نور الحب قد انطفأ بينه وبين زوجته ويريد أن يطلقها، ولَمَّا استوضحه عن السبب قال: “إنِّي لا أحبُّها”، فقال عمر: “ويحَكَ، أوَ لَمْ تُبْنَ البيوتُ إلا على الحبِّ؟ فأين الرِّعاية والذمم؟
“إني لا أحبها”؛ هكذا عبَّر الرجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نور الحب قد انطفأ بينه وبين زوجته ويريد أن يطلقها، ولَمَّا استوضحه عن السبب قال: “إنِّي لا أحبُّها”، فقال عمر: “ويحَكَ، أوَ لَمْ تُبْنَ البيوتُ إلا على الحبِّ؟ فأين الرِّعاية والذمم؟”.
كلمات قليلة تدفَّقت من ثَغْرِ الفارق ليس إلى قلب الرجل فحسب، وإنما كانت منهجًا ينير بيوت المسلمين رجالًا ونساءً، علَّمنا بها الفاروق كيف تُبنى البيوت، وكأنه يعطي للأجيال القادمة درسًا في تعلم فن إدارة الحياة الزوجية، وكيف أنه في بداية الزواج يكون كل زوج وزوجة محبًّا للآخر، بينهما لهفة شديدة يريدان بناء أسرة سليمة مملوءة بالسعادة، ولكن كما هو الحال في أي علاقة قد يتسلل الفُتُور إليها، وأحيانًا لا يعرف الزوجين سبيلًا إلى مداواة تلك الحالة؛ فيزداد البعد ويتسرَّب الحب من حياتهما شيئًا فشيئًا.
ولكن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يتبع نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا درسًا أن البيوت تُبنى على التقوى والعشرة بالمعروف، فإن ذَهَبَ الحبُّ، تبقى حسن العشرة.
يقول الله عز وجل: {﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾} [النساء: 19]، هذه الآية الكريمة تقول: عليك بالصبر، فكم من زوج كرِه زوجته، وهدم البيت بسبب تلك المشاعر، ولو أنه تريث قليلًا، وبحث عن صفات وأخلاق زوجته، لارتضى منها غيرَ الذي يكرهه فيها!
فتأمل نهاية الآية جيدًا: {﴿ وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾} [النساء: 19]، ليس خيرًا فقط بل “كثيرًا”، لا تُطِعْ مشاعر الكراهية التي شعرت بها فتفقد أشياء أخرى جميلة، كان مقدَّرًا لك الخير بين طيَّاتها؛ لعلها زوجه صالحة تعينك على أمور دينك ودنياك، فعَلَام التفريط فيها؟
نصائح الفاروق كانت لكل زوجة تبحث عن سراب المثالية، فليس كل البيوت تُبنى على الحب، فإذا أبغضتِ خُلُقًا من زوجك، فابحثي عن خُلُقٍ آخر، قد تجدين نفسكِ فجأة تبغضينه، قد تجدين بعد الزواج عالمًا آخرَ غيرَ الذي رسمتِهِ في خيالكِ، قد تجدين زوجكِ عقلانيًّا وأنتِ عاطفية، فالعقلاني لا يحب الإفصاح عن مشاعره، فتكونان مثل الأقطاب المتنافرة، كل هذا ليس معناه أن زوجكِ لا يحبكِ، أو أنه سبب لهدم البيت وطلب الطلاق، وتشريد الأبناء، وإنما قد تجدين صفاته وأخلاقه طيبة، قد يكون حَسَنَ الْمَعْشَرِ، أو أبًا حنونًا، أو أنه يعينكِ على أمور دينكِ، فلا تُهَرْولي وراء سراب المثالية.
وهناك أزواج وزوجات يسترِقون النظر إلى حياة غيرهم ممن حولهم، قد تجدين زوجًا يغدِق على زوجته بكلمات الحب، تظهر حياتهم كأنها بلا مشاكل، ولكن ما خَفِيَ كان أعظم؛ فقد يكون زوجها سيئ الخُلُق، أو تاركًا للصلاة، أو يعاملها في الخفاء بقسوة، أو يكون بخيلًا في الإنفاق عليها، أو بخيلًا في معاملتها بلطف ولين، فاحمَدي الله على زوجكِ، وارتضي منه ما هو حسن وطيب.
قد تجد صديقًا يمدح في أهل بيته، وقد تدخل بيتًا تشعر فيه بالدفء، تلك هي الصورة الظاهرة، ولكن ما خفي كان أعظم.
ولأن الحب لا يكتمل إلا بالوفاء والعشرة الطيبة، فقليل من يجمع بينهما، فإن انطفأت شعلة الحب، أنيروا حياتكم بحسن العشرة، فليس كل البيوت تُبنى على الحب، رحِمَك الله يا عمر، أحسنت قولًا، وأرحت قلوبًا، وحَميتَ بيوتًا من الهدم بتلك المقولة العظيمة.
وإذا كان الإسلام أباح الكذب في التعبير عن المشاعر حتى تستمر الحياة بين كل زوج وزوجة، أليس هذا أدعى أن نتغاضى عن بعض الصفات التي لا نريدها في شريك حياتنا؟ لقد جاء في الأثر عنه رضي الله عنه في رواية أخرى أن امرأة سألها زوجها: هل تبغضه؟ وناشدها بالله أن تصدُقَه، فقالت له: أما إنك ناشدتني الله، فلا أحبك، فهمَّ الزوج بطلاقها، وشكاها إلى عمر بن الخطاب، فأرسل عمر في طلبها، وأنَّبها على ما بدر منها لزوجها، فقالت له: يا أمير المؤمنين أتريد مني أن أكذب عليه؟ فقال لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “فَلْتَكذب إحداكن ولتتجمل، فليس كل البيوت تُبنى على الحب، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام”، ولأن الحقيقة تكسِر لبَّ القلب؛ فقد أباح الشرع الكذب للزوجة والتجمل في القول لزوجها حفاظًا على الحياة الزوجية، والمراد إظهار الود والمحبة واللين في القول؛ مما يساعد على استقرار العلاقة الزوجية، ومن المعلوم كما ورد في الحديث عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: «لم أسمَعْ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يرخَّصُ في شيءٍ مِمَّا يقولُ النَّاسُ: إنَّه كذِبٌ، إلَّا في ثلاثٍ: الرَّجلُ يُصلِحُ بينَ النَّاسِ، والرَّجُلُ يكذِبُ لامرأتِهِ، والكذِبُ في الحَربِ» [صحيح الجامع].
بعض الحب يُصاغ ويتجلى في كلمة أو اثنتين بطريقة عذبة، فليس الحب شعارًا وكلماتٍ مُزيَّنة بلا روح، الحب فيض ومعاملات متعددة الأقدار، فأحيانًا تُبنى الحياة الزوجية بطريقة خاصة، طريقة غير اعتيادية تشتمل على فن التعامل؛ فها هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا مرة أخرى إلى فن التعامل مع الزوجة، وهو بداخل بيته ينادي زوجته أم كلثوم بنت السيدة فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول لها: “يا بنت الأكرمين”؛ فهلَّا ناديتَ زوجتك بأحب الأسماء والألقاب إلى قلبها، أم تخجل أن تُظهر لها شيئًا بسيطًا من المعاملة الطيبة؟
ليس عمر بن الخطاب فقط هو من كان ينادي زوجته هكذا، وإنما عمر هو صحابي سار على خُطى الحبيب صلى الله عليه وسلم، أليس رسولنا الكريم كان ينادي السيدة عائشة رضي الله عنها بـ”عائش”؟
فالحياة كاحلة، وإذا لم نعالجها بأبسط الأشياء من حسن العشرة، والمعاملة الحسنة، والكلمة الطيبة اللينة، سيصيبنا داء الفتور، فتتفتت البيوت دون أن نشعر.
الآن باتت أنفسنا تفهم معاني أخرى للحب، بعد أن كاد الفتور يغزو القلوب، فليس الحب رموزًا يصعب فكُّها، الحب هو فن التعامل، فإذا ما أعدتَ صياغته، نِلْتَ عبقرية الحب وحسن المعاشرة معًا.
فيا ليت كل الأزواج تتعلم أن ليس كل البيوت تُبنى على الحب.
بقلم/ فاطمة الأمير
Source link