منذ حوالي ساعة
ينبغي للباحثين فَهْم حقيقة الشخصية اليهودية، وسبْر أغوارها، ومعرفة تاريخها ورهاناتها عبر العصور … ولا يطمع طامعٌ في استقامة المعاصرين منهم؛ لأنهم وارثون لتاريخ أسلافهم الملوَّث من مساوئ أفعالهم ومنكرات أقوالهم.
قليل مِن النُّقّاد والأكاديميين الذين يبحثون في الأدب المقارن وتاريخه ودوافعه الاجتماعية والنفسية، وقليل جدًّا مَن يهتم بالأدب الصهيوني، ومعرفة أهدافه وبواطنه ونزعاته؛ ليقف على حقيقة الشخصية اليهودية وأطماعها ومآربها، سواء في الشِّعر أوْ الرواية أوْ القصة القصيرة.
ومِن الحقائق المهمّة التي غابت عن كثير من الناس أنَّ المجتمع الإسرائيلي هو مِن أكثر المجتمعات عنايةً بدراسة آداب الشعوب وطبيعتها، وكثير مِن الشعب الإسرائيلي يُجيدون حرفة الأدب وصناعته؛ فمنهم الشعراء، وكُتَّاب القصة والرواية. لذا؛ فإنَّ معظم دور الفن والسينما والمسارح، وكذلك دور النشر والمؤسسات الإعلامية في أوروبا وأمريكا تُدار بمعرفة الصهاينة، فيُوجِّهونها بما يخدم أطماعهم وإستراتيجياتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وفي هذا اللقاء مع الدكتور محمد جلاء إدريس –أستاذ الأدب والدراسات العبريّة بكلية الآداب بجامعة طنطا– استطاع أن يكشف لنا عن بعض الجوانب الخفيَّة في تاريخ الأدب العبري، وإستراتيجية الأدب الصهيوني، وكيف استطاع الأدباءُ اليهود توظيف الأدب لخدمة أهدافهم القومية والسياسية، وكُنْه أبعاد الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني، وما هي شروط البحث في الأدب العبري وخطورته… وإلى التفاصيل:
مجلة البيان: بدايةً، كيف تقرأ مستقبل الصراع العربي– الصهيوني في ظل المعطيات الجارية، والأحداث المتسارعة في الحقبة الأخيرة؟
من الضروري أن نعلم أنَّ الصراع القائم في القدس، وما حولها من أرض فلسطين المباركة، إنما هو جزء مِن معركة الوجود بين القرآن والتلمود… إنها معركة بيّنة بين الحق والباطل، مهما حاول الأفّاكون والمُرجفون أن يغضُّوا الطرف عن ذلك.
وليس مِن الحصافة، وليس مِن الفِطنة، بلْ ليس مِن الإيمان أن نُكرِّر الأخطاء، أوْ أن نُلْدَغ من ذات الجُحر الذي لُدِغَ منه السابقون، ونظلّ مَضحكةً للشعوب والأُمَم… فحاضر القوم هو ذات ماضيهم البغيض، وجرائمهم التي نراها ماثلةً أمام أعيننا لا تختلف عن الجرائر التي اقترفها أسلافهم في الماضي البعيد.
فالغدر، والخيانة، والتآمر، ونقض المواثيق، جينات متوارثة في القوم، لن يستطيعوا التخلّص منها إلى أن يأتي اليومُ الذي ينطق فيه الحجر والشجر، وقد عبّر القرآنُ الكريم عن مكنون نفوسهم وسوء طباعهم بألفاظٍ دقيقة ومعدودة، فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]؟ فهذه الجملة الاستفهاميّة تُعيد إلى الذاكرة كلّ ما مضى من جرائم اليهود في زمن أنبيائهم، وبين كل ما اقترفوه في عصر الرسالة الخاتمة، وما سيقترفونه في المستقبل.
فهذه الجملة القرآنية تقع بين التاريخيْن: القديم والحديث لليهود موقع العِبْرة المستنبَطَة والنتيجة المقرَّرة بين أسبابٍ مضت وأسباب تأتي… كيْ نَعتبِر بالقصص القرآني في تشخيصه لتلك النفسيَّة المريضة بالعِلَل الاجتماعية، والملوّثة بالخطايا، والمملوءة بالأوهام والأساطير التي رانت على عقولهم.
مجلة البيان: ترى، إلى أيّ مدى تصل أهمية دراسة الأدب والتعرف على طبيعة الشعوب والمجتمعات… وفي هذا العصر بالذات؟
الأدب يُمثِّل واحدًا من أهم وأوثق السجلاَّت المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات، والتي يصعب في أحيان كثيرة رَصْدها عبر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية، وما شاكلها.
وقد يرجع ذلك إلى طبيعة العملية الأدبية وطبيعة الأديب كفنان، فهو كائن ذو حساسية شعوريَّة خاصة، مؤهّل بهذه الحساسية لالتقاط خفايا الحركة الباطنة من محيط المجتمع وتسمُّع نبضاتها الهامسة عبر أُذُنٍ راداريَّة وعيونٍ مجهريّة لا يحوزهما غير الفنان فقط، الأمر الذي يوفّر للعمل الأدبي ثراءً وفيرًا من الحقائق والمعلومات التي يمكن للباحثين التقاطها وجمعها وتنسيقها وربطها بمعارفهم السابقة عن الواقع الاجتماعي.
أيضًا، نجد الأديب خِلافًا للفيلسوف والمفكر الاجتماعي والسياسي، فهو مزوَّد بمقدرة خاصة على التعبير عن وجهات نظره في أشكال رمزية وضبابية مُغلَّفة؛ الأمر الذي يُتيح له الإفلات من قيود التعبير التي قد تفرضها في بعض المجتمعات السلطاتُ السياسية، أوْ صرامة المعتقدات السائدة ضد وجهات النظر المعارضة أو المجددة.
أيضًا، نجد الأديب لا يملك بحكم طبيعة العمل الأدبي ذاته أن يطمس الحقائق السياسية والاجتماعية أو الاتجاهات النفسية إذا ما وضع عمله الأدبي في خدمة السلطة القائمة، وذلك أنه يضطر في سياق دفاعه عن أوضاع معينة إلى الإشارة الضمنيّة إلى الحقائق والميول التي يدافع ضدها!
لكل هذه الأسباب وغيرها، نلاحظ الاعتماد الكبير في دراسة المجتمعات القديمة على الوثيقة الأدبية في استكمال المعلومات عن حقيقة الموقف الشعبي والتيارات الباطنة في المجتمعات.
مجلة البيان: بصفتكم أستاذًا للدراسات العبريَّة، ترى إلى أيّ مدى كان اهتمام المعاهد والمؤسسات الإسرائيلية بدراسة الأدب العربي؟
نتيجةً لازدياد الثقة بالوثيقة الأدبية، فقد اتجه الباحثون في أوضاع المجتمعات الحديثة والمعاصرة إلى الاعتماد على الظاهرة الأدبية في الكشف عن مختلف الأوضاع في هذه المجتمعات –خاصة المجتمعات المعادية– على نحو مثمر وفعّال، أدَّى بأجهزة المخابرات في العالَم المعاصر إلى الاهتمام الشديد بدراسة آداب المجتمعات المعادية.
ولقد انتبهت الأجهزةُ الفكرية الاستخبارية في الواقع الإسرائيلي إلى هذه الحقيقة منذ وقتٍ مبكر، ومِن هنا جاء الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بدراسة الأدب العربي على اتساعه، بالإضافة إلى العناية بترجمة ونشر النصوص الأدبية العربية لتكون في متناول مَن يشاء من الباحثين الإسرائيليين المهتمين بدراسة الجوانب الاجتماعية والنفسية في المجتمعات العربية.
وعلى سبيل المثال، نجد الترجمة العبرية المبكّرة التي أنجزها «أبا إيبان» -وزير خارجية إسرائيل الأسبق– لإبداعية توفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف»؛ الأمر الذي يعكس مدى الاهتمام الرسمي الإسرائيلي بالتعرف على أعماق المجتمع المصري في بُعْده الريفي، بالإضافة إلى الاهتمام بالتعرُّف على الواقع الاجتماعي الحضري الذي يُعبِّر عن نفسه في الترجمة المستمرة لأعمال نجيب محفوظ وغيره من الروائيين المصريين والعرب مِمَّن تدور أعمالهم حول حياة المدينة.
مجلة البيان: ترى، هل حاول الأكاديميّون العرب دراسة الأدب العبري أوْ الإسرائيلي للتعرُّف على ديناميكية الواقع الاجتماعي والسياسي في إسرائيل؟
مِن أسف، أن نجد الاهتمام العربي بدراسة الأدب في الواقع الإسرائيلي المعادي بدأ في وقتٍ متأخر جدًّا، والذي أيقظ عندنا هذا الاهتمام هو حجم الهزيمة العسكرية التي وقعت بالعرب عام 1967م، وبعدها بدأ اهتمام شخصي لدى بعض طلاب الدراسات العليا بتوجيه بحوثهم نحو دراسة الظاهرة الأدبية الإسرائيلية المكتوبة في الإنجليزية.
وقد تمخّض عن هذا الاهتمام بعض الدراسات المحدودة التي اعتمد بعضها على نصوص شِعرية ونصوص من القصة المكتوبة بالعبريّة، واعتمد بعضها الآخَر على نصوص روائية مكتوبة بالإنجليزية، ولكن هذه الجهود المتناثرة ما زالت دون المستوى الواجب من الاهتمام، خاصةً أنَّ معظم مراكز البحث العلمي المختصة بدراسة إسرائيل في العالَم العربي تُوجِّه جهودها الرئيسية نحو دراسة الأوضاع اليومية الجارية في الحياة الإسرائيلية.
مجلة البيان: مِن وجهة نظركم، ما أهم الخطوط الرئيسية، أوْ ما أبعاد الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني، من خلال دراستكم ومتابعتكم لمسيرة الأدب العبري؟
الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني سائدة في المجتمع الإسرائيلي وسابقة في وجوده على البناء الاجتماعي ذاته، الأمر الذي يعني أنَّ هذا المجتمع قد نشأ وتكوّن تحت مظلة أيديولوجية فلسفية سياسية تحكم وتضبط دينامياته الداخلية… فأجهزة الضبط الأيديولوجي تعمل دائمًا على عزل أو احتواء الاتجاهات الفكرية المُعارِضة والمناقضة، والعمل على حجبها عن الصدور أو هدمها عن طريق النقد؛ إذا أفلتت من قيود النشر.
أيضًا، نجد الأدب العبري، وغير العبري في الكيان الصهيوني، يتعامل في مجموعه مع وقائع وأحداث الصراع مع العرب وملابساته المتطورة على أساس المقولات الصهيونية، ولا ينفصل عنها. كما أنَّ الأدب في هذا المجتمع يعكس في قطاعٍ منه حالات التمرد النفسي والاجتماعي وظواهرها دونما مساس بالسقف الأيديولوجي الصهيوني.
وقد لُوحظ أنَّ المجتمع الصهيوني يعاني -نتيجة لاستمرار الصراع العسكري- من حالة إرهاق نفسي عام، ويعيش تحت ضغط مستمر، وافتقاد الطمأنينة دون أن تؤدي هذه الحالة إلى إعادة النظر في مناظير الرؤية الصهيونية للصراع وأصوله وأشكال حلوله. كما لُوحظ –أيضًا– أنَّ المجتمع الصهيوني قد أفرز في السنوات الأخيرة حركات يسارية محدودة القوة التأثيرية وقليلة العدد، وهي تملك نظرةً راديكالية في معاداة المقولات الصهيونية.
مجلة البيان: مِن خلال خبراتكم المهنيَّة وتجربتكم العلمية، ما هي الشروط المنهجيَّة اللازمة لبحث طبيعة الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني؟
ينبغي للباحثين فَهْم حقيقة الشخصية اليهودية، وسبْر أغوارها، ومعرفة تاريخها ورهاناتها عبر العصور، فهذا الصنف من الغريب مِن أغرب الخلائق، فلا فرق في الشر ومساوئ الأخلاق بين سَلَفهم وخَلَفهم، ولا يطمع طامعٌ في استقامة المعاصرين منهم؛ لأنهم وارثون لتاريخ أسلافهم الملوَّث من مساوئ أفعالهم ومنكرات أقوالهم.
فمن اللافت للنظر حقًّا، والذي لاحظته بعينٍ ثاقبة، أنَّ الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني تستهوي عددًا متزايدًا من المثقفين العرب ومِن طلاب الدراسات العليا بأقسام اللغة العبرية، كما لاحظتُ في نفس الوقت أنَّ عددًا من الدراسات التي تمت في هذا المضمار قد وصل أصحابها إلى موقف خاطئ مِن حيث الانزلاق إلى موقف التسليم بالمفاهيم الصهيونية الواردة في سياق الأعمال الأدبية، والسقوط في المصيدة التي ينصبها قاموس النقد الأدبي الصهيوني، أو مِن حيث الانزلاق إلى موقف المبالغة في تفسير الأعمال الأدبية، خاصةً تلك التي تكشف مضامينها عن نوع من التوتُّر الداخلي في نمط الحياة بالكيان الصهيوني، أو تلك التي تلقي ضوءًا على بعض زوايا التمرد والقلق النفسي أو الفكري في هذه الحياة، الأمر الذي يصل ببعض الباحثين العرب إلى تصور الأديب الصهيوني المعادي على أنه كائن فكري مُعادٍ لأصول الواقع الصهيوني، ووصل إلى القناعات العربية ببطلان هذا الواقع ومعاداته للتاريخ وسعادة الفرد اليهودي.
وإذا كان يمكن تفسير الموقف الأول بضعف الثقافة لدى الباحثين العرب، وتفسير الموقف الثاني على أنه نوع من التفسير بالمرغوب؛ فإنه يمكن تفسير الموقفيْن معًا على أنهما نتيجة لعدم مراعاة الشروط المنهجية الأولية اللازمة لبحث الظاهرة الأدبية في الكيان الصهيوني.
Source link