق.
الإهمال لغة:
مصدر قولهم: أهمل يهمل، وهو مأخوذ من مادّة (هـ م ل) الّتي تدور حول التّرك والتّخلّي، سواء كان عن عمدٍ أو عن غير عمد. يقول ابن فارس “الهاء والميم واللّام” أصل واحد، أهملت الشّيء إذا خلّيت بينه وبين نفسه، والهمل: السّدى، والهمل:
المال لا مانع له، والهمل: التّرك، وقولهم: وما ترك اللّه النّاس هملاً: أي سُدى بلا ثواب ولا عقاب، وقيل:
لم يتركهم سُدى بلا أمر ولا نهي، ولا بيان لما يحتاجون إليه.
والهمل أيضا: الإبل بلا راع مثل النّفش، إلّا أنّ النّفش يكون في اللّيل، والهمل يكون في اللّيل والنّهار، وقد هملت الإبل تهمل (بالكسر) هملا فهي هامل وهملى: أي مهملة لا رعاء لها، ولا فيها من يصلحها ويهديها، فهي كالضّالّة ترعى بنفسها.
وفي المثل: اختلط المرعيّ بالهمل، والمرعيّ:
الذي له راع. وفي الحديث: “فسألته عن الهمل، يعني الضّوالّ من النّعم، واحدها هامل، مثل حارس وحرس”. وفي الحديث “فلا يخلص منهم إلّا مثل همل النّعم”. الهمل: ضوالّ الإبل ومن ذلك أيضا حديث طهفة “وكنّا نعم همل”.
قال ابن الأثير: أي مهملة لا رعاء لها ولا فيها من يصلحها ويهديها فهي كالضّالّة.
وأمّا أهمله إهمالاً فمعناه: خلّى بينه وبين نفسه.
أو معناه: تركه ولم يستعمله، ومنه الكلام المهمل، وهو خلاف المستعمل. وكذا قولهم: أهمل أمره يعني: لم يحكمه.
والهمل، بالتّسكين مصدر قولك هملت عينه تهمل وتهمل هملاً وهملانا أي فاضت وانهملت مثله.
وهملت السّماء هملاً وهملانا: دام مطرها في سكون وضعف.
الإهمال اصطلاحًا:
لم تذكر كتب المصطلحات للإهمال سوى إشارات يسيرة من خلال ذكرها للفعل: أهمل، يقول الكفويّ: أهمله: خلّى بينه وبين نفسه، أو تركه ولم يستعمله.
ومن خلال هذه الإشارة الموجزة نستنبط أنّ الإهمال قد يتعلّق بالإنسان أو بالأشياء، فالتّخلية من الإنسان ونفسه لا تكون إلّا من إنسان آخر كأن يقال مثلا: أهمل الوالد ابنه أو المدرّس تلميذه، أمّا ترك الاستعمال فيكون في الممتلكات الّتي يحرص عليها كأن يقال: أهمل الإنسان بيته أو إبله أو ما شابه ذلك، ويكون المعنى حينئذ التّرك وعدم الاستعمال، ويترتّب على ذلك فساد في الشّيء المهمل، وفي العصر الحديث اكتسب لفظ الإهمال أبعادا جديدة فأصبح يستعمل في العمل دينيّا أو دنيويّا كأن يقال مثلا: أهمل في صلاته، وأهمل في مذاكرته أي لم يؤدّهما على الوجه المطلوب، ونستطيع على ضوء ذلك أن نعرّف الإهمال بأنّه: ألّا يرعى الإنسان ما تجب عليه رعايته على الوجه الأكمل بالتّخلية أو التّرك أو التّقصير.
ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد:
نستطيع أن نصف الظواهر الممتدة لتجليات الإهمال وعدم الجدية في أداء العمل ومتابعته إلى بروز نمط ثقافى شائع يمكن أن نطلق عليه ثقافة الإهمال وعدم الجدية والمسؤولية ويقصد بذلك ما يلى:
بروز مجموعة من العادات والسلوكيات الوظيفية والمهنية والإدارية والأمنية تتمثل في اللامبالاة بأداء العمل المنوط ببعض المهن والاعمال أيًا كانت بالكم والنوعية والكفاءة المطلوبة في كل أو بعض مراحل هذا العمل.
من ناحية ثانية شيوع بعض العادات الذهنية والسلوكية تتمثل في الكسل والتراخي والبطء السلوكي في أداء العمل ومتابعته في إطار شروطه ومعاييره ناهيك عن التعود على عدم التبصر واليقظة في متابعة العمل بعد أدائه وملاحظة مدى قدرة العمل أو الجهاز أو النظم أو العمالة على الوفاء بالمهام المنوطة بهم وبه”
مفارقة عجيبة:
العاملون في الدول المتقدمة يتوترون من كثرة العمل كما في الولايات المتحدة الأمريكية أو من إدمان العمل كما في اليابان أما في بلادنا فما يوتر العاملين هو مشاكل العمل ذاته من هرج ومرج وقهوة وشاى ولغو ونوم وصراخ وضجيج طوال ساعات العمل.
إهمال العمل معصية لله ورسوله:
مهمة الإنسان في الحياة إعمار الارض وهذا لن يتحقق إلا بالعمل من أجل بلوغ هذا الهدف فالحياة بلا عمل موات والإنسان قد أعطاه الله من القوى والطاقات ما يجعله قادرًا على قيادة سفينة الحياة بالعمل الجاد المنتج الذى يعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم.
ومن هنا كان اهتمام الإسلام بالعمل اهتماما بالغًا فالإسلام يربط بين العمل والإيمان بشكل مستمر وهذا العمل يعنى كل الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته ويقصد من ورائها وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم وكل عمل يشتمل على ذلك فإنه يندرج أيضا تحت مفهوم العبادة والتقوى.
صور الإهمال كثيرة:
ومن يتتبع المجتمع الذي نعيش فيه فإنه يرى أنه يمتلئ بالكثير من صور الإهمال فعلى سبيل المثال لا الحصر:
• إهمال الأب لأولاده ولأسرته.
• إهمال المسلمين الجدد.
• إهمال نشر الدعوة.
• إهمال المساجد.
• إهمال المقابر.
• إهمال اليتيم.
• إهمال الطالب لدراسته…الخ.
الرسول – صلى الله عليه وسلم – يذم الإهمال:
ومن تتبع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى الكثير من ذمه – صلى الله عليه وسلم – للإهمال والزجر عنه منها:
• عن سهل بن الحنظليّة – رضي اللّه عنه – أنّه قال: مرّ رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: ” «اتّقوا اللّه في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة» “.
• عن عبد اللّه بن جعفر – رضي اللّه عنهما – أنّه قال: أردفني رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – خلفه ذات يوم فأسرّ إليّ حديثًا لا أحدّث به أحدًا من النّاس، وكان أحبّ ما استتر به رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – لحاجته هدفًا أو حائش نخل، قال: فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا جمل فلمّا رأى النّبيّ – صلّى اللّه عليه وسلّم – حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النّبيّ – صلّى اللّه عليه وسلّم – فمسح ذفراه فسكت، فقال: ” «من ربّ هذا الجمل، لمن هذا الجمل» ؟” فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي، يا رسول اللّه. فقال: ” «أفلا تتّقي اللّه في هذه البهيمة الّتي ملّكك اللّه إيّاها، فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتدئبه» “.
• عن عمر بن الخطّاب – رضي اللّه عنه – أنّه قال: حملت على فرس في سبيل اللّه، فأضاعه الّذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنّه يبيعه برخص، فسألت النّبيّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: ” «لا تشتر، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإنّ العائد في صدقته كالعائد في قيئه» “.
• عن عبد اللّه بن عمر – رضي اللّه عنهما – أنّ رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم – قال: ” «عذّبت امرأة في هرّة سجنتها حتّى ماتت، فدخلت فيها النّار، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» “.
• عن خيثمة – رضي اللّه عنه – أنّه قال: كنّا جلوسا مع عبد اللّه بن عمرو، إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت الرّقيق قوتهم؟. قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم. قال: قال رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم: ” «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» “.
• عن أنس بن مالك – رضي اللّه عنه – قال: قال رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم -: ” «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» “.
من مضار (الإهمال):
(1) الإهمال يؤدّي إلى ضياع الثّروة وإفقار الأمّة.
(2) دليل على انعدام الإحساس أو بلادته.
(3) يؤدّي إلى فتور العلاقات الاجتماعيّة.
(4) يؤدّي إلى شيوع الظّلم وزيادة صولة المستبدّين.
(5) ينتهي بصاحبه إلى الطّرد من رحمة اللّه.
آداب العمل في الإسلام:
ينبغى على المسلم ان يتحلى بهذه الاداب اثناء عمله ومنها:
1- الاعتماد على النفس في العمل لا على الغير بأن يكون عالة على الناس وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ” «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وأن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده» ” [ (رواه البخاري) ].
2- القدوة والأمانة فعلى المسلم أن يكون قويًا في أداء عمله كما قال الله – تعالى – عن موسى عليه السلام ﴿ {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ﴾ [القصص: 26].
وكذا صفة الأمانة من أهم ما ينبغي أن يتحلى بها المسلم في عمله “فعن أنس – رضى الله عنه – قال ما خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا قال ” «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» ” [ (رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه) ].
3- الإحسان والإتقان في العمل فينبغي على المسلم الموظف أن يحرص على أداء عمله بالشكل الذى يرضاه الله – سبحانه وتعالى -: ” فعن عائشة – رضى الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – «قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» ” (رواه أبو يعلى في مسنده) .
وكذا صفات العدل والرحمة وحسن الخلق والمعاملة الحسنه والتواضع والرفق والحلم في التعامل ومساعدة الناس وقضاء مصالحهم وحوائجهم، وكذا البعد عن الصفات الذميمة كالغش والرشوة والتسيب في العمل وغيرها.
أسباب بروز ظاهرة الإهمال:
1- انتشار بؤر ودوائر الإهمال في الحكومة ومرافقها العامة وضعف الرقابة الإدارية وشيوع روح التواطؤ المتبادل على الإهمال والكسل بين غالب الموظفين العمومين وغياب مبادئ الثواب والعقاب.
2- شيوع مسوغات وتبريرات للإهمال تتمثل في ضعف الأجور وتزايد تكاليف وأعباء المعيشة ومحاباة غير الأكفاء وشيوع المحاباة والمحسوبية والتفاف الإدارة على حساب الجدية والكفاءة.
3- شيوع المحاكاة للإهمال وسلوكياته بين غالب العاملين بالحكومة ومؤسساتها وقطاع الدولة.
4- عدم التناسب بين حجم العمل والعائد المادى.
5- الأسباب الحضرية: وتعني إن سبب بروز الإهمال في العمل هو وجود فجوة كبيرة بين القيم الحضرية السائدة في المجتمع وبين قيم وقواعد العمل الرسمية المطبقة في أجهزة الدولة لذلك ستكون هناك حالات مخالفة لقيم وقواعد العمل الرسمية تعد استجابة طبيعية للنظام القيمي الحضري. كما أنها تبدو تحركًا طبيعيًا لتقليص الفجوة بين قيم المجتمع وقيم قواعد العمل الرسمى.
علاج ظاهرة الإهمال:
1- مراقبة الله – عز وجل -:
فبالمراقبة يُعبد الرحمن ويُبنى الايمان ويُطرَد الشيطان، وبالمراقبة يكون جمال الحياة وصلاح الدنيا وسعادة الناس، وبالمراقبة تصلح حياة الخلق عند الله – عز وجل – وفيما بينهم وتصلح ذواتهم، وبالمراقبة تمنع النفس هواها وبالمراقبة تؤدى الواجبات والحقوق والأمانات.
وبدون المراقبة رأينا الإهمال يضرب كثيرًا من الأعمال ويدمر كثيرًا من المؤسسات ويُهدر كثيرًا من الأموال.
2- محاسبة النفس:
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في إغاثة اللهفان:
أضر ما على المكلف الإهمال وترك محاسبة النفس والاسترسال وتسهيل الأمور، وتمشيتها فهذا يؤول به إلى الهلاك وهذا حال أهل الغرور.
3- المحاسبة الإدارية والقانونية:
وهي خضوع الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم، أي أن يكون الموظفين الحكوميين مسؤولين أمام رؤسائهم (الذين هم في الغالب يشغلون قمة الهرم في المؤسسة أي الوزراء ومن هم في مراتبهم) الذين يكونون مسؤولين بدورهم أمام السلطة التشريعية التي تتولى الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
4- بناء جهاز قضائي مستقل وقوي ونزيه، وتحريره من كل المؤثرات التي يمكن أن تضعف عمله، والالتزام من قبل السلطة التنفيذية على احترام أحكامه.
5- تفعيل القوانين المتعلقة بمكافحة الإهمال على جميع المستويات، كقانون الإفصاح عن الذمم المالية لذوي المناصب العليا، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون حرية الوصول إلى المعلومات، وتشديد الأحكام المتعلقة بمكافحة الرشوة والمحسوبية واستغلال الوظيفة العامة في قانون العقوبات.
6- تطوير دور الرقابة والمساءلة للهيئات التشريعية من خلال الأدوات البرلمانية المختلفة في هذا المجال مثل الأسئلة الموجهة للوزراء وطرح المواضيع للنقاش العلني، وإجراءات التحقيق والاستجواب وطرح الثقة بالحكومة.
تعزيز دور هيئات الرقابة العامة كمراقب الدولة أو دواوين الرقابة المالية والإدارية أو دواوين المظالم، التي تتابع حالات سوء الإدارة في مؤسسات الدولة والتعسف في استخدام السلطة، وعدم الالتزام المالي والإداري، وغياب الشفافية في الإجراءات المتعلقة بممارسة الوظيفة العامة.
7- قيام القيادة السياسية بدورها في تجسيد العلاج الشافي للقضاء على نتائج ظاهرة الإهمال الوظيفي عن طريق قرارات سياسية ملزمة لجميع العاملين وأجهزة الدولة، كما يتطلب الأمر البدء في تطبيق هذه السياسة بحزم وثقة وعزم دون تمييز بين الوحدات الإدارية ودون محاباة لبعض القادة والرؤساء الإداريين ودون تقرير بعض الاستثناءات من قواعد هذه السياسة أيا كان الباعث أو السبب لتقرير تلك الاستثناءات.
والله من وراء القصد.
________________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد كامل السيد رباح
Source link