استقم – طريق الإسلام

قال الحسن- رحمه الله-: “ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل”.

يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، وهذا تبيان لعظم أمر الاستقامة، وما أعده الله للمستقيمين على شرعه، من نيل الجنان العالية؛ فلا يخافون مما سيقدمون عليه، فالرب كريم، يكرم النَّزيل، ويثيب الجزيل، فلا يحزنوا على ما فارقوا من أهل وولد، فالله كالؤهم وراعيهم كلُّ ذلك تبشيراً وإكراماً لهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فيا له من مقام كريم، عند الرب الرحيم!

 

لقد خاطب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته مِنْ بعده بالأمر بالاستقامة، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. والأمر للوجوب، وهو يعني الثبات على الطاعة، والبعد عن المعصية.

 

وشأن الاستقامة عظيم فقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «شيبتني هود»، فظهر الشيب في رأسه من شدة ما لاقى من أوامر هذه السورة العظيمة، وقد ذكر أهل التفسير أن الآية التي شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي:  {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “ما نزل على رسول الله آيةٌ هي أشدُ ولا أشقُ من هذه الآية”.

 

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا

قال الزهري: تلا عمر -رضي الله عنه- هذه الآية على المنبر، ثم قال: “استقاموا للَّه بطاعته، ولم يَرُوغوا رَوَغَانَ الثعالب!

وقال ابن رجب –رحمه الله- الذين قالوا ربنا الله كثير ولكن أهل الاستقامة قليل.

وكان الحسن البصري -رحمه الله- إذا تلاها قال: ” اللهم فأنت ربنا، فارزقنا الاستقامة”.

 

وجاء الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم». (رواه مسلم). هكذا كانت وصيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهي من خير ما يُوصى به للثبات على مقتضيات هذا الدين، وسُؤالُه -رضي الله عنه- يدل على حرص الرعيل الأول على الخير، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الكلمتين التي حوت أصول الدين، وغاية ما يدرك به المسلم سعادة الدارين.

 

 

آمنت بالله ثم استقم هذه الكلمة الموجزة من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فجماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان بالله تعالى، قال ابن تيمية -رحمه الله-: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.

 

الاستقامة حقيقتها لزوم طاعة الله تعالى امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه، ومسارعةً لمرضاته؛ قال صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا»، أي لن تصلوا إلى منتهاها، ولن تتحققوا بكمالها؛ غير أنه لا عذر لأحد بتركها، بل لابد من الجِد في طلبها؛ ومن هنا كان لا بد أن يحصل شيء من التقصير، ولذلك أمر الله المستقيمين بالاستغفار؛ فقال جل شأنه:  {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}.

 

الاستقامة تشمل الدين كُلَه، فهي استقامةٌ على توحيد الله تعالى، والتزام سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكٌ بالعقيدة الصحيحة، وبعدٌ عن البدع والمحدثات، استقامةٌ لا غلو فيها ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ وقد ضل الخوارج لأنهم جاوزوا الحد الشرعي، فهم شرار الخلق، مع أنهم كانوا أكثر عبادةً من الصحابة رضي الله عنهم، قال صلى الله عليه وسلم:  «تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم»!

 

الاستقامة على الإيمان الذي هو اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، وليس تلفظًا باللسان فقط، قال الحسن- رحمه الله-: “ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل”؛ فالاستقامة ليست شعائر تؤدى، وإنما هي منهجٌ وسطٌ، وتصورٌ صحيحٌ، وسنةٌ منضبطة تحدد الطريق، فإذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

 

الاستقامة دعوةٌ وثباتٌ أمام دعوات المنحرفين {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}؛ فلا تتبع أهواءهم، وادع إلى الله، واثبت على الإيمان ما استطعت، فذلك هو حبل النجاة في الدنيا والآخرة.

 

الاستقامة على الشرع القويم شأنها عظيم، وهي مطلب المؤمنين في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

 

فما أحوجنا -معاشر الإخوة- للاستقامة التي هي الكرامة الحقيقة للعبد؛ إذْ يتشرف بها في مقامات العبودية لله رب العالمين، ولما كانت ثقيلةً على العباد؛ فإن الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى السير في سبيل الاستقامة بقدر المستطاع، فقال صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»، (رواه مسلم).

 

وأهم معالم الاستقامة؛ الصلاة التي من حافظ عليها كانت له صِلة بربه، فتهديه للخير وتنهاه عن الشر، ولكن ليس كل صلاة يكون لها ذلكم الأثر، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.

 

الاستقامة استمرارٌ على الطاعات قدر المستطاع، ولذلك كان أحب العمل إلى الله صلى الله عليه وسلم أدومه وإن قل، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل»، فترك النوافل يقسي القلب، ويوحش النفس ويبعدها عن الله تعالى.

 

الاستقامة على الفرائض والتقرب بالنوافل، سبب للوصول إلى محبة الله تعالى، القائل في الحديث القدسي:  «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، وإذا أحب الله تعالى عبداً نادى في أهل السماء أحبوا فلان فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض.

 

 

اللهمارزقنا الاستقامة على الدين واهدنا صراطك المستقيم.

 

اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *