منذ حوالي ساعة
باتَ التمويل الإسلامي من أسرع القطاعات نموًّا في صناعة التمويل العولمي ويتَمحور التمويل الإسلامي حول مبادئ العقيدة الإسلامية، وبما يتوافَق مع أحكام الشريعة المُستمدة مباشرةً من القرآن الكريم…
أرْسَت خطة مارشال – وهي عبارة عن برنامج معونة موَّلته الولايات المتحدة؛ لإعادة بناء دول أوروبا الغربيَّة المُتضرِّرة جرَّاء الحرب العالمية الثانية – دعائم هيمنة أمريكا اقتصاديًّا، فعلى النقيض من أوروبا واليابان، لَم يُصِب اقتصاد الولايات المتحدة وصناعاتها خلال الحرب أيُّ ضررٍ يُذكَر، لكنَّها كانت بحاجة – بعد أن وضَعت الحرب أوزارَها – إلى أسواق لمنتجاتها، وبالرغم من أنها كانت الواهب وليس المُتلقي، فإنه كان من الواضح أنَّ أمريكا هي المستفيدة الأولى من خطة مارشال، وليست أوروبا؛ حيث أوجَدت أعمال إعادة الأعمار منافذَ جديدة للشركات الأمريكية، وشكَّلت سوقًا جديدة تتوافَق مع الاحتياجات المحدَّدة لاقتصاد أمريكا.
وبحلول الوقت الذي استعادَت فيه أوروبا الغربيَّة عافيتَها، كانت النزعة الاستهلاكيَّة الأمريكية على أُهبة الاستعداد لقَوْلَبة عادات الشراء لدى الأوروبيين؛ حيث ظهَرت في المتاجر البضائع المُعمِّرة؛ حيث أرادَت واشنطن بناء سوق قويَّة لاقتصادها القائم على التصدير، وفَهِمت أن ذلك يتطلَّب القيام ببيع نمطٍ حياتي معيَّن.
أسطورة دولة السوق:
إيطاليا هي المثال الأفضل لشعبويَّة دولة السوق؛ إذ إنَّ أوَّل جمهورية إيطالية – هي والعديد من الدول القوميَّة الأخرى – كانت قد بُنِيَت على أساس من الانقسام الأيديولوجي بين اليسار واليمين، وهما المذهبان اللذان لا يُمثلان رُؤًى متعاكسة بخصوص المساواة والولاءات الطبقيَّة وحسب، بل أيضًا فيما يتعلَّق بدور الدولة مقابل الملكيَّة الخاصة، والإنفاق الشعبي مقابل الإنفاق الخاص، ذلك أنه في دولة السوق لَم تَختفِ هذه المسائل الجوهريَّة بعدُ، لكنَّها تُصبح ضبابية بفعْل القوَّة المتنامية للناخبين المُرجَّحين.
أمَّا في الجبهة الأخرى من العالم، فكانت فنزويلا قد اختَبَرت نوعًا مختلفًا من التمزُّقات السياسية، مع اندلاع ثورة هوغو تشافيز المناهضة للشركات والإمبرياليَّة تحت شعار البوليفاريَّة، لكن في الوقت الذي كان سيمون بوليفار يدَّعي حبَّ الليبرالية الطبقيَّة واقتصاديات السوق الحرة، كان تشافيز يَبني شعبيَّته على أساس الموسيقا التي تُعَدُّ محطَّ عشق الشعب الفنزويلي الأوَّل والأخير؛ حيث إنه عمَد – من أجْل أن يَجذب الشباب تحت سنِّ الثلاثين عامًا، ممن يعيشون في ضواحي العاصمة كاراكاس، ومزارع البلدات الفقيرة في فنزويلا – إلى الاستعانة بمغنِّي الراب كقنوات سياسيَّة.
لكن يُمكن التأكيد على أنَّ الضغوط الناجمة عن العولمة والتوتُّرات التي تُخلِّفها، أوجَدت شقًّا جديدًا في المجتمعات، فمن جهةٍ هناك المُرفَّهون في حياتهم، والذين يتمتَّعون بثمار التطوُّر التقني وتداخُل الثقافات على صعيد عالَمي، ولدَيهم المؤهلات لعيش حياةٍ رغيدة في ظلِّ الاقتصاد الجديد، بينما تجد في الجهة الأخرى في أسفل السُّلَّم الاقتصادي الاجتماعي، أولئك الذين غالبًا ما يَفتقرون إلى المهارات أو المؤهِّلات، والذين يشعرون أنَّ وظائفهم أو حتى طريقة عيشهم مُهدَّدة بالزوال.
وتُواجه دولة السوق – خارج النموذج السياسي التقليدي لليمين واليسار – أزمةً مزدوجة على الصعيد العقلاني والصعيد التشريعي؛ إذ كيف يُمكن لها أن تُدير الأشغال المُوكلة إلى عُمَّال في الخارج، في الوقت الذي يَستفيد فيه القائمون على تلك الأشغال، وتتضرَّر العمالة المحليَّة؟ وكيف يُمكن لها احتواءُ العولمة في حين أصبَحت مَطلبًا للنموِّ الاقتصادي؟ وكيف يُمكن لها أن تضمنَ السيطرة الصحيحة على التأثيرات الضارَّة التي تُخلِّفها الصناعات في البيئة؟
إنَّ جميع أزمات العولمة هذه، ما هي إلاَّ نتيجة مباشرة لإضعاف الدولة القوميَّة؛ فالدولة الضعيفة عاجزة عن حماية مواطنيها، وبالتالي لا يُمكن لها الاتِّكال على ولائهم؛ لأنَّ المواطنين يُصوِّتون لمن يَمنحهم ظروفًا شخصيَّة أفضلَ، وما ذلك إلاَّ لأنَّ إضفاءَ طابعٍ شخصي على السياسة، قد أدَّى إلى كسْر نماذج التصويت التقليديَّة القديمة.
التمويل الإسلامي:
باتَ التمويل الإسلامي من أسرع القطاعات نموًّا في صناعة التمويل العولمي، وأكثر ديناميكيَّة، وكلُّ منتج من منتجات التمويل على الطريقة الغربيَّة له شريعته، فالقانون الإسلامي على سبيل المثال يُعد أداةً مِطواعة لا تَقتصر على تمويل المشاريع الصغيرة، ومشاريع التنقيب عن النفط والغاز، وبناء الجسور فحسب، بل تشمل أيضًا رعاية الأحداث الرياضيَّة؛ حيث يتَّصف التمويل الإسلامي بكونه مبتكرًا ومَرِنًا، ولرُبما بربحيَّة عالية، بالنظر إلى أنه مُطبَّق في 70 دولة، ولديه أصولٌ بقيمة 500 مليار دولار تقريبًا، وهو دائبُ التوسُّع؛ إذ يوجد ما يربو على مليار مسلم مُتلهِّفين لدَعم هذا النظام، ويتوقَّع المُحللون أن يُشكِّل قريبًا ما يُقارب 4 % من الاقتصاد العالمي؛ أي: ما يُعادل تريليون دولار في هيئة أصول، ويُفسِّر هذا الرقْم سببَ تلهُّف البنوك الغربيَّة على تقديم خِدْمات ماليَّة بموجب الشريعة الإسلاميَّة.
وها هو “سيتي بنك غروب” – وكذلك العديد من بنوك التجزئة الغربية الأخرى – يَعمد إلى فتْح فروع إسلاميَّة في بلاد مسلمة، فيما قام بنك بريطانيا الإسلامي – الذي يُعَدُّ أوَّل بنك يُقدِّم خِدمات ماليَّة لقاعدة عملاء من المسلمين الأوروبيين – بتعويم أسهمه في بورصة لندن بحلول نهاية عام 2004.
والطريف في الأمر أنَّ الأزمات الاقتصادية العالميَّة الثلاث التي ألَمَّت بالرأسمالية الغربيَّة – وهي أزمة النفط في سبعينيَّات القرن الماضي، والأزمة الآسيويَّة أواخر التسعينيَّات، وأحداث 11 سبتمبر – مهَّدت الطريق لصعود التمويل الإسلامي.
وعلى النقيض من اقتصاديات السوق، يتَمحور التمويل الإسلامي حول مبادئ العقيدة الإسلامية، وبما يتوافَق مع أحكام الشريعة المُستمدة مباشرةً من القرآن الكريم، كما أنَّ العلماء والمفكرين، والكُتَّاب والقادة الإسلاميين، لطالَما أيَّدوا حظر الرِّبا، وهو الفائدة التي يتقاضاها المُقرِضون، وشجَبوا “الغَرَر” الذي يعني أيَّ نوعٍ من أنواع المُضاربة.
وبموجب ذلك ينبغي ألاَّ يتحوَّل المال إلى سلعة في حدِّ ذاته؛ لتوليد المزيد من المال، وبالتالي فإن التمويل الإسلامي ينْأى عن صناديق التحوط والأسهم الخاصة؛ لأنها تَزيد المال عن طريق تجريد الأصول، والمال ما هو إلاَّ وسيلة أو أداة إنتاجيَّة بحسب الرؤية التي وضَعها آدم سميث وديفيد ريكاردو، وهو بالضبط المبدأ الذي تَنطوي عليه الصكوك، وهو الاسم الذي يُطلق على السندات الإسلاميَّة، والتي تَرتبط دومًا باستثمارات حقيقيَّة؛ مثل: دفْع تكاليف إنشاء أوتوستراد مدفوع، ولا تُستخدم مُطلقًا لأغراض المضاربة؛ وذلك لأنَّ هذا المبدأ نابعٌ من حظر أحكام الشريعة للمُقامرة، وكذلك أيُّ شكلٍ من أشكال الدَّين والأنشطة التي تتاجر بالمُخاطرة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر أعرَب مُؤيِّدو التمويل الإسلامي المُرَوِّجون له مرارًا عن تبرُّمهم من دخول البنوك – التي تتَّبِع الأسلوب الغربي – البلدانَ المسلمة، وتَمَّ إصدار عدَّة فتاوى تؤكِّد أنَّ أنشطة بنوك الاحتلال القائمة على تقاضي فائدةٍ لا تُوافق الشريعة، لكن بما أن المؤسَّسات المالية الغربيَّة كانت البنوك الوحيدة النشطة في العالم الإسلامي، فقد اضطرَّ الملتزمون إلى الاستعانة بخِدماتها حتى لو كانتْ محظورة دينيًّا.
ومنذ منتصف خمسينيَّات القرن الماضي، وحتى منتصف سبعينيَّاته، والاقتصاديون والخُبراء الماليون، وعلماء الشريعة والمُفكرون – يتَدارسون احتمالات حذْف معدلات الفائدة، وإيجاد مؤسَّسات ماليَّة تُقدِّم بديلاً للربا بما يتوافَق مع أحكام الشريعة، وكان النظام الاقتصادي الإسلامي في أذهانهم يتضمَّن الزكاة الواجبة؛ لمساعدة الفقراء، وغير ذلك من الدعائم الأساسية في الدين الإسلامي، ومن ذلك تمويل فريضة الحج إلى مكة.
فحتى مطلع سبعينيَّات القرن الماضي، كانت الاقتصاديات الإسلاميَّة لا تزال في المهد، وكان يُنظر إليها بكثيرٍ من الشك، ففي تلك الأيام لَم يكن أحد يَعتقد أنَّ النظام المصرفي الإسلامي سيلاقي كلَّ هذا النجاح.
إضافة إلى ذلك، يُمثِّل التمويل الإسلامي حاليًّا القوة الاقتصادية العَوْلَميَّة الوحيدة التي تتحدَّى – من حيث المفهوم – الاقتصاديات المشبوهة؛ إذ إنه لا يسمح بالاستثمار في صناعة الأفلام الإباحيَّة، أو المخدرات، أو التبغ، أو المقامرة، وغيرها من المجالات التي ازدَهرت إثر سقوط جدار برلين، بفضْل المشبوهين في ظلِّ العولمة، الذين يمارسون أعمالهم القذرة تحت أعين دولة السوق اللامبالية.
الاتفاق الاجتماعي الجديد:
من المرجَّح أن يَنبثق سيناريو مماثل عندما ينجلي الغبار الذي خلَّفته الاقتصاديات الغربية المشبوهة في نهاية المطاف، وقد يكون الفائزون هم سكان الصين والمسلمين، الذين أمامهم الكثير من المكاسب والمنافع؛ حيث يُمكن تحديد بعضٍ من البنود والشروط الرئيسة للاتِّفاق الاجتماعي الجديد، وبادئ ذي بَدءٍ سيُوضَّح الاتِّفاق الاجتماعي بعد العولمة بين الدولة والفرد؛ ذلك أنه في حين ستُطلَق يدُ الفرد في التجارة والاقتصاديَّات، ستُحافظ الدولة على احتكار السياسات التي تتضمَّن السياسة الأجنبيَّة والسياسة النقديَّة.
وسيوفِّر التمويل الإسلامي هيكل المعيار النقدي الجديد، الذي سيتمُّ تَثبيته مقابل الذهب، مثلما حدَث بعد الثورة الثقافيَّة، وسيُصبح الدينار الذهبي حجرَ الزاوية في الاستقرار النقدي، ويَلقى تأييدًا عالميًّا، أمَّا طبيعة المال القائمة على الثقة، فسَتتطلَّب تدخُّل الدولة؛ لتضمنَ الحفاظ على قيمة العُملة الورقيَّة بالذهب، وسيقوم الناس بمحض إرادتهم بتفويض هذه المسؤوليَّة إلى الساسة، فتكون معدَّلات التداوُل مستقرَّة بالمقابل.
وسيحجم رجال السياسة عن التدخُّل بشكلٍ مباشر في التجارة والاقتصاد، ويَعمل التمويل الإسلامي – مع نظام القيمة المُدمج فيه – على الحدِّ من نفوذ المَشبوهين، وسَحْقهم في نهاية المطاف، فيما تَعمل اقتصاديَّات الشريعة على تقليم طبيعة الاقتصاديَّات المشبوهة وتَشذيبها.
كما سيتمُّ نَبْذ المشبوهين، من خلال قواعد أخلاقيَّة تُحرِّم أعمالاً؛ مثل: المقامرة، والاتِّجار في المخدرات، ويتمُّ تنظيم صناديق التحوط والأسهم الخاصة، عن طريق نظامٍ مالي يَرفض مفهوم أنَّ المال يُولِّد المال.
______________________________________________________
الكاتب: أحمد حسين الشيمي
Source link