منذ حوالي ساعة
يقول ابن الجوزي: “من علامة كمال العقل علوُّ الهمة والراضي بالدون دني”.
كل إنسان له آمال يريد تحقيقها، وأفكار يتمنَّى تنفيذها، وآلام يرجو تخفيفها، وولد يرجو بره وذخره ونفعه، وإن من رام النجاح وسعى لتحقيقه لا بد له من ساعات يخطط وينظر فيها، ويسير خطواته وحركاته ويقيمها، فمتى يا ترى تكون الأماني واقعًا يتحدث، والأفكار على ثرى الأرض تظهر، والآلام عن أمتنا تتقهقر؟! ومتى تكتحل أعيننا بنجاح أولادنا فتزدان بهم الأرض وتعمر؟!
إن السبيل لذلك يا عباد الله بعد توفيق الله رفع الهمم إلى معالي الأمور، فعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها»؛ (رواه الطبراني وابن ماجه وصححه الألباني).
عباد الله، الإسلام دين العز والمجد، ودين المحبة والجد، فلا كسل ولا خمول ولا انشغال بدنايا الأمور؛ بل الانشغال بكل ما هو مفيد، فلكأني أنظر المسلم الصادق الموفق يسابق الوقت للحصول على ما يريد كيف لا وهو يعلم أن الجد والاجتهاد محبوب لربه العزيز المجيد؟!
ولقد أقسم الله بأقسام متعددة على تزكية النفس مما يدل على أهميتها، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 1 – 10].
قال ابن سعدي رحمه الله: أي طهَّر نفسه من الذنوب، ونقَّاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح.
وتزكية النفوس مطلوب لا يحققه إلا الموفق صاحب الهمة العالية.
عباد الله، الجنة أغلى مطلوب بعد رضا الله، لا تتحقق إلا لصاحب الهمة العالية والعزيمة القوية، قال ابن القيم رحمه الله: “كمال الإنسان بهمة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فمراتب السعادة والفلاح تتحقق للعبد من هاتين الجهتين”.
عباد الله، إن أعلى الناس همةً، وأرفعهم قدرًا مَن كانت لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
الهمة العالية خُلُق سامٍ، ومسلك رائع، تحبه النفوس، وتهفو إليه القلوب، فكما أن الطائر يطير بجناحَيه فكذلك المرء يطير بهمته.
صاحب الهمة العالية يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللَّذات والكمالات كلها لا تنال إلا بالمشقة.
قال ابن القيم رحمه الله: “أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتَتْه الراحة، فلا فرصة لمن لا هَمَّ له، ولا لذَّة لمن لا صبر له، ولا راحة لمن لا تعب له؛ بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمَّل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة”.
ولأهمية الهمة العالية دعا إليها ديننا الحنيف، فالله جل جلاله من أسمائه العلي، قال ابن كثير رحمه الله: “العلي الذي ليس فوقه شيء في الرتبة”، ورسولنا وإمامنا عليه الصلاة والسلام يدعو أمته لرفع همتها بهذا الدعاء «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى»، وكان يبعث الهمة في حديثه ويرغب بالجنة، فلقد كان الصحب الكرام يعيشون في الدنيا وهمهم في الآخرة؛ فذا أنس بن النضر يجد ريح الجنة دون أُحُد، وحين تعرض الدنيا بأسرها على ربيعة بن كعب الأسلمي حين أتى بوضوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له رسولنا عليه السلام مجاب الدعوة: «سلني يا ربيعة»، فهنا ربيعة لم تعجبه الدنيا وملذَّاتها، فأجاب إجابةً مسددةً إجابةَ مَن رُبِّي على علوِّ الهمة، فهي فرصة وأي فرصة! قال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أو غير ذلك»، فقال ربيعة: هو ذاك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود»، لقد كانت الهمة العالية هي الوقود بعد أمر الله ببلاغ الدين للرسل والمصلحين؛ فنوح عليه الصلاة والسلام يمكث في دعوته ألف سنة إلا خمسين عامًا، والصدِّيق ترتقي همته بدخول الجنة من الأبواب الثمانية، ويشهد له بذلك النبي العدنان، وعثمان ذو النورين يشتري بئر رومة ويسبلها ويجعلها للمسلمين، وأبو الدحداح رضي الله عنه يبيع بستانه بنخله لأجل بلوغ الجنان، وصهيب الرومي ينخلع من ماله ويفر بدينه للحاق برسول ربِّ العالمين، وذكر أهوال الآخرة أقضَّ مضاجع الصالحين، فقاموا في الليل يتهجَّدون، وبالأسحار لربهم يستغفرون.
عباد الله، يا من أرى في أعينكم حرقة على ضياع أوقاتكم وضياع مستقبل أبنائكم، يقصر بعض الناس معالي الأمور والهمة العالية على الحصول على شهادات عالية ومناصب راقية، وذا لا شك فيه، ولكن الأسمى منها أن تعمل في عمارة الأرض، وأن تكون خير مستخلف فيها مع ربط هذا بأعمال الآخرة..
وإن القلب والفؤاد ليتقطَّع على أقوام ضيَّعوا أنفسهم، ومَن تحت أيديهم بسفاسف الأمور، يقول ابن مسعود: إني لأبغض الرجل أن أراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة، فتجد أوقاتهم تضيع بارتكاب المعاصي والموبقات وإيذاء المسلمين والمسلمات، فيتعرضون لأعراض المسلمات، ويضايقون الكبير والصغير بأعمال شائنة لا تمتُّ للدين والرجولة بصلة، فكيف يرضى مسلم عاقل أن يستجلب دعوات الناس عليه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
فإلى كل من ضعفت هِمتُه، ماذا وجدت في الخمول والتعب، هل تحققت لك نجاحات وحصلت على ترقيات؟! هل تقربت من ربِّك ربِّ البريَّات، دنو الهمة ليس من العقل في شيء، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: “من علامة كمال العقل علوُّ الهمة والراضي بالدون دني”، ألا فلننفض عن أنفسنا غبار العجز والكسل، ونستعين بالله، وندعو ربنا أن يرفع همتنا فنترك في دنيانا أثرًا لنا بعد وفاتنا ومما يعين على ذلك:
1- استعن بالله وتأمل تعامل الرسول مع صحابته فيرفع همتهم، فيقول للحسن: «إن ابني هذا سيد»، ويقول عن سبطَيه الحسن والحسين «سيدا شباب أهل الجنة»، ويسمع ابن عمه الصغير ابن عباس دعوات ترفع الهمة «اللهم فقِّهْه في الدين وعَلِّمه التأويل»، فيكون بعدها حبر الأمة وترجمان القرآن، بالله ما أثر هذا التحفيز على نفوسهم، وانظر بعينك نتيجته، واقتص واقتفِ أثر نبيِّك عليه الصلاة والسلام، وإياك إياك والتعيير والغلظة، فهي مجلبة للفشل والهزيمة، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
2- ومن الهدي إعطاء الصحبة قدرهم وإخبارهم بمحبته لهم، فبالله ما أثر هذا الحديث فيمن قيل فيه؟! عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجرَّاح».
أيها المربون، الثناء وقود النجاح مع ربطهم ذلك دومًا بالإخلاص لله جل وعلا.
3- وأنت أنت أيها الوالد الحاني المعول عليك أمر كبير، فماذا قدمت لولدك؟! هذه همسات علَّ الله أن ينفعني وإياك بها:
أ – الأب قدوة لابنه، فما الذي يعلم عنك ابنك؟! لتكن قدوة مميزة لابنك، ولو في عمل واحد تتميز به، فربما تكون آية من آيات الله في محافظتك على الصلاة أو الصدقة أو الكرم أو الصيام، المهم أن يعلم ابنك أنك قدوة صالحة، وتذكَّر قول الله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]، واعلم أن صلاحك سبب صلاح ابنك، فأصلح نفسك تصلح ذريتك بإذن الله.
ب- ربِّ ولدك بالفعل قبل القول، دع فعلك يتحدَّث عنك أكثر من قولك.
ج- عَلِّق ابنك بربِّه ولا تُعلِّقه بك؛ فأنت تموت والله جل جلاله حي لا يموت.
د- اغرس في ابنك مراقبة الله لا مراقبتك أنت، وذَكِّره دائمًا بأنك تريد رفقته في الجنة، فلنسعَ يا بني جميعًا لها، وقل له فلنتعاون لندخل الجنة جميعًا.
هـ- مُرْ ولدك بمصاحبة من يفوقه هِمَّةً وعلمًا، ولا ترضَ له بالدون، فالإنسان حيث يضع نفسه.
و- يا أيها الموفق، لا تأمر ابنك بالجد والنشاط وأنت خامل كسلان، ولا تأمر ابنك بالتبكير للصلاة وأنت عنها متكاسل، ولا تأمر ابنك بالقرب من الله وأنت بعيد عن الله، ولا تحقر الدنيا في عين ولدك وهي تتملك كل وقتك، وتذكَّر قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
يا صاحب الهمة العالية، تطَلَّع إلى جنة وافرة الظلال والنعيم، لنكن جميعًا في عبادة لا تنقطع، صلاة خاشعة، وعين من خشية الله دامعة، وقراءة للقرآن دائمة، وإتقانك أعمالك الدنيوية قربة وأي قربة! ولتعلم أن قدر الرجل على قدر همته، فمن الناس من همته في الثرى، ومنهم من همته في الثريَّا، ومما يعين على ذلك ذكر الله كثيرًا، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
Source link