لا تظنَّ أنَّ أصحاب الأفلام والمسلسلات والحَفَلات والرَّقَصات، والقنوات والإذاعات، والصور والمجلات، يريدون أن نرتكبَ المعاصي، لا واللهِ، إنهم يريدون الميلَ العظيم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}
قال – تعالى -: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [سورة النساء: 27].
إنَّها إرادة الحقِّ – سبحانه وتعالى – في مقابِل إرادة الباطِل، التوبة إرادة الحق، والميْل – وليس مجرَّد الميل، بل إنَّه الميل العظيم – إرادة الباطل.
فأين نحن؟ هل نحن مع الحق وما يريد؟ أو مع الباطل وما يريد؟
لا بدَّ من حسْم الأمر مع أنفسِنا بصِدق، فليستِ الإجابة ما تتفوَّه به الألْسنة، وتتحرَّك به الشِّفاهُ فحسْبُ، بل الإجابة ما استقرَّ في القلْب والوِجدان، وتحرَّكت به الجوارح والأرْكان؛ ليصيرَ في حياة الإنسان منهجَ حياة لحركاته وسكناته، لتصوراته وإراداته، لمشاعِرِه وأحاسيسه؛ فتَضبِط أخلاقُه وتصرُّفاته عواطفَه ووجدانه بمنهج الحقِّ أو منهج الباطل.
ولَمَّا كان الدِّين النصيحة، كانت هذه الكلمات بيْن أيديكم، أبيِّن فيها جوابَ الأسئلة الثلاثة التي عليها مدارُ هذا الأمر، وهي:
1- ماذا يريد الحق – سبحانه وتعالى – منَّا؟
2- مَن هم الذين يتَّبعون الشهوات؟ وماذا يريدون منا؟
3- مَن نحن؟ وماذا نريد؟
والآن مع السؤال الأول:
1. ماذا يُريد الحق – سبحانه وتعالى – منا؟
قال – تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: 185].
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النساء: 26].
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء: 27]
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: 28].
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [سورة المائدة: 6].
انظر – رحمك الله – ماذا يريد الله منَّا، يريد أن ييسِّر علينا، ويَهديَنا ويبيِّنَ لنا سبيل الهُدى، يريد أن يتوبَ علينا، ويُخفِّفَ عنَّا، ويطهرنا ويتمَّ نِعمته علينا.
كلماتٌ كلها رحْمة ورأفة، سبحانك ما أَرْحَمَك أنت الرحمن الرحيم!
يُريد بنا اليُسرَ والتَّخفيف، ورَفْع الحَرَج، فمَا شرَع سبحانه شرعًا إلاَّ ويسَّرَه، فأمَر بالوضوء ورخَّص في المسْح على الجورب؛ تيسيرًا وتخفيفًا للمسافر ثلاثةَ أيام بلياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، والمسْح على الجبيرة للمريض مدَّةَ مرضه، وجعل التراب طهورًا لمن فَقَدَ الماء أو عجَز عن استعماله؛ رحمةً منه، وأمر بالصلاة قائمًا، فإنْ لم تستطع فقاعدًا، فإنْ لم تستطع فعَلَى جَنْب، ورخَّص في قصْر عدد الركعات للمسافر، ورخَّص في الجمْع للمريض ولأصحاب الحاجات والأعذار، وأسْقط عن المرأة والعبد والصبيِّ والمسافر وجوبَ الجُمُعة؛ تخفيفًا وتيسيرًا.
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسواك عندَ كل صلاة»، فلم يمنعْه من ذلك إلاَّ خوف المشقَّة على أمَّته، وأيُّ مشقة في السواك خمسَ مرات في اليوم؟! إنَّه التيسير والرحمة التي يريدها الله لعباده، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
يُريد الله ليبيِّن لنا ويهديَنا: بيَّن لنا سبحانه منهجَه وصراطه المستقيم بيانًا شافيًا لا يزيغ عنه إلا هالِك أو ضالٌّ، فضرَب لنا الأمثال؛ قال – تعالى -: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 – 76].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28].
وقصَّ لنا القَصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] قصَّ علينا حالَ الصالحين ونجاتهم، والطالحين وهلاكهم، وبيَّن لنا البراهين القاطعة، والأدلة العقلية الساطعة، التي تُنير عقولَ أولي الألباب، وتشْرَح صدورَ أولي النُّهى.
يُريد الله أن يتوبَ علينا ويطهِّرَنا، سبحان الله! بيَّن لنا السبيل، وخفَّف علينا التشريع، ثم أقال عثراتِنا إنْ عصيناه؛ لعِلمه بضعفنا، ولم يُيئِّسْنا من رحمته، ولم يغلقْ بابه دوننا؛ لأنَّه لا ملجأ لنا إلا إليه، وهو أرحمُ بنا من أنفسنا وأهلينا، انظروا إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لما رأى امرأةً من السبي في إحْدى الغزوات اشتدَّ بها الكربُ، وعظم بها الخَطْبُ، تبحث عن وليدها، وفَلذة كَبِدها، فوجدته فضمَّته إلى صدرها وألقمتْه ثديها، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أترون هذه طارحةً ولدَها في النار» ؟ فعجِب الصحابة لذلك، فقالوا: لا والله يا رسولَ الله لا تطرحه في النار، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها».
بل يفْرح سبحانه وهو الغنيُّ عنا بتوبتنا! اسمع: «للَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه حين يتوب إليه مِن أحدكم كان على راحلته بأرْض فلاة، فانفلتتْ منه وعليها طعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عندَه، فأخذ بخِطامها، فقال مِن شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح».
يُريد الله أن يتمَّ علينا النِّعْمة، ونِعمةُ الله العظمى هي نِعمةُ الإسلام، التي فطَرَنا الله عليها؛ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
فكانتْ هي النِّعْمة، وكان تمامها بإرْسال الرُّسل، وبلوغ الشرع؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإذا استقامتِ النفس على هذا الدِّين، سعِدتْ في الدارين، والسعادة هي أعظمُ ما نرجوه؛ لذلك كان دعاؤنا في كلِّ صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 -7].
مَن هم الذين يتَّبعون الشهوات؟ وماذا يُريدون منا؟
اختلف أهلُ التفسير في الموصوفين باتِّباع الشهوات، فقيل: هم اليهود والنصارى، وقيل: هم المجوس؛ لأنَّهم يُحلُّون نِكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت، وقيل: هم الزُّناة، يريدون أن تَميلوا عن الحقِّ فتزنون كما يزنون، والصحيح: هم جميعُ أهل الباطل، وقُدوتهم وقائدهم إبليس؛ أوَّل مَن عصى الله واستكبر عن طاعته وكفَر به، وأغْوَى من أطاع ربه، وحسَدَه، وكان سببًا في إخراجه من الجنة، وأقسم على الاستمرارِ في إضلال ذريته إلى يوم البَعْث، وهكذا أتْباعه الذين يتبعون خُطواتِه، ويسيرون في شِعاب كفره، لا ينفعهم إنذار، ولا تُفيدهم الآيات، يأمرون بالمنكر، ويَنهَوْن عن المعروف؛ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].
إنَّهم كالأنعام يَلْهَثون وراءَ شهواتهم وأهوائهم، ليس لهم مِن غاية ولا هَدَف إلا في إطار الحياة الدنيا، فتجْمَعهم بقطعان الأنعام صِفةُ السعي الحثيث لتلبيةِ الشهوات، بل الأنعام تفضلهم؛ لأنَّها لم تخرج عن المهمَّة التي خلَقَها الله تعالى مِن أجْلها؛ قال – تعالى -: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
فهُم جُنْد الشيطان وأولياؤُه، وحِزْبه وأنصاره، وأعوانه وأتباعه، هو قائدهم وقدوتهم، على خُطاه يسيرون، ولدِينه يتَّبعون، خاضعون مستسلمون، لا يبغون عن شباكه فكاكًا، ولا عن شِراكه هربًا، لرايته رافعون، وللوائه عاقدون، وبِحَمْده مسبِّحون، وهُم مع ذلك غافلون لاهون، لا يشعرون أنَّهم إلى جهنَّمَ سيُسْحَبون، وفي النيران سيُعذَّبون، يومها يتبرأ الأتباع من المتبوعين، وتنكشِف الحقائق ويندمون، وقتَ لا ينفع الندم.
فهُم يتَّبعون الشهوات؛ حبائل الشيطان وخُطواته إلى غايته، وغاية الشيطان أنْ يَكفُرَ الناس؛ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، ليس له غاية غيرها، حمَلَهم على اتِّباعه حبُّ الشهوات وزِينتها التي استدرجهم بها {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]، وقد أخذ العهْد على نفسه بغوايتهم، ولكنَّهم غافلون؛ {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 – 83].
حتى صار من جُنْد إبليس مِن الإنس مَن يفوق أقرانَه من الجن في صُوَرِ الفساد والإفساد، والغَواية والإضلال، بالصَّوْت والصورة، والمشهَد الملموس، والواقِع المحسوس، تجاوز الوسوسة، لا يردَعُه قراءة قارئ، ولا استعاذةُ مستعيذ، إنْ ذكَّرته سخِر منك، وإن تركتَه تلمَّس زلاتِك، وتعقَّب هَنَاتِك، حتى يفضحَك، لا يُرضيه إلا أن تكون قرينَه وحليفه، بل ومرشده لكلِّ فريسة غافلة، سخَّرَ وقتَه وجُهْدَه، وماله وقلمَه، وسلطانه للصدِّ عن سبيل الله.
زوَّده الشيطانُ بخِبرة آلاف السِّنين من التزيين والإغواء لبني البشَر، فكَمْ أضلَّ الشيطان من الأمم والشعوب، وصدَّهم عن السبيل، مِن آدم – عليه السلام – إلى يومِنا هذا، بل إلى يوم القِيامة؛ {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 20 – 27].
ماذا يريدون منا؟
يُريدون منَّا الميل، ولكن لا يَكفيهم أن نميلَ فقط، ولكن أن نميل ميلاً عظيمًا.
والميل عكْس الاستقامة، والاستقامةُ الهداية، والميل هو الانحراف، والميْل يكون انحرافًا من شيءٍ إلى شيءٍ فإنْ كان مع انقطاع الصِّلة بالأمْر الأول فهو الميْل العظيم.
فالمعصيةُ ميْلٌ عنِ الاستقامة مع بقاء تعلُّقِ القلْب بالإيمان، كما هي عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة، وكلَّما قويتِ المعصية ضعُف ذلك التعلُّق حتى إذا حلَّ الكُفْر – والعياذ بالله – في القلْب خرج الإيمان، وانقطعتِ الصلة بالله، وهذا هو الميْل العظيم؛ {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
فليستْ غاية الشيطان وأتباعه هي انتشارَ المعاصي بيْن المسلمين، ولكنَّها الخُطوات التي حذَّرنا الله منها: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، وانظر لخُطواته، ولا تكن كبرصيصَا العابد.
قال ابن عبَّاس: كان راهبٌ في الفترة يقال له: بَرَصيصَا، قد تعبَّد في صومعته سبعين سَنة، لم يعصِ الله فيها طرْفة عين، حتى أعيَا إبليس، فجمَع إبليس مردةَ الشياطين، فقال: ألا أجِد منكم مَن يكفيني أمْرَ برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحِب الأنبياء، فقال: أنا أكفيكَه.
فانطلق فتزيَّا بزيِّ الرهبان، وحلَّق وسط رأسه، حتى أتى صومعةَ برصيصا، فناداه فلم يُجبْه، وكان لا يَنفتِل من صلاته إلا في كلَّ عشرة أيام يومًا، ولا يفطر إلاَّ في كلِّ عشرة أيام، وكان يواصِل العشرة الأيَّام والعشرين والأكثر، فلمَّا رأى الأبيض أنَّه لا يجيبه، أقبلَ على العبادة في أصْل صومعته، فلمَّا انفتل برصيصا مِن صلاته، رأى الأبيض قائمًا يصلِّي في هيئة حَسَنة من هيئة الرُّهبان، فندِم حين لم يجبْه، فقال: ما حاجتُك؟ فقال: أن أكونَ معك، فأتأدَّب بأدبك، وأقتبس مِن عَملِك، ونجتمع على العبادة، فقال: إنِّي في شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض أيضًا على الصلاة، فلمَّا رأى برصيصا شدَّةَ اجتهاده وعبادته، قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذنَ لي فأرتفع إليك، فأذِن له فأقام الأبيض معه حولاً لا يُفطِر إلا في كلِّ أربعين يومًا يومًا واحدًا، ولا ينفتِل من صلاته إلا في كلِّ أربعين يومًا، وربَّما مدَّ إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهادَه تقاصرتْ إليه نفسُه، ثم قال الأبيض: عندي دعوات يَشفي الله بها السقيمَ، والمُبتلى والمجنون، فعلَّمه إيَّاها.
ثم جاء إلى إبليس، فقال: قد واللهِ أهلكتُ الرجل، ثم تعرَّض لرجل فخنَقَه، ثم قال لأهله – وقد تصوَّر في صورة الآدميِّين -: إنَّ بصاحبكم جنونًا أفأطبَّه؟ قالوا: نعم، فقال: لا أقْوى على جنيِّته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإنَّ عنده اسمَ الله الأعظم، الذي إذا سُئِل به أعطى، وإذا دُعِي به أجاب، فجاؤوه فدَعَا بتلك الدعوات، فذهَب عنه الشيطان، ثم جعَل الأبيض يفعل بالناس ذلك، ويُرشدهم إلى برصيصا، فيُعافون، فانطلق إلى جاريةٍ من بنات الملوك بيْن ثلاثة إخوة، وكان أبوهم مَلِكًا فمات واستخلَف أخاه، وكان عمُّها ملكًا في بني إسرائيل فعذَّبها وخنقَها، ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبِّب؛ ليعالجها، فقال: إنَّ شيطانَها مارد لا يُطاق، ولكن اذْهبوا بها إلى برصيصا، فدعوها عندَه، فإذا جاء شيطانُها دعا لها فبرِئتْ، فقالوا: لا يُجيبنا إلى هذا، قال: فابْنُوا صومعةً في جانب صومعته، ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانةٌ عندك فاحتسِبْ فيها، فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعةً ووضعوا فيها الجارية، فلما انفتَل مِن صلاته عاين الجاريةَ، وما بها من الجمال فأُسْقِط في يده، فجاءَها الشيطان فخنَقَها، فانفتل من صلاته، ودعَا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقْبل على صلاته فجاءَها الشيطان فخنَقها، وكان يكشِف عنها ويتعرَّض بها لبرصيصا، ثم جاءَه الشيطان، فقال: ويحَك! واقِعْها، فما تجد مثلَها، ثم تتوب بعد ذلك، فلم يزل به حتى واقعَها فحملتْ وظهر حملُها، فقال له الشيطان: ويحَك! قد افتضحتَ، فهل لك أن تقتُلَها، ثم تتوب فلا تفتضح، فإنْ جاؤوك وسألوك فقل: جاءَها شيطانها فذَهَب بها، فقتَلَها برصيصا، ودفنها ليلاً، فأخذ الشيطان طرفَ ثوبها حتى بقي خارجًا من التراب، ورجَع برصيصا إلى صلاته.
ثم جاء الشيطانُ إلى إخوتها في المنام، فقال: إنَّ برصيصا فعَل بأختكم كذا وكذا، وقتَلَها ودفنَها في جبل كذا وكذا، فاستعْظَموا ذلك، وقالوا لبرصيصا: ما فعلتْ أُختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانُها، فصدَّقوه وانصرفوا.
ثم جاءَهم الشيطان في المنام، وقال: إنها مدفونةٌ في موضع كذا وكذا، وإنَّ طَرْف ردائها خارجٌ من التراب، فانطلقوا فوجدوها، فهَدَّموا صومعته وأنزلوه وخنَقوه، وحملوه إلى الملِك فأقرَّ على نفسه فأمر بقتْلِه، فلما صُلِب قال الشيطان: أتَعرِفني؟ قال: لا والله، قال: أنا صاحبُك الذي علمتُك الدعوات، أما اتقيتَ الله، أما استحيت وأنت أعبدُ بني إسرائيل؟! ثم لم يَكفِك صنيعك حتى فضحتَ نفسك، وأقررتَ عليها، وفضحتَ أشباهك من الناس، فإنْ متَّ على هذه الحالة لم يفلحْ أحد من نظرائك بعدَك، فقال: كيف أصنع؟ قال: تُطيعني في خصلة واحدة وأنْجيك منهم، وآخذ بأعينهم، قال: وما ذاك؟ قال تسجُدُ لي سجدةً واحدة، فقال: أنا أفعل، فسجَد له من دون الله، فقال: يا برصيصا، هذا أردتُ منك، كان عاقبة أمرك أن كفرتَ بربِّك، إني برئ منك، إني أخاف الله ربَّ العالمين!
فما أراد الشيطان منه أن ينظرَ إلى الحرام ولا أن يخلوَ بأجنبية، بل ولا حتى أن يزنيَ بها ثم يقتُلها ووليدَها، إنما أراد أن يسجُدَ له، ويكفر بربه، فيكون من أصحاب النار، وبئس المصير.
فلا تظنَّ أنَّ أصحاب الأفلام والمسلسلات والحَفَلات والرَّقَصات، والقنوات والإذاعات، والصور والمجلات، يريدون أن نرتكبَ المعاصي، لا واللهِ، إنهم يريدون الميلَ العظيم؛ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
فالمسألة اليوم أصبحتْ مخطَّطًا كبيرًا للنيل من أمَّة الإسلام على محاورَ ثلاثة:
1- اللادين.
2- الدِّين الفاسد.
3- القتل والتشريد.
ويتمثَّل (اللادين) في مسْخ الهُويَّة الإسلامية، فيعيش المسلمون بلا هدَف ولا غاية، فيصيرون مسلمين انتسابًا لا حقيقة، وتذوب في القلوب معاني الإيمان، فلا يبقى في القلوب هَمٌّ ولا غاية إلا الدنيا وملذَّاتها الزائلة، عليها يتنافسون، ومِن أجلها يقتتلون، فلا قِيمةَ ولا مبدأ يردعُهم، ولا دِين يشغلهم، حتى إذا تمكَّن المسْخ من القلوب تبرؤوا حتى من مجرَّد الانتساب.
وسبيلُ أعداء الإسلام وأتْباع الشهوات أصحاب الميل العظيم لذلك هو تطبيعُ المعصية، حتى تصير جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الناس، فيصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ويُعاب على مَن ينكرها، ويُمدح فاعلها، ويُثْنى عليه ويكافَأ؛ فيشبُّ على ذلك الصغير، ويهرَم عليه الكبير، ويبقى الإسلام في غُرْبة، وأهله في وحْشَة.
فتُوضَع للمعاصِي قوانينُ تُبيحها وتحميها، وتحارِب من يتعرَّض لإنكارها بالوَيْل والثُّبور – وقد يغيب في غياهِب السُّجون – وأهل المجون في عَيْشهم يرغدون، وفي أمْنهم يرتعون ويهنِّئون.
تَحميهم العُيونُ الساهِرة، والجنود البواسل الشجعان بالليل والنهار، حتى لا يصيبهم مكروه، فهُم ذَخيرةُ البلدان.
وتُسخَّر لهم وسائلُ الإعلام، فيظهر البطل والبطلة على الشاشة الصغيرة والكبيرة؛ ليحكيَ للشباب كيف ظلَم الإسلامُ المرأة، وحرَمها من الدنيا ونعيمها، كيف حرَمها من حريتها، وكيف استطاعتْ أن تتخلَّص من تلك القيود، وتُلْقي بذاك الحجاب، ويُصفِّق الجماهير للبطل والبطلة.
وتُفتَح المعاهد والجامعات للسينما والمسْرح، والرقص؛ شرقي وغربي، يتقدَّم لها الشبابُ والفتيات؛ لعله يكون سعيدَ الحظ الذي يظفر بالبطولة.
وتصدُر الفتاوى لتردَّ على المتشددين: حلال، حلال، حلال، ويُلوَى عنق النصوص، ويُبحث في بطون الكتب عن زلَّة عالِم، أو حتى سقْطة جاهل؛ ليضلُّوا الناس بغير علم.
أو يتركوا أمْرَ الفتوى لكلِّ جاهل لا يُحسن أن يقرأ آيةً، فيقول: إنَّ الدِّين يُسْر، يَسِّروا ولا تُعسِّروا، الإسلام سلامة القلْب للآخرين، لا علاقة للإسلام بحريَّة الإنسان في مَلْبسه ومطعمه، ومسكنه وعمله.
فتُسأل الراقصة: ممكن نسأل حضرتك سؤالاً: هل الرَّقْص حلالٌ أم حرام؟
فتجيب المفتيةُ – أو كما سماها الصادق المصدوق (الرويبضة) -: حلالٌ طبعًا؛ لأنَّنا نتعب لنُسعدَ الآخرين، والضرورات تُبيح المحظورات!!
ويُسأل المغني: هل الحبُّ حلال أو حرام؟
فيجيب “المفتي”: الحبُّ عَلاقة سامية بيْن الجنسَيْن، فهو – ولا شكَّ – حلال، وأيُّ حياة زوجية لم تسبقْها قصة حب، تكون حياةً تعيسة، وتنتهي بنهاية مؤلِمة!!
وتَنبري الأقلام، وتسوَّد الصحف بأخبار النجوم؛ لتُسمِّيَ الأشياء بغير اسمها:
سافرتِ اليوم الفنانة الكبيرة إلى فرنسا في رحلة خلوية (حتى ينسى الناس أنَّ المرأة لا يَحِلُّ لها أن تسافرَ إلا مع مَحْرَم لها)، وتزوَّجتِ الفنانة… من المغنِّي الشهير.. بعد قصَّة حب دامتْ أكثر من عشر سنوات (حتى ينسى الناس العِفَّة والطهارة، وينتشر اتخاذ الأخدان).
وتُحيي الراقصة الموهوبة لياليَ رمضان في خَيْمةٍ رمضانية على شاطئ النِّيل – ملحوظة: التذكرة شاملة السحورَ على أنغام الموسيقا.
أخبار الحوادث: بعد البحْث والتحرِّي تم القبضُ على مجموعةٍ من الفنادق تُتَداول فيها خمورٌ مغشوشة بمَرْكات مزيَّفة غير مطابقة للمواصفات المصرَّح بها! المشكلة أنَّها مغشوشة!
وتُعلن الدول عن الجوائز التشجيعيَّة لأفضل فيلم، وأفضل مسلسل، وأجمل أغنية، وأجمل فتاة.
وتُسلَّم الجوائزُ في حفْلة يشهدها أكابرُ القوم من مفكِّرين وسياسيِّين واقتصاديِّين، يُصفِّقون ويهنِّئون، ولو كانوا أصحابَ حظ سعيد تُلتقَط لهم الصور مع الفنَّانين والفنانات.
فمعصيةُ اليوم أرادوها خروجًا عن منهج الله باستحلال الحرَام وتسويغه للناس، حتى يصلوا إلى غايتهم المشؤومة، وهي الميل العظيم.
فإنْ عجزوا عن ذلك كان المحور الثاني وهو الدِّين الفاسد بنشْر الطرق الصوفية على يد مؤسَّسات تُشرِف عليها أكبرُ الجهات، وتُنفق عليها الأموال بالمليارات، ويُتابِع ذلك سفراءُ دول الكفر من اليهود والنصارى، ويحضرون الموالدَ بأنفسهم، ويُبارِكون نشرَها، ويفتحون لها مجالاتٍ في دول العالَم، وخاصة الجاليات الإسلامية التي لم ترسخِ العقيدة الصحيحة في نفوس أبنائها، فإنْ لم ينجحوا في تحريف الفِطَر، حَرَصوا على التشكيك والتشويه في ثوابِت العقيدة، فانظرْ لأحدِ أكابرهم يقول على مرأًى ومسْمَع من ملايين الأتْباع: “اليوم مولِد السيِّد البدوي المهاب، الذي إذا دُعي في البَرِّ أو البحر أجاب”!
ويقول آخر: “الأديان الثلاثة (الإسلام والنصرانية واليهودية) ما هي إلا طُرُق إلى الله، فأيَّ سبيل سلكتَه وصَّلك لمطلوبك”.
فللشيطانِ سبيلان لقلْب العبْد: الشهوات والشُّبهات، وهما متلازمانِ لا ينفكَّان: فساد الإرادات، وفساد التصورات، فساد القوة العِلْمية وفساد القوة العَملية؛ لأنَّ التصورات والإرادات، أو القوة العِلمية والقوة العَملية، قوْل القلب وعمله، أصلهما في القلْب، وقد قال الصادق المصدوق: «ألا إنَّ في الجَسَد مُضغةً إذا صلَحتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب».
فإذا يَئِس الشيطان وأعوانُه من أهل الإيمان، ممَّن سلِمتْ قلوبهم من عبادة الشهوات، وسلِمتْ عقائدهم من البِدع والأهواء، كان المحور الثالث القتْل والتشريد، والإبادة الجماعية، بلا رحمةٍ ولا هوادة، تُنسَى الكَلِمات الرنانة: حقوق الإنسان، والحرية والعدل والمساواة، وحقْ كل إنسان في الحياة الكريمة.
وتظهر: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49]، أو {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، سبحان الله! {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
فمَن نحن؟ وماذا نريد؟
يجب أن نكونَ صادقين مع أنفسنا، إنْ كذبتَ على الناس جميعًا، فلا تكذبْ على نفسك فتُرديها، فلنسلْ أنفسنا.
هل نحن نحبُّ الله أم لا؟
هل نحن أتْباع محمَّد أم نحن أتْباع الشيطان والهوى؟
هل نحن أصحابُ غاية وهدف، أم نحن كالأنعام نُساق للهاوية؟
هل نحن نؤمِن باليوم الآخر، أم هي أساطيرُ الأولين؟
هل نحن ننصُر الإسلام ونرفع رايتَه، أم نُحارِبه ونعادي أهله؟
• نريد أن نُحبَّ ربَّنا الرحمن الرحيم، البَرَّ الرؤوف، الحليم الودود الكريم، التوَّاب العفو الغفور، الحَكيم العليم، الخبير اللطيف، الحميد المجيد، القدُّوس السلام، الحيُّ القيُّوم، السميع البصير، الرقيب الشهيد، الصَّبور الشكور، الغنيُّ العظيم، العزيز الملك، العدل القادر، القاهر القوي، الذي خلقَنا ورزقَنا وهدانا، نحبُّه من سويداءِ قلوبنا لأسمائه وصفاته، كما نحبه لعظيم نَعْمائه؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
• ونحن أتْباع محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأنَّ صِدْق محبَّة الله لا تكون إلا باتِّباع نبيه – صلَّى الله عليه وسلَّم – {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]
• نتَّبعه – صلَّى الله عليه وسلَّم – حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، لا نَميل ولا نحيد، على السبيل نسير، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فهو قُدوتنا وأُسوتنا، نَفديه بآبائنا وأمَّهاتنا، وندفع عن سُنَّته كيْدَ الكائدين، وحِقْد الحاقدين بأرواحنا ودمائنا، نرَى أنَّ هديه خيرُ الهَدْي وأعدله، ما مِن أمر خير إلا ودلَّنا عليه، وما من أمْر شر إلا وحذَّرَنا منه، عزيز عليه عَنتُنا، بنا رؤوف رحيم.
• نحن أصحاب غاية في الوجود، نعرِف لماذا أَتَيْنا، وأين سنذهب، وما المرجع والسبيل، لم نُخلَقْ عبثًا، ولن نُترَك سُدًى وهملاً، لسْنا ممن يقول:
جِئْتُ، لاَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ، وَلَكِنِّي أَتَيْتُ
وَلَقَدْ أَبْصَرْتُ قُدَّامِي طَرِيقًا فَمَشَيْتُ
وَسَأَبْقَى سَائِرًا إِنْ شِئْتُ هَذَا أَمْ أَبَيْتُ
كَيْفَ جِئْتُ؟ كَيْفَ أَبْصَرْتُ طَرِيقِي؟
لَسْتُ أَدْرِي!!
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51].
هذه الغايةُ التي خلقَنا الله لها، وأخَذ علينا الميثاقَ بها، وأرْسَل لنا رُسلَه، وأنزل بها كتبَه، ولأجْلها خَلَق الدنيا والآخرة، والجَنَّة والنار، وهي عبادتُه ومحبته، والإنابة إليه، والإقْبال عليه، والطُّمأنينة به، والسُّكون إليه، بها استقامتِ النفوس وسعِدتْ، وبدونها شَقيتْ وضلَّت.
• نحن نؤمِن باليوم الآخِر بما فيه من نعيمٍ وعذاب، وسعادة وشقاوة، وجَنَّة ونار.
نوقِن بذلك، ولا نشكُّ ولا نرتاب، نحبُّ الله، ونخافه ونرجوه، إذا ذُكِرت الجَنَّة، طارتِ القلوب شوقًا إليها، وإذا ذُكِرت النار كان لسان حالنا: اللهمَّ سَلِّم سَلِّم، نعلم أنَّ سلعة الله غالية، فنقدِّم الغالي والنفيس، نقدِّم أغْلى ما نملك ثمنًا لها، ولا نقيل ولا نستقيل؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
• فإنْ كنَّا نحب الله، ونتَّبع رسوله، ونستقيم على الغاية التي خلقَنا الله مِن أجلها، ونؤمن أنَّ الجَنَّة دارُ المتقين، فلِمَ التهاون في نصرة هذا الدِّين، والله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؟!
أين نُصْرة المستضعفين من إخواننا المؤمِنين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]؟
فعَلَى كل مسلِم ومسلمة نُصْرة هذا الدِّين، كل بحسبه، لكن لا بدَّ أن يكون ذلك همَّنا وجهدَنا؛ حتى يغيرَ الله حال أمَّتنا؛ {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
ولا تقل: لا أستطيع نُصرةَ الدِّين، فصُوَر نصرة الدين كثيرة: “علِّم آية، انقُل مسألة، اروِ حديثًا، وزِّع مطوية، لخِّص محاضرة، قدِّم نصيحة، انشُرْ دعوة، اكتُبْ مقالة، صمِّم موقعًا، صحِّح خطأ، امنح محرومًا، أنفِق مالاً، أغِث لهفان، اهدِ حيران، ألْقِ خُطبة، قدِّم رأيًا، اقترحْ فِكرة، قاوم بِدْعة، أطعِم مسكينًا، اكسُ عاريًا، أشبِع جائعًا، ابنِ مسجدًا، انصرْ مظلومًا، خطِّط مشروعًا، اجمع صدقة، اكبِتْ عدوًّا، اكشف منافقًا، ادعُ كافرًا”.
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
____________________________________________________________
الكاتب: بو مريم محمد الجريتلي
Source link